هناك خلط كبير في شأن الكاميرا المحمولة. تقفز. تجري. تدور. تهتز. لكن إذا لم يكن هناك مخرج يمتلك الحس السينمائي الصحيح والمعرفة الكاملة بما يريد تحقيقه فإن كل ذلك القفز والجري والدوران والاهتزاز لا يتعدى هذه المواصفات على الإطلاق.
هذا واضح بين فيلمين تم عرضهما هنا في الدورة الحالية من مهرجان فينسيا، هما التركي «سيفاس» لكعن مجديشي، والياباني «نوبي: حرائق في السهول» لشينيا تسوكاموتو.
الكاميرا تلهث دوما وراء بطلها الصغير في فيلم مجديشي، مخرج أفلام تسجيلية، لكنه يجرب نفسه في فيلم روائي لأول مرة. إنها تتحرك حتى ولو لم يتحرك هو، وحين يقدم على الحركة تعتقد، تبعا لأسلوب صاحبها، أن من واجبها الآن أن تتبع خطواته. في بعض الأحيان تسبقه وتخطيء حين يمر أمام انحراف ما فتضيعه ولو للحظات. في أحيان أخرى هي مثل رجل يقتفي أثر رجل آخر ليضايقه. الصبي نفسه لا يبدو مدركا لماذا هو في هذا الفيلم وما هو مطلوب منه تحديدا. يفعل ما يؤمر.
«سيفاس» تركي بمساهمة من «مؤسسة الدوحة للأفلام» هو اسم كلب معين يقال إن بلدة سيفاس الأناضولية هي التي هجنته. هناك مقدمة تتضمن تعريفنا ببطل الفيلم أصلان (دوغان إيشي) الذي يتعرض دوما إلى مضايقات أترابه في المدرسة وخارجها. بعد ذلك هو في صميم معركة إثبات وجوده عندما يلحظ أن كلبا شرسا ترك ليموت بعد معركة عض دموية مع كلب آخر. أصلان يتبنى الكلب ونشهد مزيدا من معارك الكلاب وبعض المشاهد المؤذية الأخرى (حصان يحمل آثار تعذيبه مثلا). كل ذلك أكثر مما يستطيع حس مرهف أن يتحمله. العنف هنا موفر باسم النقد الواقعي، لكن الفيلم كان يحتاج إلى أن ينتقد فنيا وليس واقعيا. أن يغير من منوال تقديم العنف بعنف مماثل.
طبعا بعض الفيلم يحاول القول إن أصلان اندفع في تبنيه للكلب وتوجيهه لقتال الكلاب الأخرى بسبب عزوف رفاقه عن الرغبة في صداقته وهو يريد التأثير على الفتاة الصغيرة عيشة (إزغي إرغن) توددا لها. لكن الفيلم على هذا المنوال وحده لا ينفع وعندما يقرر والدا أصلان إشراك الكلب في مباراة غير قانونية بين الكلاب تدرك ما ستتلقفه من مشاهد، لكنك لن تدرك ما هي الغاية من وراء ذلك كله.
أما «نوبي: حرائق في السهل» فهو مختلف. صحيح أنه عنيف لكن عنفه موجه لغاية إنسانية مثلى. مأخوذ في الأساس عن رواية الكاتب الياباني المعادي للحرب شوهاي أوكا التي نشرت سنة 1951 والتي نقلها المخرج الجدير كون إتشيكاوا إلى فيلم أفضل سنة 1959. الفوارق هي فنية بالتأكيد، لكن ذلك يشمل نظرة كل مخرج إلى الرواية التي تتحدث عن جندي مصاب بالسل كان يحارب على الجبهة الفلبينية عندما أصيب بالمرض ثم فقد فرقته والتحق بمن بقي من فرقة أخرى تحاول الهرب إلى نقطة آمنة ليصار نقلها إلى اليابان.
في الرواية كما في الفيلم الأول التأكيد على فجاعة الحرب وأهوالها من باب نقدها. في الفيلم الجديد، هذه الأهوال موجودة وبل أكثر من الفيلم السابق، لكن وجهة نظر المخرج شينيا تسوكاموتو هي أن العنف والضراوة في الإصابة والنزيف والبتر والجثث التي تتقطع أمام العين هي السبيل ذاته. لكن ما يحصده المشاهد من هذه المشاهد يضع فاصلا بينه وبين الرسالة الحقيقية المتوخاة.
يبدأ الفيلم برحلة مكوكية لبطل الفيلم (المخرج نفسه في الدور) ما بين موقع فرقته والعيادة على بعد بضع ساعات من الموقع الأول. في المشهد الأول يتلقى صفعة من يد آمره العسكري الذي يطلب منه الذهاب إلى العيادة العسكرية للتعافي من مرض السل. حين وصوله تطالعه الأبدان الجريحة التي تتألم والطبيب الذي يقول له إنه لا يملك الوقت لمداواته فهو غير جريح. يضطر تامورا للعودة إلى فرقته ليتلقى صفعة أقوى ويرسل من جديد لكن الطبيب يرفض مرة أخرى، وتامورا يعود مجددا. هذه المرة الصفعة ترديه أرضا وحين يقف على قدميه يخبره آمره بالعودة من حيث جاءوا «إذا ما رفض الطبيب مداواتك، أقتل نفسك».
تامورا لن يعود ولن يقتل نفسه رغم أن الطبيب لن يسعفه. بل سيحاول الهرب من جحيم مستعر. يلتحق بجنود فرقة أخرى وهذه تتعرض لهجوم كبير من قبل المليشيات الفلبينية في تلك الأدغال الكثيفة.
المواقع الطبيعية في الفيلم مهمة ولو أن الأحداث تقع في وديان وجبال وليس في سهول كما ينص العنوان. تلتقط المشاهد كاميرا حاضرة وقوية (من ساتوشي هاياشي والمخرج تسوكاموتو من حين لآخر). محمولة على اليد طوال الوقت لكنك لن تشعر بثقلها عليك بل ستندمج تماما مع العرض الماثل بواقعياته وجوانبه المختلفة.
البحث عن الطعام يمتد كخيط لا ينقطع منذ مطلع الفيلم. الجميع يتحدث عن البطاطا المحلية يأكلها نية أو مطبوخة (إذا ما وجد سبيلا إلى إشعال نار) وحين ينفذ هذا الطعام وأكل أوراق الشجر لا ينفع يستدير بعض الناجين لأكل «السعادين»، لكن السعادين المقصودة ليست الحيوانات المعروفة بهذا الاسم بل من يمكن قنصه من الأهالي. وفي النهاية يستدير الباقون على قيد الحياة ليحاول كل منهم خداع الآخر لقتله وأكله. لن نشاهد الأكل لكن وحشية الموقف ماثلة مثل وحشية الموت فيما هو أشبه بجهنم على الأرض.
إما في «حمامة على غصن تتأمل في الوجود» فتجد استخدام الكاميرا مختلفا جدا وإلى حد النقيض في رائعة السويدي روي أندرسون الذي يحقق أعماله في فنلندا. الكاميرا (بيد استيفان بورباس وغيرغلي بالوس) ليست للتحريك. لا تتحرك مطلقا في الحقيقة وذلك تيمنا بأسلوب عمل المخرج أندرسون.
مشاهده من لقطة واحدة. الكاميرا تنتصب غالبا في وسط المكان (المكان كثيرا ما هو داخلي) وبينها وبين الشخص أو الأشخاص مسافة واضحة تخالها ذات المسافة بين المخرج وشخصياته وبين الشخصيات بعضها بين بعض وبل بينها وبين مفهومها للحياة. الجو الذي يخلقه كل هذا هو جو بارد ورمادي فاتح كما ألوان الصورة.
إنه الجزء الثالث من ثلاثية المخرج الذي قدم قبل سنوات «أنتم الأحياء» و«أغاني من الطابق الثاني» تم عرضهما في «كان» وهو يبدأ (بعد مقدمة لرجل يعاين حمامة محنطة في أحد المعارض) بثلاث «إسكتشات» كوميدية قصيرة عن الموت وتحت عنوان «لقاءات قريبة مع الموت»: رجل بدين يحاول في داخل منزله فتح زجاجة نبيذ بينما زوجته تستمع إلى الموسيقى وتغني في المطبخ وراءه من دون أن تراه. يحاول فتح الزجاجة مرة تلو المرة وفجأة يتعرض لأزمة قلبية ويسقط ميتا بينما زوجته لا تزال غير مدركة بما وقع.
المشهد الثاني هو لامرأة مسنة فوق سريرها في المستشفى. يدخل أحد أقاربها وينظر إلى الحقيبة التي تصر على الإمساك بها. يسأل قريبه الآخر لماذا ما زالت ممسكة بالحقيبة فيقول له إنها تؤمن بأن حقيبتها ستدخل معها الجنة ثم هاهما يحاولان انتزاع الحقيبة. يتحرك السرير فوق دواليبه في مشهد سوريالي موجع ومضحك.
الثالث لا يقل وجعا، وإن قل ضحكا: الكاميرا تفتح على رجل مسجى ميتا على أرض مطعم. كان دفع الحساب ثم هوى. فريق المسعفين فوقه. لا فائدة. لقد مات. عاملة الصندوق همها التأكيد أنه ليس من سياسة المطعم إعادة المال في أي ظرف، ثم تعرض الطعام على من يريد من الزبائن. يتقدم رجل ويأخذ البيرة فقط.
من هذه الإسكتشات، التي تستشف منها منوال الكوميدي الفرنسي الراحل جاك تاتي، ندلف إلى الحكاية الرئيسة في الفيلم، أو إلى الفيلم بلا حكاية واحدة لأنه مبني على تعدد ملاحظة بضع مواقف في حكايات متجزئة كل منها لا يتجاوز السطر الواحد أو السطرين لو تخيلناه مكتوبا على الورق.
في اللب بائعان متجولان نتابعهما (بالتداخل مع قصص وشخصيات أخرى) وهما يحاولان بيع ثلاثة إكسسوارات في حقيبة بنية: يستخدمان الوصف نفسه وطريقة البيع نفسها ولا يحققان شيئا: نابان يمكن تركيبهما لبث الرعب، لعبة تطلق صوتا لضحك ناشر وقناع رأس ووجه مخيف. مثل الشخصيات الأخرى جميعها هاتان الشخصيتان وحيدتان في فخ الحياة. الفيلم بأسره هو عن سوء فهم الحياة وتقديرها. على الهاتف تردد بعض الشخصيات «أنا سعيد أنك بخير». هذا التواصل يوجز معاناة بشر لم يعد لديهم الوقت لتفعيل العاطفة الكامنة في الداخل وحتى ولو كانوا صادقين في أنهم سعداء لأن الطرف الآخر بخير، فإنها نوع من السعادة التي تخفي حزنا كون المتحدث يعلم أنه ليس بخير مثل الآخر.
الكاميرا كونها لا تتحرك تمنح المشهد كل ما يحتاجه من عمق الدلالة. هناك «فوكاس عميق» بحيث إن أبعد الشخصيات عن الكاميرا تبقى واضحة، لكنه يتجانس والعمق الذي يريد المخرج بلوغه في وصف حالات إنسانية متعبة تتألف من شخصيات كل منها شخصية وحيدة حتى العظم.
العنوان مشار إليه بصوت اليمامة من حين لآخر (وليس صوت الحمامة كما في العنوان). بعض الناس ينظر إلى مصدر الصوت. لا نرى نحن أي طائر، لكننا ندرك أن هؤلاء فقدوا الصلة بالعالم. إنهم يتطلعون إلى اليمامة لكنهم لا يرونها في الوقت ذاته.
في فينيسيا: رجال طحنتهم الحرب.. وشخصيات تتطلع ولا ترى.. وعنف بعنف مماثل
مع الياباني «نوبي: حرائق في السهول» والسويدي «حمامة على غصن» والتركي «سيفاس»
في فينيسيا: رجال طحنتهم الحرب.. وشخصيات تتطلع ولا ترى.. وعنف بعنف مماثل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة