مدنيون خرجوا من «جحيم الموت» إلى مستقبل مجهول

«الشرق الأوسط» ترصد مغادرة آلاف جيب «داعش» إلى مخيمات النازحين شرق سوريا

شاحنة تنقل نازحين من الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا (الشرق الاوسط)
شاحنة تنقل نازحين من الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا (الشرق الاوسط)
TT

مدنيون خرجوا من «جحيم الموت» إلى مستقبل مجهول

شاحنة تنقل نازحين من الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا (الشرق الاوسط)
شاحنة تنقل نازحين من الباغوز في ريف دير الزور شرق سوريا (الشرق الاوسط)

أجلت «قوات سوريا الديمقراطية» مزيداً من المحاصرين من آخر جيب لتنظيم «داعش» في شرق سوريا، تمهيداً لنقلهم على غرار الآلاف الذين خرجوا خلال الأسابيع الماضية، إلى معتقلات أو مخيمات، وذلك مع إعلان هذه القوات أمس بدء المعركة الأخيرة تمهيداً لـ«الانتصار الكامل» على التنظيم المتطرف.
ويستمر منذ عشرة أيام خروج آلاف الرجال والنساء والأطفال، بينهم عدد كبير من الأجانب، من البقعة الأخيرة المحاصرة في بلدة الباغوز وتقدّر مساحتها بنصف كيلومتر مربع، وغالبيتهم نساء وأطفال من عائلات مقاتلي التنظيم. والتقت «الشرق الأوسط» عدداً من الخارجين من الباغوز بعد التحقيق معهم وتفتيشهم للتأكد من عدم ارتباطهم بـ«داعش» قبل نقلهم إلى مخيمات للنازحين، حيث أوقفت «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن، أكثر من خمسة آلاف عنصر من التنظيم كانوا في عداد نحو 52 ألف شخص فروا منذ نهاية عام من مناطق سيطرة التنظيم في شرق سوريا.
وبعد أسابيع من تضييق الخناق على جيب التنظيم، يصل الخارجون من الباغوز متضوّرين جوعاً ويحملون أغراضاً بسيطة، من ثياب وأغطية، إلى نقطة الفرز التي استحدثتها قوات سوريا الديمقراطية التحالف الكردي - العربي، على بعد أكثر من عشرين كيلومتراً شمال بلدة الباغوز.

من العاصمة تونس المطلة على شاطئ البحر المتوسط، حيث تنخفض درجات الحرارة صيفاً، سافرت نور الإيمان رفقة زوجها شرقاً نحو سوريا إحدى أكثر الدول سخونة منذ العام 2011. عبرَ رحلة جوية أقلتها من مطار قرطاج الدولي إلى مطار أتاتورك بمدينة إسطنبول التركية.
ومنها أكملوا الرحلة براً على متن حافلة حديثة اتجهت إلى مدينة أورفا الحدودية مع سوريا، ليدخلوا سراً منتصف 2015 إلى مدينة الرقة شمال سوريا، حيث كانت عاصمة «داعش» آنذاك، في سبيل تحقيق وهم لطالما كانت تحلم بتحقيقه، لكن انتهى بها المطاف في بلدة الباغوز وسط صحراء بادية الجزيرة السورية.
هذه المنطقة باتت آخر موطئ قدم لعناصر تنظيم داعش وخرجت نور مع زوجها وأطفالها قبل يومين إلى نقطة تجمع الفارين، تنتظر مع آلاف الفارين غالبيتهم من عائلات وأسر التنظيم تأشيرات للعبور إلى مخيم الهول شمالاً.
«كنت واهمة»، بهذه الكلمات بدأت نور ذات الثلاثين عاماً حديثها لـ«الشرق الأوسط» من نقطة تجمع الفارين من الجيب الأخير الخاضع لسيطرة التنظيم، وبدت علامات الندم من نبرة صوتها، ونقلت أنهم ينامون في العراء وسط هبوب رياح صحراوية جافة، وانخفاض درجة الحرارة إلى 5 درجات ليلاً، لتضيف: «أخذوا زوجي للاشتباه بانتمائه للتنظيم، أنا وأطفالي ننتظر السماح لنا بالعبور إلى مخيم الهول، يقدمون لنا الطعام والمياه»، وتساءلت بصوت مرتفع: «متى سيتم نقلنا من هنا».

خرجن بأمر قيادي

تروي السعدية (32 سنة) المتحدرة من المغرب من النقطة الأمنية، كيف سافرت مع خطيبها وطلبت أن يكون مهرها العيش في كنف «داعش» على حد تعبيرها، ليوافق الشاب على طلبها، وقررا السفر نهاية 2015 عبر تركيا إلى سوريا، وقصدا مدينة منبج شرقي حلب والتي كانت خاضعة وقتذاك لسيطرة التنظيم، قبل أن يطرد منها صيف 2016 على يد «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادي أميركية.
عقدت قرانها في منطقة أصبحت ساخنة بعد أشهر من زواجها، وقالت: «بسبب المعارك نزحنا إلى الرقة، بقينا هناك أقل من سنة ليقتل زوجي الأول بغارة طيران وأنجبت منه طفلة، ثم ارتبطت بمقاتل تونسي»، ليقتل هو الآخر في المعارك هناك، «بعدها تزوجت للمرة الثالثة من مقاتل عراقي ولا يزال هناك يرابط مع الإخوة»، على حد تعبيرها.
اتشحت السعدية بالسواد وغطى وجهها ولم يظهر منه سوى عينيها، كشفت أنّ زوجها مقاتل انغماسي ونفذ عدة عمليات انتحارية، وقررت الخروج مع عائلات التنظيم بناءً على طلب: «بأمر من (زعيم داعش) أبو بكر البغدادي، طلب من جميع النساء والأطفال الخروج ليتسنى للمقاتلين التفرغ للقتال، سنذهب للمخيم وننتظر عودة أزواجنا»، ولفتت أنها لم تشاهد البغدادي كحال عامة الناس لم يشاهده أحد، «أظن إنه لا يزال يقاتل إلى جانب الإخوة في الباغوز لرفع معنويات المقاتلين».
في نقطة تبعد 20 كيلومتراً شمال الباغوز، يقف مجموعة من الجنود الأميركيين ومسؤولين من قوات التحالف الدولي، برفقة قادة عسكريين ومقاتلين من «قوات سوريا الديمقراطية»، يدققون في هوية الخارجين من البلدة المحاصرة، يبدو أنها نقطة تفتيش خاصة بالتحقيق مع عناصر التنظيم، تقوم الدورية بإجراءات التفتيش بشكل معقد خشية تسلّل عناصر التنظيم بين المدنيين، وينقل الأطفال والنساء إلى مخيم الهول، بينما يُرسل الرجال المشتبه بهم إلى مراكز الاعتقال.
فاطمة المتحدرة من مدينة الموصل العراقية، بدت علامات التقدم بالعمر عليها وارتسمت تجاعيد وجهها رغم أنها في بداية عقدها الخامس، أكدت أنّ سبب بقائها بالباغوز كان لعدم توفر المال لدفعه للمهربين، وبلكنة عراقية محلية ومفردات بالكاد تفهم، قالت: «ما كان بي فلوس – مال - لدفعه للمهربين لإخراجنا من هناك، زوجي احتجزوه هنا وبقي أبنائي الكبار يقاتلون هناك».
ونقلت أنه لا يزال الكثير من المحاصرين يرغبون بالخروج من جحيم الموت، وتضيف: «الجميع خائف ومرعوب يريدون النجاة بسرعة، الكل يعرف زين أن ساعة الصفر قربت».
وادعت سعاد (47 سنة) المتحدرة من مدينة حمص وسط سوريا، أنّ زوجها لم يكن مقاتلاً أو عنصراً في صفوف التنظيم، وكان يعمل في مجال التجارة، وقالت: «متنا من الجوع هناك، خلال الحصار كان التنظيم يوزع الطعام ومياه الشرب على عناصره فقط، مؤخراً دخلت شاحنة محملة بالغذاء تم توزيعها على أمراء التنظيم».
وأوضحت أن زوجها تم توقيفه للاشتباه بانتمائه للتنظيم، وأضافت قائلة: «أوقفوه ولا علاقة له بالتنظيم، كنا مجبورين أن نعيش هناك، هو مطلوب للنظام وما التحق بالجيش الحر، أجبرنا التنظيم تحت تهديد السلاح الخروج للمناطق التي يسيطر عليها».

الهروب من الجحيم

فرَ آلاف المدنيين وعائلات عناصر تنظيم داعش خلال الأيّام الماضية من الأمتار الأخيرة المتبقية في بلدة الباغوز التابعة لناحية السوسة بريف دير الزوّر الشمالي، وتواصل «قوات سوريا الديمقراطية» المرحلة الأخيرة من هجومها الهادف لإنهاء وجود التنظيم المتطرف شرقي الفرات.
وانتظر هؤلاء الفارون ساعات طويلة وسط المنطقة المحاصرة، في ظل برد قارس نخر أجسادهم النحيلة من قلة الطعام ومياه الشرب قبل بلوغ النقطة الآمنة الواقعة على بعد 5 كيلومترات شرقي البلدة، وتمكنت «قوات سوريا الديمقراطية» من فتح معبر آمن منذ بداية الشهر الجاري، حيث تستقبلهم برفقة طاقم طبي أميركي في موقع فرز أنشأته عند التلة المرتفعة المقابلة للباغوز، ويتم التدقيق في هوياتهم وأخذ بصماتهم، ويحال المشتبه بانتمائهم للتنظيم إلى مراكز التحقيق.
ونقلت العنود (46 سنة) المتحدرة من مدينة القائم العراقية المحاذية للحدود مع سوريا وتقابل بلدة الباغوز، أنهم كانوا يأكلون الحشائش ويشربون مياه النهر جراء حصار عناصر التنظيم، وعمدوا إلى توزيع الإمدادات الغذائية على مقاتليهم فحسب، وقالت: «الدواعش حاصرونا ومنعوا عنا كل شيء، لا أدوية ولا طعام ولا رحمة، السلع المتوفرة كانت أسعارها باهظة الثمن، من يملك المال يأكل، بقينا أيّام وليال نتضور جوعاً».
وبحسب روايات الهاربين من بلدة الباغوز البائسة، يعيش المدنيون المحاصرون ومقاتلو «داعش» أوضاعاً إنسانية صعبة، حيث لا يتوافر الطعام الكافي ومياه صالحة للشرب، مع قصف متواصل لطيران التحالف.
بينما وصفت هيفاء (31 سنة) القادمة من العاصمة السورية دمشق، الحياة بالباغوز بـ«جحيم الموت» وقالت: «كنا نتنقل من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى ثانية، نعيش الجحيم تحت القصف؛ الموت كان في كل مكان، مصابون وجرحى ولم يكن هناك وقت لدفن الأموات».
ويتمركز الجيب المحاصر التابع لعناصر التنظيم وتقدر مساحته بأقل من واحد كيلومتر شرقي الباغوز على الضفة الشرقية لنهر الفرات، يعد آخر معقل للتنظيم في هذا الجزء من سوريا، ولطالما لجأ التنظيم على جبهات عدة إلى استخدام المدنيين كدروع بشرية، بهدف عرقلة تقدم خصومه لدى تضييقهم الخناق على آخر معاقله، كما يزرع خلفه الألغام والمفخخات لمنع المدنيين من الخروج ولإيقاع خسائر في صفوف خصومه.
ولدى حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أوضح عدنان عفريني قيادي عسكري من «قوات سوريا الديمقراطية»، عدم التأكد من أنّ هؤلاء الفارين هم آخر من تبقى في الباغوز من مدنيين وذوي التنظيم الراغبين بالخروج، وقال: «نعتقد وجود مدنيين يستخدمهم التنظيم دروعاً بشرية، ومن بين هؤلاء رهائن ومختطفون ومن الطائفة الإيزيدية ومقاتلون من (قوات سوريا الديمقراطية)»، وذكر أنّ أغلب الذين تم إجلاؤهم خلال الأسبوعين الماضيين قدر عددهم بنحو 5 آلاف شخص كانوا من عائلات التنظيم نفسه، مشيراً: «التنظيم الإرهابي يستخدم حتى أسره كدروع بشرية لعرقلة تقدم قواتنا وتحرير كامل المنطقة، وتبين أن المئات من مقاتلي التنظيم لا يزالون يتحصنون عبر خنادق وأنفاق في الباغوز».
ومن شأن استكمال إجلاء المحاصرين من جيب التنظيم الأخير أن يحدّد ساعة الصفر لـ«قوات سوريا الديمقراطية» من أجل حسم المعركة؛ سواء عبر استسلامهم أو إطلاق الهجوم الأخير ضدّهم، تمهيداً لإعلان انتهاء سيطرة التنظيم على مناطق أثارت الرعب على مدى سنوات.
وأوضح عفريني أنّ الهدف الأساسي هو إجلاء كل من تبقى من الباغوز يرغب في الخروج حتى وإن كانوا من عائلات التنظيم، وقال: «نحن نتعامل مع النساء والأطفال على أنهم مدنيون، وقواتنا ملتزمة أخلاقياً بعزلهم عن نيران المعارك، فالأنفاق والمدنيون يؤخران القضاء على «داعش» جغرافياً وعسكرياً».
واستسلم الكثير من مقاتلي وقادة التنظيم خلال الدفعات التي خرجت مؤخراً، فالبعض اغتنم الفرصة وتنكر بلباس المدنيين وعند وصوله إلى نقطة التفتيش كشف عن هويته وسلم نفسه، فيما حاول آخرون تزوير هويتهم لكن بعد أخذ بصماتهم وإجراء تحقيق دقيق ومعقد تبين أنهم من مقاتلي التنظيم بحسب عفريني، مشدداً: «سلم الكثير من أمراء وقادة بارزين في التنظيم أنفسهم، كما ألقينا القبض على آخرين متنكرين خلال الأيام الماضية، يتحدرون من جنسيات غربية وعربية وتركية».

قدموا من مسافات

أسدل الستار على الفصل الأخير من «داعش» جغرافياً. حفنة من الرجال يرتدون لباساً طويلاً ويجلسون في العراء وسط صحراء جافة مع هبوب رياح مغبرة. تبدو عليهم ملامح أجنبية، قادمين من آلاف الكيلومترات إلى أكثر منطقة ساخنة في الشرق الأوسط، لطالما حلموا بالعيش في كنف «الخلافة المزعومة»، لكن انتهى بهم المطاف في نقطة تفتيش بانتظار تحديد مصيرهم بعد استسلامهم. ليس خافياً على أحد أنّ هؤلاء هم عناصر تنظيم داعش المتطرف، الذين أثاروا الرعب بقواعده المتشددة وأحكامه المتوحشة، وأصدر مناهجه الدينية وعملته الخاصة وجنى الضرائب من قرابة 8 ملايين نسمة في ذروة قوته.
لكن المئات من مقاتلي التنظيم قرروا القتال، فيما الكثير منهم سلموا أنفسهم لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، في حين بدأ آخرون التفاوض مع جهات عدة من أجل الخروج من المنطقة إلى بقعة ثانية تحت سيطرتهم.
بلحية طويلة غير مهذبة، وشعر أشعث كثيف، ظهر أحمد الشاب الثلاثيني المتحدر من تونس، انتظر مع زوجته وأطفاله الصغار نحو 12 ساعة حتى خرجوا من بلدة الباغوز، بعد وصوله إلى نقطة أمنية تتبع «قوات سوريا الديمقراطية» كشف عن هويته.
يروي أنه دخل إلى سوريا قبل ثلاث سنوات، تنقل خلالها بين إدلب والرقة والمدن العراقية، بقي مقاتلاً حتى قرر الهروب صيف العام الفائت والعودة إلى مسقط رأسه بحسب ادعائه، وقال: «كشف أمري وسجنت شهرين، بعد خروجي حاولت عدة مرات دون جدوى، وعند خروج المحاصرين والمدنيين قررت الخروج معهم وتنكرت بلباس مدني».
وأكد مقاتل مغربي يدعى مروان (37 سنة) أنّ المعاملة لدى التنظيم كانت بحسب الجنسيات، فالعراقي يكون قائدا عسكرياً والشيشاني والإيغور ودول روسيا الاتحادية كانوا قادة، أما باقي الجنسيات من العرب والأجانب يتولون مناصب متدنية وتوكل لهم مهام إدارية وتنظيمية، وقال: «العراقيون كانوا متسلطين ويحكمون بقبضة من حديد، فالمسؤول الأول عن الأذرع الإعلامية ومنابر التنظيم شخصية عراقية يكنى بأبو محمد العراقي، ويشاع أنه كان قياديا لدى الرئيس العراقي السابق صدام حسين».
بينما محمد (42 سنة) المتحدر من دولة كازاخستان يكاد يتحدث بالعربية، ادعى أنه كان يعمل إدارياً في صفوف التنظيم وقرر الخروج برفقة زوجته وأبنائه الصغار، وبكلمات مبعثرة وعلامات حيرة ارتسمت على وجهه، قال: «بقيت في مناطق التنظيم بسوريا والعراق نحو عامين ونصف، شاهدت كيف ينحرون الأبرياء ويقطعون الرؤوس ويحكمون بيدٍ من حديد، يحرمون الحلال ويحللون الحرام»، وأضاف: «بعد سقوط الرقة قررت الخروج وطلبت من التنظيم السماح لي بالعودة إلى مسقط رأسي، المفاجأة أنهم سجنوني وبقيت 3 أشهر، أنا جئت إلى هنا بإرادتي فكيف يمنعون عودتي!!!».
مصدر مطلع على سير المفاوضات بين عناصر تنظيم داعش، ووجهاء وعشائر من ذوي وأسر مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» الذين سقطوا أسرى خلال المعارك الدائرة بالباغوز، قال: «نتعامل بحذر مع ملف مقاتلينا الأسرى، لكن أؤكد أننا لا نتفاوض مع تنظيم إرهابي، ولديه خياران إما الاستسلام أو تمضي المعركة للنهاية ويتم القضاء عليهم عسكرياً».
وأكد المصدر أنّ لجنة التفاوض المشكلة من وجهاء وعشائر يتفاوضون مع مسلحي «داعش»، وبأنّ مطالبهم تفضي بنقل عناصره إلى بادية البوكمال قرب الحدود السورية - العراقية في منطقة غرب الفرات خاضعة لسيطرة (داعش)، أو إلى مدينة إدلب غرب سوريا، ويفضل قادة التنظيم الخيار الثاني.
وبحسب المصدر المطلع، رسم مسلحي التنظيم خريطة سيرهم وتنقلهم، تبدأ الحركة من بلدة الباغوز المحاصرة إلى مدينة الرقة معقل التنظيم سابقاً، ومنها يتوجهون غرباً إلى مدينة منبج المحاذية للحدود التركية، للدخول إلى مناطق فصائل درع الفرات المدعومة من تركيا، والتي تسيطر على مدن وبلدات شمال وغرب حلب، ومنها يسافرون إلى وجهتهم محافظة إدلب الخاضعة لنفوذ هيئة تحرير الشام – جبهة النصرة سابقاً - وتعد الفرع السوري لتنظيم القاعدة.
وأكد المصدر أن التنظيم يضغط على عائلات أسرى القوات لدى «داعش» ويبلغ عددهم 27 عنصرا. وقال: «من خلال الاتصالات اليومية بين الأسرى وعائلاتهم، لأجل الحصول على موافقة لنقل عناصر التنظيم إلى منطقة صحراء الرطبة جنوب غربي مدينة البوكمال، أو إلى إدلب غرباً».
وتشهد خطوط الجبهة الأمامية في بلدة الباغوز الواقعة أقصى ريف دير الزور الشمالي، هدوءًا نسبياً للأسبوع الثالث على التوالي، مع تريث «قوات سوريا الديمقراطية» شن هجومها الأخير في انتظار إجلاء آخر المدنيين وعائلات التنظيم المحاصرين، لإعلان ساعة الصفر والقضاء على التنظيم.
وشدّد المصدر أن قيادة «قوات سوريا الديمقراطية» تتعامل بحذر مع ملف إنقاذ مقاتليها والأسرى الرهائن لدى التنظيم، وقال: «لا يزال مصير المختطفين والرهائن العرب والأجانب مجهول ويرجح يكونوا بالباغوز، كما توجد فتيات ونساء إيزيديات سبايا لدى التنظيم، كل هذه الملفات الشائكة تعرقل إعلان ساعة الصفر».
وتسببت العمليات العسكرية منذ بدايتها في سبتمبر (أيلول) العام الماضي، بفرار 50 ألفاً من المنطقة الخاضعة لسيطرة التنظيم من بينهم نحو 5000 آلاف مشتبه بانتمائهم إلى التنظيم تم توقيفهم، وتقدّر «قوات سوريا الديمقراطية» وجود قرابة نحو 5 آلاف من المدنيين وعائلات «داعش» المحاصرين معهم، في الجيب الأخير الخاضع لسيطرة التنظيم.

محنة الإيزيديين

جيهان الفتاة الإيزيدية البالغة من العمر 22 سنة، والمتحدرة من مدينة شنكال العراقية، كانت مختطفة منذ أغسطس (آب) 2014. وتمكنت من الفرار من قبضة التنظيم المتشدّد، فلم تصدق كيف وصلت إلى هذه النقطة الآمنة؛ قالت: «الأمر غير قابل للتصديق. حقيقة كنت أظن أننا في عداد الموتى، أمراء التنظيم باعوني وكنت سبية لأعوام مضت. اليوم أحصل على حريتي»؛ اغرورقت عيناها بالدموع وهي تروي قصتها وفصول المأساة التي مرت بها، حيث تعرضت للاغتصاب 6 مرات، وكان عناصر التنظيم يقايضونها إما بالتبادل مع فتاة إيزيدية ثانية، أو مقابل مال، لتضيف: «أحلم بالعودة إلى منزلي للاطمئنان على من تبقى من أهلي، أشعر أن عمري تجاوز مائة سنة من العذاب الذي تعرضت له على يد هؤلاء الإرهابيين».
فيما لا يتذكر الطفل جاندار ويبلغ عمره 12 سنة يتحدر من مدينة شنكال، كيف تم خطفه ويجهل مصير عائلته، وقال: «عندما خطفني «داعش» كنت بعمر 7 سنوات، أخذوني إلى تلعفر ثم إلى الموصل»، وبحسب الطفل قام عناصر التنظيم يومذاك بفصل النساء عن الرجال وبقي الصغار لوحدهم، وأضاف: «تنقلت عدة مرات بين الموصل العراقية والرقة السورية، بعدها إلى هجين ثم السوسة وكانت آخر محطة الباغوز».
ولا يزال جاندار يعيش حالة من الصدمة ولا يصدق أنه وصل إلى نقطة آمنة خاضعة لقوات عسكرية عمادها العسكري «وحدات حماية الشعب» الكردية، وتابع ليقول: «أجبروني على اعتناق الإسلام، كنت أتعرض للسجن إذا خالفت أوامرهم، عملوا على زرع الأفكار المتطرفة في نفوسنا»، ونقل أنه عمل في صفوف «أشبال داعش» مجبراً، «كنا نعيش في معسكرات مغلقة نتلقى تدريبات، كانوا يعلموننا كيفية استخدام السلاح وأن نكون انغماسيين لتنفيذ عمليات انتحارية».
وكان يجلس إلى جانبه طفل ثانٍ يدعى دلوفان (11 سنة)، في المنطقة الأمنية القريبة من الحدود العراقية، تحدث بصوت منخفض وكان يقول اسم التنظيم كاملاً، فالخوف كان يتملكه ولا يزال يعيش حالة من الرعب، وقال: «أريد فقط العودة إلى أمي وأبي... أدعو أن يكون أهلي هناك بألف خير، لا أعلم عنهم شيئا، اشتقت لهم كثيراً وأريد العيش معهم طوال حياتي».
ويسعى الجانب العراقي وبضغط من الأقلية الدينية الإيزيدية، إلى عقد صفقة مع قادة تنظيم داعش لتحرير النساء والفتيات الإيزيديات ويتراوح عددهن بين 500 و600 مختطفة، مقابل السماح بفتح معبر أمن لخروج عناصره إلى صحراء الأنبار والتي لا تزال خاضعة للتنظيم.
وذكر الناشط الإيزيدي علي الخانصوري والذي عمل كوسيط لتحرير المختطفات الإيزيديات، في مكالمة صوتية عبر خدمة (واتساب) لـ«الشرق الأوسط»، أنّ تنظيم داعش نفذ عمليات إعدام جماعية بحق المختطفات الإيزيديات في الباغوز، وقال: «انتقاما لمقتل قادة بارزين في صفوف التنظيم الإرهابي بعد غارة جوية نفذها طيران التحالف الدولي قبل أيّام»، مضيفاً أن عمليات الإعدام تمت ذبحاً في عدة مناطق من البلدة بحق أكثر من 50 مختطفة من فتيات ونساء المكون الإيزيدي، وقال: «عناصر عراقيون وسوريون وأجانب نفذوا العملية بأمر من البغدادي». وكشف الخانصوري أنه على اتصال مع قيادي بارز من التنظيم في الباغوز بهدف تحرير من تبقى من الإيزيديات، وأكد أن قرار الإعدامات جاء بأمر من زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وهددوا مراراً التحالف الدولي و«قوات سوريا الديمقراطية» بتنفيذ المزيد من الإعدامات ما لم يتم تحقيق مطالبهم، مضيفاً: «الجهات العراقية المعنية لم تتدخل لإنقاذ الإيزيديين من هذه المجازر».



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».