عالمنا خلال المائة عام الماضية.. سجال الحرب والسلم

وولفوويتز يشرح لماذا لا يزال دور الزعامة الغربية مهماً

سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين
سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين
TT

عالمنا خلال المائة عام الماضية.. سجال الحرب والسلم

سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين
سقوط جدار برلين في سنة 1989.. احد أهم الاحداث التي عرفها العالم في القرن العشرين

أود التحدث اليوم عن ثلاثة أشياء: التغيرات الملحوظة التي حدثت في العالم خلال الـ50 عاما الماضية أولا. وثانيا، بعض التحديات التي واجهتنا بها تلك التغيرات، خاصة تحدي دمج مجموعة كاملة من الدول القوية في النظام العالمي. وسأشرح ثالثا وأخيرا، لماذا أعتقد أن دور الزعامة الغربية لا يزال مهما في هذا العالم الجديد والأكثر تعقيدا، على الرغم من أن كثيرا من الدول غير الغربية، تصبح أكثر أهمية وقوة. أعرف أن بعض الناس يعتقدون أنه عندما يقول أميركي كلمة «غربي»، فذلك نوع من لطف التعبير الأميركي، وسنتطرق إلى ذلك بشيء من التفصيل ربما خلال طرح الأسئلة. لكني أعتقد بحق أن ذلك مهم للغاية. وعلى الرغم من اعتقادي بأن الزعامة الأميركية مهمة جدا للزعامة الغربية، فإني أعتقد أيضا، إننا عندما نتصرف كحليف غربي، فإن النتائج تكون أفضل بصورة أعمق.

دعوني أبدأ بتأكيد قد يصيب بعضكم بالدهشة. إذا نظرتم إلى العالم اليوم، فقد لا يبدو ذلك صحيحا. ولكن العالم اليوم، أكثر أمانا وأكثر ازدهارا وحرية مما كان عليه قبل 50 عاما. كما قلت، قد يبدو ذلك التأكيد غريبا في ظل ما نراه في عالم اليوم من مشكلات. دعوني أخبركم أن الوضع في السابق كان أسوأ. وأعتقد أن تلك هي رسالتي - ولكنها ليست رسالتي بالكامل، فهي أكثر تفاؤلا.
في عالم اليوم، نرى أن الاقتصاد الأميركي ما زال يعاني من آثار الانهيار المالي، وأن الاقتصاد الأوروبي في وضع أسوأ. أدى سقوط الديكتاتوريات في العالم العربي إلى دخول منطقة الشرق الأوسط، بأكملها، في حالة اضطراب، حيث تعدّ سوريا أكثر تأثرا في السنة الثالثة من الحرب الوحشية التي بدأت تمتد إلى جيرانها. وإلى الشرق منها، فإن مستقبل كل من العراق وأفغانستان لا يزال موضع شك، وما زال احتمال حصول إيران على سلاح نووي يخيم على الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط برمتها قائما. وكأنما ذلك ليس كافيا، فإن حاكم كوريا الشمالية، البالغ من العمر 29 سنة، يريد إثبات رجولته بقصف الجزر التابعة لكوريا الجنوبية.
إذن كيف يمكنني القول إن العالم أكثر أمانا اليوم، وأكثر ازدهارا وحرية عما كان عليه قبل 50 عاما مضت؟ حسنا، ربما أرى بعض الأشخاص في القاعة ممن هم مثلي، وكانوا أحياء وواعين في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1962 حين كنت طالبا، ويمكنهم تذكر الوقت الذي أعلن فيه الرئيس الراحل جون كيندي للعالم، أن الاتحاد السوفياتي ينصب صواريخ نووية في جزيرة كوبا ويطلب إزالة تلك الصواريخ. كان ذلك وقتا مرعبا. وللأمانة بقينا ولمدة أسبوع، لا ندري إن كنا سنعيش للأسبوع الذي يليه، وما إذا كان العالم الذي نعرفه سينتهي في محرقة نووية. وبإعلان الاتحاد السوفياتي سحبه صواريخه من كوبا في 28 أكتوبر (تشرين الأول) (بالمناسبة باتفاق غير معلن بل سري؛ بأن تسحب الولايات المتحدة صواريخها من تركيا، ولم يُعرف ذلك إلا بعد سنوات)، انتهت تلك الأزمة. لكن شبح التهديد النووي المتبادل الذي يمكن أن يؤدي إلى تدمير العالم المتحضر خلال ساعات، ظل يجثم على العالم لـ30 عاما أخرى عقب ذلك.
تلاشى ذلك الخطر اليوم بنهاية الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة. وصحيح أن روسيا والولايات المتحدة لا تزالان تمتلكان ترسانة رهيبة وهائلة من الأسلحة النووية القادرة على التدمير، لكن احتمال حرب نووية شاملة اختفى تقريبا. مع ذلك، لم يزل واردا احتمال وقوع أحداث رهيبة بالنسبة لترسانة كوريا الشمالية أو حتى ترسانة باكستان، لا سيما أن وقعت أسلحتها النووية في أيدي إرهابيين، أو أن حصلت إيران على أسلحة نووية. لكن هذه التهديدات وإن بدت مخيفة، تُعدّ ضعيفة مقارنة بما عشناه يوميا خلال الحرب الباردة.
ثانيا: على الرغم من الفقر الكثير في العالم، فإن العالم بات أكثر ازدهارا بكثير مما كان عليه قبل 50 عاما. لقد أصبحتُ رئيس تخطيط السياسة بوزارة الخارجية الأميركية عام 1981، وطُلب منا تحمل مسؤولية ملف قضايا أطلق عليه العلاقات الشمالية الجنوبية. ذلك المصطلح «شمال - جنوب»، كان يصف ما أعتقد في ذلك الوقت، أنه تقسيم دائم للعالم بين البلدان الغنية والفقيرة. للناس تفسيرات مختلفة، سواء كانت ثقافية أو بنيوية أو سياسية، لكن كان هناك نوع من التشاؤم بأن الدول الفقيرة لن تحقق التنمية أبدا.
اليوم استُبدل مصطلح الشمال - الجنوب تماما تقريبا بمصطلح «الاقتصادات الناشئة»، التي تضاعفت ثلاث مرات تقريبا، خلال العقدين الماضيين، من 20 تريليون دولار أميركي إلى 60 تريليونا خلال 20 عاما، وكما قد تعلمون، فالأسواق الناشئة حصلت على أكثر من نصف ذلك النمو، بما يساوي 40 تريليون دولار. ولا تقتصر المسألة على مجرد الأرقام، فخلف ذلك قصص الإنسان، فقد خرج مئات الملايين من البشر من دائرة الفقر نتيجة لذلك التقدم الاقتصادي. ففي الصين وحدها، خرج 400 مليون شخص من دائرة الفقر. وكان ذلك أمرا طيبا للدول المتقدمة أيضا؛ فقد استفاد مستهلكونا من الحصول على منتجات أفضل وأرخص سعرا، كما استفاد منتجونا من توسع السوق العالمي. ولذلك فالعالم أكثر ازدهارا بكثير اليوم عما كان عليه قبل 50 عاما.
ثالثا وأخيرا، لم يكن متوقعا أن يصبح العالم أكثر حرية عما كان عليه قبل 50 عاما. في عام 1962، كانت هناك ديمقراطيات قليلة جدا خارج الدول الصناعية المتقدمة، باستثناء مهم جدا وهو الهند. في عام 1981، صنفت منظمة «فريدوم هاوس»، وهي منظمة غير حكومية تتتبع تقدم الحريات في العالم، ثلث العالم فقط بوصفه حرا بحق. وفي السنة الماضية، تجاوز العدد النصف بقليل. لكن من نواحٍ عدة، ثمة ما هو أهم من زيادة العدد، وهو تغير طبيعة كثير من تلك التغيرات التي لم أتوقع أبدا أن أشهدها خلال حياتي، وكان أكثرها دراماتيكية وأهمية بالطبع، سقوط جدار برلين وانهيار الإمبراطورية السوفياتية. لكنه لم يكن التغيير الوحيد. فثمة تغير آخر لم أتوقع أبدا أن أشهده، وهو انتهاء التمييز العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994، وأعتقد أنكم وُلدتم في ذلك التاريخ. شيء مدهش.
قد لا تكون بعض التغيرات التي حدثت ملحوظة بدرجة كبيرة، ولكنها ملحوظة إلى حد ما. تتركز تجربتي الشخصية بصورة كبيرة جدا، على شرق آسيا خلال الثمانينات، عندما أصبحت مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لذلك الإقليم الشاسع. لم تكن هناك ديمقراطية واحدة في جميع بلدان شرق آسيا عام 1981 باستثناء اليابان. ثم وقعت ثورة سلمية في 1986 في الفلبين، واستبدلت بالجنرال الديكتاتور فرديناند ماركوس حكومة ديمقراطية. وفي السنة التي تلتها 1987، أطاحت كوريا الجنوبية، التي لم تذق الحكم الديمقراطي لآلاف السنين، بديكتاتورية شون دو هوان، ونعِمت بانتقال سلمي للسلطة، وأصبحت ديمقراطية قوية منذ ذلك الوقت، وواحدة من قصص النجاح الاقتصادي العظيمة في العالم. وجاءت تايوان بعد ذلك بالتأكيد عام 1988، تلك الجزيرة الصينية الصغيرة التي يبلغ سكانها 20 مليون نسمة، والتي انتقلت بسلاسة من ديكتاتورية حزب كومينتانغ إلى نظام ديمقراطي حر، مع حرية صحافة ديناميكية وانتخابات منتظمة للرئيس والبرلمان، وهو المجتمع الديمقراطي الصيني الأول، ولكن نأمل أن لا يكون الأخير. وسعت تايوان إلى علاقات مع الصين الأم خلال السنوات الأخيرة الماضية، ونتيجة لذلك يزور تايوان من مليون إلى مليوني سائح صيني في العام. وسرني أن أعلم أنهم يقضون قسما كبيرا من وقتهم داخل غرفهم في الفنادق وهم يشاهدون النقاشات السياسية التايوانية، لأن الصين لا تعرف مثلها، وأفترض أنهم يعودون إليها بفكرة مختلفة عن كيف يجب أن يُحكم الصينيون، وهذا أمر طيب.
بعد ذلك بعشر سنوات في 1998، أجبرت إندونيسيا (بلد عملت به سفيرا للولايات المتحدة لثلاث سنوات، وعلي أن أعترف بأنني وقعت في حبه بصورة أو بأخرى) الديكتاتور سوهارتو على التنحي، وأصبحت إندونيسيا البلد الإسلامي الأكبر، من حيث عدد السكان، بلدا ديمقراطيا. وقال كثير من الخبراء والنقاد، إن إندونيسيا بلد إسلامي وفقير إلى حد كبير لا يسمح بنجاح الديمقراطية فيه. لكن الآن، وبعد مرور 15 سنة، فإن إندونيسيا هي ثالث أكبر ديمقراطية في العالم (مع صحافة مزدهرة ومجتمع مدني. وقد نظمت ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة خلال الـ15 عاما الماضية)، ومن الواضح أنها ستنظم انتخابات أخرى في العام المقبل.
كما قلت، فإن مستوى هذه التغيرات ملحوظ أكثر، وأعتقد أنه أكثر أهمية من عددها. إني أفكر في دول مثل كوريا الجنوبية بالذات، وهي لا تاريخ سابقا لها مع الديمقراطية، ولها، كما يقول البعض، ثقافة تناقض، أحيانا، الحكومة التمثيلية. هناك على سبيل المثال، الاستثناء الكونفوشيوسي - فكرة أن المجتمعات الكونفوشيوسية مستبدة بطبعها، وأن الناس في هذه المجتمعات، يحبون أن يقال لهم ما يفعلونه أو ما يُطلق عليه «القيم الآسيوية»، وأنها متناقضة مع قيم الديمقراطية الغربية. حسنا، كوريا الجنوبية مجتمع كونفوشيوسي، وتايوان أيضا بلد كونفوشيوسي، وهنا الاستثناء الكونفوشيوسي. وتايوان مجتمع صيني أيضا ينطبق عليه الاستثناء الصيني.
الآن نحن نشهد نهاية استثناء عربي مع الانتفاضات التي انتظمت في العالم العربي. كان من الواضح أن من السابق لأوانه وصف تلك الانتفاضة بالربيع العربي، ولكني أعتقد أن من السابق لأوانه بالمستوى عينه، وصفها بالشتاء الإسلامي. ستمر سنوات عدة قبل أن نعرف النتائج الحقيقية لهذه الانتفاضة، لكن للغرب نصيب كبير في النتيجة، وأعتقد أننا نحتاج أن نبقى مشاركين.
لنأخذ المثال الكوري - بالمناسبة تصادف هذه السنة موعد انتهاء الهدنة في الحرب الكورية قبل 60 عاما. فخلال السنوات العشر الأولى، كانت البلاد بائسة وفاسدة وديمقراطية فاشلة، ثم أصبحت أقل فسادا بعض الشيء، ولكن بديكتاتورية وحشية، ولم تتضح إشارات ما يطلق عليه الآن، قصة المعجزة الحديثة حتى 1981. لذلك أعتقد أننا نحتاج إلى منظور زمني أطول مما يريد الأميركيون بصراحة أن يتخذوه عادة.
كان التقدم الهائل في الحريات خلال الـ30 عاما الماضية طيبا لعشرات الملايين من الشعوب التي تحسنت حياتها مباشرة نتيجة لذلك. وأعتقد أن ذلك التقدم كان طيبا أيضا للولايات المتحدة وأوروبا - فقد حوّل الأعداء إلى أصدقاء، وجعل أصدقاءنا أكثر قوة واعتمادا على الذات. وعندما كان يُنظر إلينا بأننا في جانب الحرية (ولسوء الحظ، لم نكن دوما كذلك)، ولكن عندما كان يُنظر إلينا بأننا في ذلك الجانب، فقد حسّن ذلك بالتأكيد من موقفنا في نظر شعوب تلك البلدان.
ربما كان عليّ أن أمسح ذلك، ولكني لن أفعل، لدي في الـ«آيباد» صورة للوحة رُكبت في طرابلس بُعيد سقوط القذافي قبل سنتين. تقول اللوحة شكرا لكم على كل شيء، وبها إعلام ثماني دول، من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وقطر، لكن الأهم من ذلك، وجود علم الناتو وسط كل ذلك. لو قال لك أي شخص قبل ثلاث سنوات، إنه سيكون هناك لوحة مرفوعة في عاصمة عربية مكتوب عليه «شكرا الناتو»، أعتقد أنك كنت سترسله إلى اختصاصي نفسي. بالتأكيد ذلك الجهد الأولي الذي قامت به دول الناتو نيابة عن الثورة الليبية، كان شيئا يختلف عن الآراء حولنا بالفعل، على الأقل في ذلك البلد. وأعتقد أن الآراء حولنا مهمة، بالتأكيد هي ليست بداية ولا نهاية الأشياء، ولكنها مهمة.
ولنعد لافتراضي الأول. أعتقد أن العالم اليوم أكثر أمانا وازدهارا وحرية عما كان عندما كنت طالبا في السنة الثانية (في ستينات القرن الماضي). وأعتقد مع مخاطرة أن ذلك يبدو نوعا من التباهي، من العدل القول إنه لم تكن تلك المنجزات لتتحقق من دون التحالف الغربي الذي كان دعامة الأمن العالمي، ومن دون دور الزعامة الغربية في المحافظة على نظام تجارة عالمي مفتوح نسبيا، ومن دون الدعم الغربي للتغيير الديمقراطي، ليس في الاتحاد السوفياتي فقط، في الإمبراطورية السوفياتية، بل في بلدان كان يُوصف زعماؤها عندنا بأنهم «أبناء حرامنا». لا أدري إن كنتم قد سمعتم بهذا التعبير، وهو ينسب لموضوع مختلف.. أعتقد أنه كان في حديث للرئيس روزفلت عن الديكتاتور سوموزا في نيكاراغوا: «حسنا قد يكون ابن حرام، لكنه ابن حرامنا». قد يكون مما قاله البعض عن فيرديناند ماركوس، لكن وبأي قدر، فقد كانت الفكرة أننا نتراضى مع ديكتاتوريين لأنهم مفيدون على الأقل.
لذلك أرى من المناسب إعطاء شيء من التقدير للغرب على التقدم المثير للإعجاب الذي حققه العالم خلال الـ50 عاما الماضية. وبالمناسبة، فإن شعوب تلك الدول التي تقدمت كثيرا، هي من يستحق الثناء الأعظم.
على الرغم من قول رجل عاقل مرة: «لا حدود لما يمكنك إنجازه طالما لم تكن تهتم لمن يكون الثناء»، فأنا أعتقد أن هذه الحالة تستحق إعطاء بعض الثناء، وذلك لسببين: أولا، لأن هناك فقدانا خطيرا للثقة ينمو، على الأقل الثقة في الولايات المتحدة، وأعتقد في أوروبا أيضا، في مقدرتنا على المساهمة في التقدم العالمي. وثانيا، وهو الأكثر أهمية، أعتقد أن حلفا أوروبيا فاعلا سيكون حيويا إن كنا سنحافظ على التقدم خلال الـ50 عاما المقبلة، وبالفعل، إن كنا سنتجنب ما يمكن أن يكون انعكاسا كارثيا لذلك التقدم.
ينبع الشعور بأن الغرب في مرحلة انحطاط، بسبب نجاح كثير من الدول النامية، خاصة الصين. وهو النجاح ذاته الذي فعل الكثير من حيث زيادة رفاهية الإنسان، أفرز الكثير من التحديات الاقتصادية والجغرافية السياسية.
ونحن نتأمل المستقبل، فالمزيد من الدول سيكتسب قوة اقتصادية تجعل منه قوى مهمة، على الأقل في مستواها الإقليمي، وبعضها على المستوى العالمي. ولذلك فإن العالم في أحسن أحواله، يسير ليكون مكانا أكثر تعقيدا. وما كانت تقوم به قمة الثمانية التي تجتمع سنويا لتقرر مصير مستقبل اقتصاد العالم، تحول الآن إلى قمة الـ20.
لكن وفي أسوأ الأحوال، فالمسألة ليست كون العالم سيصير أكثر تعقيدا، بل أكثر خطرا. وأعتقد أن احتمال النزاعات زاد، ليس النزاعات وحسب، بل احتمال الحرب أيضا. يقودني هذا إلى نقطتي الثالثة والأخيرة: لماذا أعتقد أن دور الزعامة الغربية لا يزال مهما.
يقول كثير من الأميركيين حاليا، إن بلدي لن يستطيع تحمل لعب دور الزعامة في العالم، وأنا أتفق مع ذلك الافتراض من ناحية واحدة - لا شك أنه ليس باستطاعة الولايات المتحدة لعب ذلك الدور، إن لم نصلح اقتصادنا. لكن مفتاح ذلك هو إجراء التغييرات الصحيحة في الولايات المتحدة، وليس الانسحاب من العالم. في الواقع، أصر أننا لن نستطيع القيام بذلك بغض النظر عن حجم الغاز الطبيعي الذي ننتجه، وبغض النظر عن مدى راحتنا في بلدنا، لا يزال العالم مكانا خطرا، ويجب أن نقلق بشأن ذلك.
بالعودة إلى 2012، كانت هناك سلسلة من النقاشات البائسة إلى حد ما، بين المرشحين الجمهوريين (وليس فيها الكثير الذي يستحق الذكر) لكني أتذكر شيئا واحدا، فقد سُئل أحد المرشحين عما سيفعله إن جاءته مكالمة هاتفية عند الساعة الثالثة صباحا (ولا أدري لماذا عندنا هذه الصورة في الولايات المتحدة أن الرئيس يتلقى محادثات عاجلة دائما عند الساعة الثالثة صباحا). على كل حال تلقيت تلك المكالمة عند الثالثة، وقيل لك إن أحد الأسلحة النووية الباكستانية سقط بأيدي إرهابيين. ذلك سؤال من الصعب للغاية الإجابة عنه. وليس واضحا ما الذي يجب أن نفعله. ومن الواضح أن ذلك يعتمد على ظروف معينة ليست واردة في السؤال. لكن مجرد حقيقة أن ذلك سؤال محتمل تصديقه، توضح، في اعتقادي، أحد الأسباب الكثيرة التي لا نستطيع بسببها الانسحاب من العالم. في مثل تلك الحالة، لا بد أن يكون لنا تصرف. ونحتاج بالفعل، إن كنا سنتصرف، أن نتصرف بصورة استباقية حتى لا تحدث مثل تلك الحالة.
من الواضح (وأنتم تتحدثون مع شخص له خبرة طويلة مؤسفة مع المآسي في العراق) أن حربين طويلتين مثيرتين للجدل كانتا مؤلمتان، وجعلتا الأميركيين يتساءلون حتما، عن دورنا في العالم. تبدو الولايات المتحدة حاليا، مشلولة، خوفا من أن يؤدي تصرفها ذلك إلى تورط ما من نوع التورط في العراق. بالتأكيد ذلك الخوف هو أكثر من مفهوم، ولكن ليست كل حالة هي العراق أو أفغانستان مرة أخرى.
بوسع الولايات المتحدة أن تقوم بتغيير كبير، ببساطة عن طريق المزيد من الدعم النشط للعناصر المعتدلة في المعارضة السورية. ولا يعني ذلك الدخول في حرب نيابة عنهم، بل يعني، على كل حال، تقديم الدعم المالي والدعم الطبي لهم، بما في ذلك المعدات الطبية العسكرية والدعم العسكري غير المميت، والأسلحة والتنظيم كذلك. أعتقد أننا في خطر تكرار خطأ مختلف آخر في سوريا - ليس خطأ الحرب في العراق عام 2003، بل الخطأ في البوسنة خلال التسعينات. فلمدة ثلاث سنوات، وفي ظل رئيسين أميركيين، هما جورج بوش الأب ثم الرئيس كلينتون، فرضت الولايات المتحدة حظرا للأسلحة على البوسنيين الذين كانوا ضحايا للعدوان، مما زاد من أمد النزاع ومن سفك الدماء. ويقدر البعض أن نحو 200 ألف شخص لقوا حتفهم في البوسنة خلال تلك السنوات الثلاث، وجعل ذلك آثار الحرب أسوأ بكثير مما كانت ستكون عليه لو أنهي النزاع في وقت مبكر.
البوسنة تعيش اليوم على الأقل في سلام، ولكنها بلد منكسر إلى حد كبير ومقسم في كل شيء عدا الاسم. ذلك أفضل من الحرب، لكن لو كانت الحرب انتهت في وقت أبكر مما انتهت فيه لكانت القصة مختلفة. وأعتقد أن كثيرا من النتائج السيئة التي يخشاها الناس إن سلحنا المعارضة في سوريا، قد حدثت بالفعل، لأننا لم نقم بتسليح المعارضة. فعدم القيام بشيء تقريبا بينما النزاع المسلح يستمر لأكثر من عام، أعتقد أن نتيجته ستكون أسوأ، حتى ولو رحل الأسد، وهناك احتمال حقيقي أنه سيبقى ويواصل حكم البلد الممزق الذي، من المؤكد أن يكون عدوا للولايات المتحدة، وبدرجة ما، قاعدة محتملة لعمليات تنظيم القاعدة. ليس ذلك سوى أحد الأخطار الكثيرة في عالم اليوم، التي أعتقد أن من الأفضل التعامل معها بدلا عن الهروب منها.
دعوني أختتم بالرجوع إلى طالب السنة الثانية مرة أخرى، وتذكر؛ ليس الـ50 عاما التي مضت، ولكن أيضا الـ50 عاما التي سبقت عام 1962. فكما ذكرت قبل مائة عام، كان العالم، وخاصة أوروبا، يواجه تحدي قوة صاعدة جديدة هي ألمانيا، التي كانت غير راضية عن الوضع الراهن آنذاك، والتي شعرت بأنها حرمت مكانها «تحت الشمس» بواسطة القوى الكبرى في القرن التاسع عشر، خاصة بريطانيا وفرنسا. على الرغم من ذلك، اعتقد كثيرون أن نمو الاعتماد المتبادل في الاقتصاد العالمي والرفاهية الاقتصادية التي أتت معه، جعل من الحرب أمرا من أمور الماضي. وكان أحد أولئك صحافي أميركي هو نورمان أنجيل، الذي كتب كتابا في ذلك الخصوص سماه «الوهم الكبير»، ولم يحظَ في البداية بناشر لكتابه، فاستغل ماله الخاص لنشر بضعة آلاف النسخ منه، وسرعان ما تصدر الكتاب قائمة أكثر الكتب مبيعا، حيث بيع منه الملايين من النسخ حول العالم. وكان أحد أتباعه رئيس جامعة ستانفورد، وهو رجل يدعى ديفيد ستار جوردان، قد تنبأ بعد تدريس نورمان أنجيل، قائلا: «إن حرب أوروبا العظيمة التي تهدد دائما لن تقع أبدا. فإن رجال البنوك لن يجدوا المال لمثل ذلك القتال، ولن تتحمل الصناعة ذلك. لن تكون هناك حرب عامة»، لم يكن توقيته جيدا، فقد كتب ذلك في عام 1913، عشية الحرب العالمية الأولى.
من المحزن أن تلك الحرب والمصائب التي خلقتها دمرت جميع الآمال العظيمة التي كانت لدى الناس يوما ما في أن يكون القرن الـ20 وقتا للسلام العظيم والرفاهية. خلقت الحرب العالمية الأولى، التي تعتبر أسوأ حرب في تاريخ البشرية حتى ذلك الوقت، ظروف الحرب العالمية الثانية، التي كانت أسوأ من الحرب العالمية الأولى. خلقت ظروف البلشفية في روسيا التي كانت مأساة إنسانية على مستوى هائل، والنازية في ألمانيا وغيرها من المآسي الإنسانية الهائلة، والماوية في الصين وهي الثالثة. ولذلك وبدلا من أن يكون قرن الوعد العظيم فإن السنوات الـ50 التي تلت ذلك كانت أكثر نصف قرن دموي في التاريخ الحديث.
لا نستطيع أن نعيد ذلك التاريخ بأسلحة أكثر فتكا في هذا القرن، لذلك أعتقد أن أهمية تحالف الديمقراطيات الغربية للعالم ستستمر، خاصة لنا. ليس من المبالغة القول إن مصير أجيال المستقبل (وذلك جيلكم، فجيلي يتلاشى من المشهد) والأجيال التي تليه يعتمد على لعب الدور بالصورة الصحيحة هذه المرة.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».