الباغوز... رائحة الجثث في كل مكان... والسماء كتلة نارhttps://aawsat.com/home/article/1622351/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%BA%D9%88%D8%B2-%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AB%D8%AB-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D9%84-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D8%AA%D9%84%D8%A9-%D9%86%D8%A7%D8%B1
الباغوز... رائحة الجثث في كل مكان... والسماء كتلة نار
نساء هربن من جيب «داعش» الاخير شرق سوريا (أ.ب)
على بعد 5 كيلومترات شمال بلدة الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا، يجلس مجموعة من الرجال على الأرض في صفوف متراصة. بعد دقائق تصل دفعة جديدة على متن شاحنات نقل كبيرة إلى النقطة نفسها. طُلب من الرجال السير نحو الآخرين للخضوع للتفتيش، ينتظرون إشارة من جندي أميركي كان يقف على مسافة قريبة، وسط انتشار كثيف للقوات الخاصة الأميركية، ومدرعات مصفحة ومقاتلين من «قوات سوريا الديمقراطية» التي فرضت طوقاً أمنياً على المكان.
بعض الرجال كانت ملامحهم آسيوية وآخرون من روسيا ودول غربية وعربية، بشرتهم سمراء اللون يتشابهون، بلحية كثة، يرتدون عباءات بنية أو سوداء اللون فوق ثيابهم، ويضعون قبعات أو كوفيات فوق رؤوسهم. قدموا من آلاف الكيلومترات إلى سوريا أكثر منطقة ساخنة بالشرق الأوسط منذ عام 2011، وطالما حلموا بالعيش في كنف تطرف مشابه لـ«داعش»، فانتهى بهم المطاف في هذه النقطة بانتظار تحديد مصيرهم بعد استسلامهم.
بعد إنهاء عملية التفتيش والتدقيق الأولى في الهويات وأخذ بصماتهم وجمع المعلومات الشخصية، تُنقل النساء مع أطفالهنّ إلى مخيم الهول شمالاً، بينما يتم إيداع الرجال والشباب المشتبه بانتمائهم لتنظيم داعش بسيارات خاصة كانت تقف قريباً، ليتم لاحقاً نقلهم إلى مراكز تحقيق خاصة وإيداعهم في السجون.
ليس خافياً على أحد أنّ هؤلاء هم عناصر تنظيم «داعش» المتطرف، الذين أثاروا الرعب ونشروا الخوف خلال السنوات الماضية بقواعده المتشدّدة وأحكامه المتوحشة. حيث أصدر مناهجه وعملته الخاصة وجنى الضرائب من قرابة 8 ملايين نسمة. في ذروة قوته كان يسيطر على أراض ومدن حضرية في سوريا والعراق المجاور تقدر مساحتها بمساحة بريطانيا.
في هذه النقطة معظم الخارجين من عائلات التنظيم، من جنسيات متعددة، نساء متشحات بالسواد من دول المغرب العربي ومن العراق ودول عربية. وأخريات من دول الاتحاد السوفياتي السابق ومن روسيا والشيشان وإندونيسيا، بالإضافة إلى عائلات قدموا من فرنسا وبلجيكيا ودول غربية.
عائلة من العراق
«أنا شيماء أبلغ من العمر 55 سنة، عراقية من مدينة الموصل. قتل زوجي أثناء المعارك في مسقط رأسي منتصف 2015. على إثر ذلك نزحنا إلى مدينة القائم الحدودية مع سوريا، وبعد اشتداد المعارك هناك، قررنا المجيء إلى سوريا، قصدنا قرية أبو حمام بريف دير الزور الشمالي، ثم هجين والسوسة وشعفة وآخر مكان كنا محاصرين بداخله الباغوز، كنا نتراجع مع انسحاب مقاتلي التنظيم». وتضيف: «لدي ثلاث بنات، أكبرهنّ قتلت قبل خروجنا بثلاثة أيام. لم نتمكن من دفنها جراء المعارك. أما الأخريات فما زلن فتيات وهن جالسات بجانبي. الأولى ولدت 2002 والثانية تصغرها سنة، كما كان لدي ولدان وهما أكبر إخوتهم، قتلوا بغارة جوية في معارك هجين، وبقي عندي ابن عمره عشر سنوات والأصغر عمره 5 سنوات... يجلسون جميعاً بجانبي وسط هذه الصحراء».
ومضت بالقول: «لا، أنا لستُ بنتا؛ أنا هيفاء متزوجة من مقاتل لا يزال مرابطا بالباغوز. لقد قرر القتال حتى النهاية. أما نحن فخرجنا بأمر من أبو بكر البغدادي القرشي. فالنساء والأطفال مستضعفات لذلك أصدر قرارا بالسماح بخروجهنّ. نمنا اليوم هنا ونأمل في ترحيلنا اليوم لمخيم الهول شمالاً. عندما جاء الصحافيون والكاميرات، قدموا لنا كل شيء، من طعام ودواء وخبز. ولكن لا أحد يكترث لنا، عندما نأكل يجب أن نرفع البرقع والخمار، لكن مع وجود هذا الكم من الأشخاص الغرباء لا أحد يحترم خصوصيتنا. يأتون لالتقطاط الصور وإجراء المقابلات وهذا غير مقبول».
تقول ثانية: «أما أنا فأدعى وداد، أصغر شقيقاتي، كنت متزوجة أيضاً من مقاتل مغربي ولقي حتفه في معركة هجين قبل أشهر، عندما تزوجت كان عمري آنذاك 14 سنة، واليوم بلغت 16 وأنجبت منه طفلة عمرها 9 أشهر، لا أعلم ماذا سأروي لها عندما تكبر، من كان والدها، وكيف قتل، أين أنجبتها، وأعدد لها الأماكن التي نزحنا لها جراء المعارك المستعرة».
أرملة من طاجيكستان
«اسمي أسماء أنحدر من طاجيكستان، أنا مسلمة وعمري 27 سنة. أرملة ولدي 4 أطفال جميعهم من مواليد سوريا. زوجي كان من طاجيك وكان يعمل في مصر يمتلك شركة صغيرة للتجارة. انضم إلى تنظيم (القاعدة) بداية 2012، بعدما قرر والدي الانضمام إليها وسافر رفقة والدتي وإخوتي الصغار إلى مدينة إدلب غرب سوريا بالعام نفسه، قتل بغارة جوية أما والدتي فلا تزال تعيش هناك. لا تعلم عني شيئا منذ شهرين، سأتصل بها عندما يتسنى لي ذلك».
أنا هنا بسبب زوجي الذي قرر السفر لسوريا بداية 2013. بداية كان مقاتلا مع تنظيم «جبهة النصرة» - هيئة تحرير الشام الآن - وبعد احتدام القتال بينها وبين تنظيم «داعش»، قرر الالتحاق بالأخيرة وقصدنا مدينة الرقة مع إعلان السيطرة على مناطق في شهر يناير (كانون الثاني) 2014، وبعد إعلان معركة الرقة نهاية 2016، خرجنا إلى مدينة الميادين ثم البوكمال وبعد اشتداد القتال هناك قصدنا بلدة الباغوز. منذ أشهر ونحن لا ننعم بالاستقرار والأمان. أحمل حقيبة صغيرة معي أضع بداخلها بعض الملابس لأطفالي أما أنا فمنذ شهر أرتدي هذه الملابس السوداء.
أجلس في هذه النقطة الصحراوية أنتظر دوري للسماح بنقلي إلى مخيم الهول. عناصر التنظيم تحدثوا كثيراً أن القوات المهاجمة من الكفار والخوارج، عندما وصلنا إلى هنا كانت معاملتهم حسنة. كما كان في استقبالنا جنود أميركيون مع منظمة أميركية خيرية تقدم لنا الطعام والخبز وحفاضات الأطفال وتعالج المصابين.
بقيت أكثر من 3 أيّام من دون طعام. بعد وصولنا إلى هنا أكلت بعض الخبز والمعلبات، أعطوني علبة حليب وأطعمت طفلي الصغير، وأكل أطفالي وشربوا مياها صحية لكن التعب والبرد ينخر أجسادنا النحيلة من شهور الحصار هناك.
أتفقد أطفالي الصغار كل ثانية وطفلي الصغير يبكي باستمرار. أكبرهم من مواليد 2014 ولد بالرقة، أما الثاني فولد في الميادين، والثالث في البوكمال، وأصغرهم ولد قبل شهرين بالباغوز. كل ما أتمناه في هذه اللحظة أن ألتقي مع والدتي وأعيش معها في مكان ما».
من أعزاز بريف حلب
«أنا فاطمة عمري 22 سنة متحدرة من بلدة أعزاز بريف حلب الشمالي. زوجة زعيم بالتنظيم. زوجي ينحدر من دولة عربية وأكبر مني بعشرين سنة. عائلتي وافقت على زواجي لكونه مسؤولا بارزا. في معركة الباغوز أصيب إصابة بليغة، وعندما أعلنت الهدنة الأخيرة قرر الخروج وهو محتجز لدى الأميركيين لا أعلم ماذا سيكون مصيره.
أنجبت منه طفلتين: الأولى ماتت بسبب المرض والحصار المفروض على البلدة لعدم وجود طبيب جراح وأدوية، والثانية عمرها 7 أشهر لكنها تبكي منذ أمس بسبب البرد والجوع. في معارك حلب فقدت كل وثائقي، بطاقتي الشخصية وجواز سفري، لا أحمل أي إثبات لشخصيتي، أما زوجي فحمل كل أوراقه وصحبها معه.
حاولنا الهروب مراراً. أول مرة طلب منا المهرب 5 آلاف دولار أخذ نصف المبلغ ولاذ بالفرار. بينما في المرة الثانية دفعنا ألفي دولار مقابل إيصالنا إلى الحدود العراقية، وعندما وصلنا إلى مخيم الباغوز بعد مشي استغرق 6 ساعات، قلنا إنها الحدود لوجود مخيم ثان هناك، لكن اكتشفنا سريعاً أن المهرب خدعنا وهرب هو الآخر.
لذلك بقينا آخر دفعة. انتظرنا هناك 12 ساعة حتى خرجنا من البلدة، ومنذ أمس ونحن هنا في هذه الصحراء القاحلة مع هبوب الغبار والرياح الجافة. كنا نعيش في الملاجئ والحفر. كل عائلة قامت بحفر جورة كبيرة للاختباء أثناء القصف. أكثر منطقة آمنة كانت المخيم الواقع جنوب البلدة على ضفة الفرات.
زوجي يرفض العودة إلى بلده، قد نبقى في سوريا إذا سمح لنا بذلك، أو نسافر إلى تركيا، المهم ننتهي من هذه الإجراءات ونعبر إلى المخيم، وبعد الإفراج عن زوجي سنقرر أين نعيش».
من تونس إلى الباغوز
«أنا سعدية من دولة تونس. عمري 26 سنة. كنت أدرس اللغة العربية في بلدي، وبعدما قررت أسرتي السفر إلى سوريا صيف 2015 جئت معهم. تجلس هنا والدتي وشقيقتي الأصغر مني، تجلس هنا أيضا خالتي وبناتها الثلاث وابنها البالغ من العمر 8 سنوات. قتل والدي في معركة دير الزور، أما زوج خالتي فأصيب في معركة الباغوز وسلم نفسه أمس نجهل مصيره، وخالتي كان لديها ابنها البكر يقاتل في صفوف التنظيم، قرر البقاء للقتال ورفض بشدة الخروج معنا.
أما الحياة بالباغوز فكنا معظم الوقت نأكل الحشائش ونشرب مياه الفرات. فقدت الأغذية والسلع الأساسية. لم يكن هناك أدوية أو أطباء، الحياة كانت صعبة للغاية. قبل ثلاثة أيام وأثناء القصف العنيف، تحولت السماء إلى كتلة من النار، شعرت أن الأرض احترقت بالكامل، كنت أقول إنه لن يسلم أحد ليلتها. في اليوم الثاني بقي لهيب النار وسحب الدخان تغطي المكان. روائح الجثث المتفسخة كانت في كل مكان. لم نصدق أننا نجونا من الموت».
عائلة من إندونيسيا
«اسمي نور خيرت وعمري 22 سنة. نجلس هنا أنا ووالدتي وأخواتي الصغار. والدي سلم نفسه. كان في البداية مقاتلا لكنه كان يدرس اللغة العربية في معاهد التنظيم. في صيف عام 2015، قطعنا آلاف الكيلومترات في رحلة جوية أقلعت من العاصمة جاكرتا مسقط رأسي، متجهين نحو مدينة إسطنبول التركية، ومنها أكملنا الرحلة براً على متنِ حافلة حديثة، قاصدين مدينة كِلس التركية الحدودية مع سوريا. عبرنا سراً من خلال منفذ بلدة الراعي الحدودي على الطرف السوري الذي كان يخضع آنذاك لسيطرة التنظيم، قصدنا مدينة منبج بريف حلب الشرقي، ثم ذهبنا إلى مدينة الرقة وجهتنا المقصودة آملين العيش في ظل (داعش).
تعرفت على صفحات مقاتلي التنظيم عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. قرأت كثيرا عنهم وعن مناطق سيطرتهم التي كنا نظن أنها ستكون المكان الأفضل لنعيش فيه، حيث بإمكاني ارتداء اللباس الشرعي دون قيود، وأستطيع أن أعبر بحرية عن مظهري كفتاة مسلمة. للأسف الواقع كان عكس الكلام الافتراضي، اكتشفنا كذب ادعاءاتهم وزيف وعودهم، عايشنا ظلمهم وشاهدنا كيف كانوا يعاقبون الناس، قالوا لنا إن الطبابة بالمجان والعلاج في المشفى على نفقة التنظيم، وحتى الأدوية تعطى للمريض مجاناً، كل ذلك كان كذبا في كذب. كثير من عناصر التنظيم طلبوني للزواج، لكنني وأهلي كنا نرفض، لأنهم لا يصلحون للزواج، يتزوجون لمدة شهر أو شهرين إما يقتلون في المعارك أو يطلّقون نساءهم ويتزوجون مرة ثانية.
تنقلنا بين سوريا والعراق، وكلما كانت مدينة أو بلدة تتعرض للهجوم كنا نقصد مكانا آخر. المعارك لم تهدأ منذ أكثر من عامين كنا ندرك أن التنظيم سيخسر في النهاية. ننتظر انتهاء الإجراءات هنا ونقلنا إلى مخيم الهول وننتظر تحديد مصيرنا. سنعود إلى بلدي، فالحكومة سترأف بحالنا».
أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»https://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5091612-%D8%A3%D9%87%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AB%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%8A%D8%AD%D8%B5%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9%D8%A9
أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.
وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.
يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».
وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».
الهروب إلى الأمام
الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».
ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.
ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».
ولادة تحت القصف
تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.
تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».
وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».
لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.
تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».
أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».
نساء بطلات و«قلة حيلة»
وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.
وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».
وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.
وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».
وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.
وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.
تجريف وجوع
وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.
وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».
وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».
وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.
مكان غير صالح للحياة
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.
وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.
من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.
ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.
حصار من كل الجوانب
وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).
مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.
كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.
تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.
دمار البشر والحجر
وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.
وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.
وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.
كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.
ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».
وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.
وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.
وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.
آلام مضاعَفة
الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟
الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».
ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».
ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».
تجويع ممنهَج وفساد
شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».
وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».
أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».
فساد داخلي؟
لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.
وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.
ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.
آفاق مالية غائمة
وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.
ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.
وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».
وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».
وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.
وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».
7 عقود ضائعة
وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.
في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».
ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.
وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».
معركة الصبر والصمود
وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».
وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».