جاء افتتاح الدورة الـ71 أمس واعدا بدورة رائعة مع «بيردمان». الفيلم جاء مطعما بالقيم الفنية والدراماتيكية وثريا في طروحاته ومشوقا ومسرودا بحكمة الفنان الذي وقف وراءه أليخاندرو كونزاليز إناريتو. هو أفضل أفلامه بلا ريب. أفضل من «21 غرام» ومن «بابل» ومن فيلمه الأخير «بيوتيفول» الذي أنجزه قبل 4 سنوات. صحيح أن كل واحد من هذه الأفلام كان إنجازا فنيا ذا حجم مهم، لكن «بيردمان» هو شغل مبدع آلت إليه الحرية التي يتوق إليها كل فنان حقيقي ونادرا ما يتمتع بها خصوصا إذا ما كان الفيلم من إنتاج هوليوودي.
يقدم لنا الفيلم بطله ريغان تومسون وهو في غرفته الخاصة في أحد مسارح برودواي، نيويورك. إنه يجلس مرتفعا عن الأرض يمارس اليوغا يقتنص بعد أوقات الراحة. عندما ينتهي يبدأ صوته الداخلي (المسموع بصوت ممثل آخر) يتحدث إليه. يخبره بما يستطيع وما لا يستطيع أن يفعله ليحافظ على كيانه. يحاول ريغان طرد هذا الصوت، لكنه لن يستطيع. سيعود إليه صوتا فقط أكثر من مرة ثم نراه جاثما أمامه صورة أيضا. فهو «الرجل الطائر»، تلك الشخصية التي لعبها ريغان قبل سنوات عندما كان نجما هوليووديا مشهورا، من قبل أن تذبل شهرته ويحاول الآن بناء ما يمكن من مجد على أهدابها وما تبقى منها.
التحدي موزع على أكثر من شأن. المسرحية على بعد يومين من الافتتاح والبحث عن ممثل جديد يشارك ريغان البطولة بعدما أصيب الممثل السابق الذي تم اختياره بحادث ما زال جاريا. حين يأتي مدير الأعمال بالممثل البديل مايك (إدوارد نورتون) فإن ريغان لا يطيقه ولا ينجح في التعامل معه والعكس صحيح. الكثير من المناوشات والمتاعب والأزمات التي تنتشر مثل الكهرباء بين الجميع. بين ريغان ومساعديه وريغان وممثليه وريغان وابنته وزوجته السابقة. والأهم دوما ومن دون أن يخفق الفيلم في التأكيد والتمييز، بين ريغان وبين نفسه فهو أبعد من أن يثق من خطواته الجديدة. لا من ناحية احتمال نجاحها جماهيريا (الجميع يقول له إنه خاسر ينتمي إلى جيل انتهى، بمن فيهم الصوت الذي فيه) ولا من ناحية نجاحه هو في التمثيل.
مايكل كيتون هو من يؤدي شخصية ريغان تومسون. مثله أيضا كان مطروحا كنجم «سوبرماني» عندما لعب بطولة «باتمان» الأول (1989) والثاني (1992) قبل أن يستقيل من مهمة إنقاذ العالم وينصرف للبحث عن أدوار مجزية. للأسف، ما إن ترك «باتمان» وراءه حتى انضمرت من حوله فرص النجاح ذاته. لم ينقطع عن التمثيل، لكن ما هو آخر فيلم شاهدته له؟
مثل شخصيته إذا، يصل كيتون الآن إلى مفترق طرق يعبر عنه هذا الفيلم الذي يطرح، فوق كل ما سبق، حقيقة الأزمة التي يمر بها الممثل الموهوب مثله: الاستمرار في لعب الأدوار في الأفلام التي يفضلها الجمهور، أو الانزواء بعيدا ومشاهدة شهرته وهي تتلاشى. كيتون يعبر عن الموقف كونه يعايشه، اعترف بذلك أو لم يعترف، لكنه يعبر عنه أيضا كونه ممثلا جيدا يضع هنا تلوينا داكنا لشخصية رجل كل ما يريده هو أن يحب (كما تقول بعض أسطر دوره في المسرحية).
المخرج إناريتو يصور هذا الموضوع بأسلوب برغماني من دون برغمان ذاته: إنه مكان مغلق في معظم الوقت (تخرج الكاميرا إلى الشارع لأول مرة بعد فصل يقع داخل المسرح مدته 34 دقيقة). الكاميرا تتحرك برشاقة وانسياب في أزقة المسرح وردهاته. تنفعل في طرفة عين ومع كل فعل يقع أمامها. إناريتو لا يحاول أن يتغلب على حدود المكان، بل يبتدع الخروج عنه ومنح الزمن الذي تقع فيه أحداث الفيلم (48 ساعة) شكلا مطاطيا يدمج الماضي والحاضر ولديه الوقت ليدلف إلى الكثير من الحكايات الجوانية. كل مشاهد الفيلم، بلا استثناء واحد، مشغولة بعد دراسة تنفيذ دقيقة. المشهد المحتوي على شخصية رجل واحد هو بالنجاح ذاته لمشهد يحتوي على مئات (المشهد الرائع لبطل الفيلم وقد اضطر للسير في الشارع عاريا إلا من ملابسه الداخلية والفوضى التي أثارها). هناك حيوية في تصوير الفيلم وتركيبه لا يعتمد على حالة مونتاجية متكررة. لا تدخل في المشهد الواحد إلا في أقل قدر ممكن، لكن التوليف يستنبط من الإخراج منواله ولا ينفصل عن رغبة هذا المخرج في تشكيل الفيلم على المنحى الذي أراده في باله.
حين يأتي الأمر إلى التمثيل، فإنه لا أحد يخفق. كيتون ونورتون متوازيان وبعض أفضل ما في الفيلم المشاهد الأولى التي تجمعهما، لكن كذلك الحال مع ناوومي ووتس وإيما ستون وآمي رايان وزاك غاليفيانكيس. هذا هو النوع من التمثيل الذي سيقاس به كل جهد لاحق قبل منح الجائزة في هذا المجال لأي ممثل. في صلبه يتعامل «بيردمان» مع ما يتعامل معه الناقد والمهرجان وكل فرد في هوليوود: هل يستطيع الفن أن يقاوم التجارة أم أن البزنس يغلبه لأن كليهما لا يستطيعان السير معا؟
في أولويات هذا المهرجان، ومهرجانات كثيرة حول العالم، الإنفاق بسخاء على جذب الأفلام التي تعرض عرضا عالميا أولا، وعلى جلب النجوم الكبار والمخرجين المشهود لهم بالصيت الحسن. لكن في حين أن مهرجانا مثل «كان» و«تورنتو» ينجحان في الزج بالنوعية وبالنجومية في أتون واحد، يختط فينيسيا لنفسه منوالا يستطيع عبره القول إنه المهرجان الذي يناصر الفن ويدعمه. لم يكن دوما كذلك فهو ذاته المهرجان الذي رفض، قبل نحو 5 سنوات، عرض فيلم للمخرج اليوناني العريق ثيو أنجيلوبولوس لأن الممثلين المشتركين في الفيلم كانوا مشغولين في تصوير أفلام أخرى ولم يتمكنوا من حضور المهرجان. آنذاك، تصرف المهرجان بنزق غريب واعتذر من المخرج اليوناني الراحل.
لكن في معظم الأوقات وفي شتى الظروف بقي «فينسيا» و«برلين» قادرين على احتواء شيء من التعادل، وإذا ما اضطرب الميزان فإنه يضطرب لصالح الفن وليس التجارة، وهو ما يحدث هذا العام، إذ إن العدد الأكبر من نجوم السينما الأميركية متجهون إلى تورنتو شأنهم هذه المرة شأنهم في كل مرة سابقة.
«بيردمان» يفتح صفحة من صفحات حديثه حول العلاقة بين الناقد والمبدع. يتساءل الفيلم، على لسان بطله، عن ماهية الجهد الكبير الذي يبذله الناقد في عمله: إنه يكتب ما تم إنجازه فعلا ويستعين بالكلمات الكبيرة، لكنه لم يصرف لا الوقت ولا الجهد ولا المال في سبيل العمل، بل جاء ليهدمه لأسباب عادة، في نظر الفيلم، ما تكون واهية.
هنا يمتزج، مرة أخرى، واقع الفيلم مع واقع الحياة ويتبدى كما لو أن فينيسيا أراد باختياره هذا الفيلم ليفتتح المسابقة الرسمية وضع كل مسارات السينما وعلاقات من فيها (مهرجانات وأفلام ونقاد وجمهور) على طاولة النقاش. وهو اختار الفيلم الرائع لمثل هذا الطرح.
«بيردمان» يطلق مهرجان فينيسيا.. {بين نجاح زائل ومستقبل قلق}
الفيلم يفتح صفحة حديثة حول العلاقة بين الناقد والمبدع
«بيردمان» يطلق مهرجان فينيسيا.. {بين نجاح زائل ومستقبل قلق}
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة