«للحياة مفارقاتها.. وللموت أيضا».. تحت مظلة هذه العبارة ودعت مصر اليوم اثنين من رجالاتها المخضرمين، الأول الكاتب الصحافي أحمد رجب، أحد نجوم عالم الصحافة والأدب الساخر، والثاني الدكتور عاطف عبيد رئيس وزراء مصر الأسبق، أحد نجوم عالم إدارة الأعمال وشؤون الدولة. ومثلما تباينت أمور الحياة بينهما، تباينت أيضا لحظة الوداع، بل اتسعت الهوة قليلا في مسافة الأسى والحزن على رحيلهما، وهما يلحقان بفقيد آخر رحل قبل نحو شهر، هو رسام الكاريكاتير الشهير مصطفى حسين، ليشكل الثلاثة، ولسنوات عديدة أضلاع مثلث، اختلط فيه النقد الاجتماعي والسياسي بروح السخرية والفكاهة التي يتمتع بها المصريون.
وشيعت جنازة عاطف عبيد من مسجد التقوى بحي الدقي (غرب القاهرة) أمس، فيما تشيع جنازة رجب اليوم من دار أخبار اليوم بحسب وصيته. فبعد صراع مع المرض غيب الموت أمس الكاتب الصحافي المرموق عن عمر يناهز 86 عاما، ونعته مؤسسة «أخبار اليوم» التي ظل يعمل بها حتى آخر أيامه، عبر موقعها الإلكتروني، واصفة إياه بأنه «أشهر الكتاب الساخرين في تاريخ الصحافة المصرية والعربية». ولد أحمد رجب بمنطقة حي الرمل الشهير بالإسكندرية، في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1928، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية في عام 1951، ثم عمل محررا بـ«دار أخبار اليوم» بالإسكندرية، وتزوج عام 1961 ولم ينجب من زوجته التي كان يحبها للغاية، حيث ظهر هذا جليا في إهداءاته الشجية لها التي تصدرت أولى صفحات أغلب كتبه.
وتوفي عاطف عبيد عن عمر يناهز 82 عاما وبعد صراع مع أمراض الشيخوخة. وكان عبيد، قد شغل منصب رئيس وزراء مصر لمدة 5 سنوات في الفترة من 1999 وحتى 2004، إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وقبلها تقلد العديد من المناصب، في وزارتي الدكتور عاطف صدقي، والدكتور كمال الجنزوري، من بينها وزير قطاع الأعمال العام، ووزير التنمية الإدارية وشؤون الدولة والبيئة، ووزير التخطيط.
وعبيد من مواليد 14 أبريل (نيسان) 1932 بمدينة طنطا محافظة الغربية (بوسط دلتا مصر)، وحصل على بكالوريوس تجارة من جامعة القاهرة 1952، ثم حصل على الماجستير 1956، والدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة إلينوي الأميركية 1962، وعمل أستاذا لإدارة الأعمال بجامعة القاهرة 1962-1984، وهو متزوج وله ولد وبنت، وزوجته ابنة وكيل سابق لجماعة الإخوان المسلمين.
اشتهر أحمد رجب بكتاباته الساخرة، وظل يقدم لقرائه عموده الشهير «1/2 كلمة» في صحيفة الأخبار، على مدى نحو 50 عامًا، ورغم أن العمود كان لا يتجاوز بضعة أسطر، لكنه كان بمثابة بسمة تجدد نفسها كل يوم على شفاه قراء الصحيفة، لما يتضمنه من نقد مغلف بسخرية لاذعة لشتى الأوضاع في مصر والعالم أيضا.
وطيلة عمله الصحافي استطاع رجب أن يحفر اسمه بحب واحترام في قلوب قرائه، وأن يكون أحد النظار المقتدرين في مدرسة فن السخرية المصري، التي لا تقف عند حدود الإفيهات، ولا تهدف لتسلية القارئ أو نفاقه، لكنها تقدم نقدا سياسيا واجتماعيا بنّاء، على غرار رواد النقد الاجتماعي في مصر من أمثال: عبد الله النديم، وبيرم التونسي، ومحمد عفيفي، حيث يوظف الكاتب أفكاره وثقافته، ويمزجهما برأي عام ليصل إلى أقصى درجات النقد، ، تجعله حيا في الذاكرة الجماعية، وقادرا على أن يجدد نفسه في كل وقت.
وبصحبة صديقه ورفيق دربه رسام الكاريكاتير الشهير الفنان مصطفى حسين، اخترع أحمد رجب عددا من الشخصيات الكاريكاتيرية، استطاع من خلالها أن يجسدا الكثير من النماذج السلبية في المجتمع، التي لا تزال تعيش حتى الآن، فيضرب بها الناس المثل إذا أرادوا التعبير عن أوضاع مقلوبة؛ المنافق بشخصية «عباس العرسة» في الحكومة والسياسة، و«عبد الروتين» للدلالة على سطوة البيروقراطية، و«عبده مشتاق» لانتظار المنصب بأي ثمن.. أيضا ديالوجات «عزيز بيه» المليونير المنعزل مع «الكحيت» المدعي، وشخصية «كمبورة» السياسي الفاسد، و«جنجح» البرلماني الجاهل الغبي، و«عقدة» واضع الامتحانات وقاهر التلاميذ. و«فهامة» المدعي للعبقرية، و«خاميس فجلة»، مخرج أفلام المقاولات.
أحب أحمد رجب عمله وكان الإخلاص والحب، هما الركيزة الأساسية في نجاحه، وعلى صخرتهما لم يتخل عن نقده الاجتماعي البناء حتى في كتبه، ومن أشهرها «صور مقلوبة» و«الحب وسنينه» و«ضربة في قلبك»، و«نهارك سعيد»، و«كلام فارغ»، و«فوزية البرجوازية»، الذي تحول إلى فيلم تلفزيوني شهير، إضافة لممارسته الكتابة للأطفال، حيث حول كتاب «كليلة ودمنة» إلى قصص للأطفال، ونشرها في مجلة الأولاد، وبقيت دائما بداخله رغبة أن يكون كاتبا للأطفال.
وعلى الضفة الأخرى، قدم عاطف عبيد إلى المحكمة في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، في قضايا فساد ورشوة وإهدار المال العام، وقضت محكمة جنايات الجيزة بمعاقبته، هو ووزير الزارعة الأسبق يوسف والي، بالحبس المشدد لمدة 10 سنوات، لاتهامهم بتسهيل استيلاء رجل الأعمال الهارب حسين سالم ونجله على أرض محمية «جزيرة البياضية» بمحافظة الأقصر، بسعر زهيد، مما تسبب في إهدار 700 مليون جنيه من المال العام، لكن محكمة النقض، ألغت الحكم وأعادت نظر القضية من جديد، وأفرج عنه على ذمتها إلى أن وافته المنية.
اشتهر عبيد خلال رئاسته للحكومة المصرية بأنه مهندس سياسة «الخصخصة» التي أنهت دور القطاع العام، وأدت - كما يقول خبراء - اقتصاديون - لانهيار الطبقة الوسطى عماد المجتمع، في مقابل صعود طبقة رجال الأعمال والقطاع الخاص، وهيمنتهم على دفة الاقتصاد، وتدهور أحوال الصناعة والزراعة في مصر.
هذا التدهور الذي لحق بالمجتمع إبان تولي عبيد رئاسة الحكومة في مصر لم ينج من نقد وسخرية أحمد رجب، فابتكر هو وصديقة رسام الكاريكاتير مصطفى حسين واحدة من أهم شخصياتهما الساخرة والأكثر جاذبية للقراء تحت اسم «فلاح كفر الهنادوة»، ليجسد بروح ساخرة أوجاع المواطن المصري الذي يخاطب رئيس الوزراء عاطف عبيد الذي كان يناديه بـ«البيه عاطف» ويحكي له عن مشاكل الفلاحين بلسانهم، لكن دون جدوى من رئيس الوزراء، الذي يعمل «ودنا من طين وأخرى من عجين» بحسب الأمثال الشعبية المصرية.. وذكر مقربون آنذاك من عاطف عبيد أنه ضاق ذرعا بهذه السخرية، فشكا للرئيس مبارك، الذي وجه بالتخفيف من حدة هذا النقد اللاذع.
كما كان خلافه مع رفيق عمره مصطفى حسين علامة مميزة في تاريخه، حيث انقطعا عن تقديم أفكارهما معا لمدة 5 سنوات، والتوقف عن تقديم أفكاره لرسم فلاح كفر الهنادوة ومقال «الفهامة» في الصفحة الأخيرة، أثناء تولي ممتاز القط رئاسة تحرير «أخبار اليوم».
وقع الخلاف عندما أرسل أحمد رجب تعليق كاريكاتير «فلاح كفر الهنادوة» متضمنا حديثا بين الفلاح والرئيس الأسبق، محمد حسني مبارك، فوجئ بعدها رجب ولأول مرة في تاريخ كتابته في «أخبار اليوم» بعدة اتصالات هاتفية من المسؤولين بالجريدة، يخبرونه أن هناك خطأ في التعليق حيث ورد اسم «جرجس أفندي» في عبارة، إلا أنه أكد عدم وجود أي خطأ، أعقبه اتصال من القط طلب فيه حذف هذه العبارة.
وكانت هذه المرة الأولى التي يتدخل فيها أحد أيا كان فيما يكتبه رجب الذي رفض أي تعديل، حتى بعدما أوضح له رئيس التحرير أن الأمر ينطوي على فهم يضر بالوحدة الوطنية، أجابه رجب: «انت هتعلمني الوعي السياسي وازاي أحافظ على الوحدة الوطنية؟!».. ثم أغلق السماعة، وحذفت العبارة دون موافقته، الأمر الذي دفع أحمد رجب إلى الاعتذار عن عدم الكتابة في العدد الذي تلاه.
وبرى أدباء ونقاد أنه رغم قصر الفقرات، التي كتبها رجب وتميز بها في عرض آرائه، فإن الكتابة عنه تحتاج إلى كتب عدة لعرض أفكاره، التي يفرق في واحدة منها بين النكتة والسخرية، لذلك كان يقول دائما: «النكتة ضحكة أما السخرية فابتسامة ملفوفة بالحزن».
وعلى عكس عبيد الذي عشق لغة المال والأرقام والعمل بالبنوك منذ صباه، كره رجب هذه اللغة، وأحب الموسيقى، ويحكي في مذكراته، التي نشرها محمد توفيق في كتابه «ضحكة مصر»: «تعلمت في مدرسة رياض باشا الابتدائية، وكنت أحب حصة الموسيقى وأكره علم الحساب وبسببه قضيت طفولة سعيدة جدًا كلها ضرب في ضرب. وعندما كان المدرس الخصوصي يعلن أنني توصلت إلى حل مسألة جبر، كانت أمي تطلق الزغاريد وتوزع الشربات على الجيران».
ومن فرط عشقه للموسيقى، قرر رجب الالتحاق بمعهد «جيوفاني» لتعلم آلة الكمان، التي يحبها، وبعد الدرس الرابع اشترط عليه الخواجة جيوفاني أن يشتري كمنجة إذا أراد الاستمرار في دروسه في المعهد. ودخل رجب في اتفاق مع أبيه من أجل اقتناء الكمنجة، كاشفًا تفاصيله بقوله: «اتفقت مع والدي على أنني إذا نجحت في الجبر آخر السنة فسوف تكون الكمنجة هدية النجاح، ورحت أسهر الليالي في طلب المعالي، وطلب الكمنجة، حتى أصبحت نحيلا شاحبا، كل شيء، في جسمي صار رفيعًا إلا مخي، فقد ظل تخينا لا يستطيع الجبر اقتحامه، فضاعفت الجهد لأحقق، في النهاية، تفوقا رائعا إذ تمكنت من الحصول على أعلى درجة للنجاح في الجبر أيامها: 4 على 20».
لقد رحل أحمد رجب عن دنيانا، لكنه ترك كمنجته الطفلة، وتراثه الساخر، شمعة تضيء الطريق لأجيال عديدة في الصحافة والحياة.
رحيل الساخر أحمد رجب وعاطف عبيد رئيس وزراء مصر الأسبق أكثر من اكتوى بناره
فرقتهما السياسة وطواهما الموت في عباءته
عاطف عبيد - أحمد رجب
رحيل الساخر أحمد رجب وعاطف عبيد رئيس وزراء مصر الأسبق أكثر من اكتوى بناره
عاطف عبيد - أحمد رجب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

