رواية منطقة الجنوب السعودية.. مجرد سير ذاتية ومذكرات؟

روائيون يتحدثون عن ملامحها المميزة وخصوصياتها

مشهد من مدينة عسير
مشهد من مدينة عسير
TT

رواية منطقة الجنوب السعودية.. مجرد سير ذاتية ومذكرات؟

مشهد من مدينة عسير
مشهد من مدينة عسير

هل يمكن الحديث عن سياق موضوعي للرواية السعودية التي أنتجها روائيون ينتمون لمنطقة الجنوب السعودية؟ وتبعا لذلك؛ هل يمكن تصنيف السمات الفنية لهذه النوعية من الروايات؟ وكيف تحضر البيئة الجنوبية في الأعمال السردية السعودية خاصة أن هناك عددا كبيرا من هذه الأعمال كتبها أبناء هذه المنطقة؟ في هذا الاستطلاع، يتحدث عدد من الكتاب عن ملامح هذه الرواية وسماتها وما يميزها عن «رواية المدينة».
في البدء، يقول الروائي أحمد الدويحي: «إنني ضد تصنيف الرواية ما بين جنوبية وغير جنوبية وضد تجنيس الرواية عربية وسعودية، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك سمات تجسدت في الرواية الجنوبية التي كان من أول كتابها عبد العزيز مشري الذي جسد القرية الجنوبية في رواياته وأعماله، واستحضر في أعماله القرية بشكل حميمي، وقدم نموذج القرية في مواجهة الحضارة وجدران الإسمنت مقارنا بين الحجر الجنوبي ومعتقدات أهل الجنوب في أن الإنسان لا يبني بيته إلا من حجارة أرضه، متناولا دور البيوت الشعبية في التأثير على العلاقات الإنسانية».
ويضيف الدويحي: «كما قدم يحيى سبعي من جازان في روايته (ساق الغراب) سردا عن المنطقة الجنوبية ودلالات ذكية نقل من خلالها التكنيك الفني في روايته إلى معنى آخر أكثر عمقا مما أراد أن يجسده عبد العزيز مشري، إذ تحدث عن الصدام الحضاري ومقارنة بين الإنساني والأفكار المتشددة. في حين قدم علي الشدوي في روايته (شرقيون في جنوب الجزيرة العربية) ذات التكنيك والسياق وفلسفة عميقة استحضر فيها المنطقة وشواهدها الحضارية، كما قدم خالد المروي في روايته (مصابيح القرى) استحضارا تاريخيا عن الاستعمار التركي للجزيرة العربية، وكذلك طاهر الزهراني في روايته (نحو الجنوب) التي تأثر فيها بالطيب الصالح في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) وفيها يدعو الإنسان الجنوبي للعودة إلى الجنوب. والتكنيك الروائي لدى الشدوي بتناول المجتمع الجنوبي بطريقة أكثر شمولية وعمقا ووعيا بالرواية. وكذلك ظهر الكثير من كتاب الرواية في المنطقة الجنوبية، ومنهم إبراهيم شحبي وإبراهيم مضواح وعلي شدوي وكم هائل من كتاب القصة وكاتبات مثل نورة الغامدي وعبير العلي وغيرهن، حيث كان الجميع يدور في فلك واحد هو تلمس ملامح القرية الجنوبية ومعاناة إنسانها».
وعن نتاجه الروائي، يقول: «بالنسبة لي، قدمت سبع روايات كنت أولها (ريحانه بحس الاغتراب) ثم (أوان الورد)، وثلاثية (المكتوب)، و(وحي الآخرة) و(مدن الدخان) و(غيوم امرأة استثنائية).. ملامح المكان ومعاناة الإنسان والشواهد التاريخية من أهم سمات الرواية الجنوبية».

* حين يطغى المكان
من جهتها، قالت الروائية عبير العلي إن «الجنوب جهة شاسعة من وطن الروح وعسير قلبها النابض وتعمدت أن أنكه به روايتي (الباب الطارف) وأعمدها ملامح عسير وبعضا من ناسها بلكنتهم وحياتهم وتفاوت طباعهم، وإبراز المكان كان هدفا اعتنيت به، بدءا من تفاصيل غرفة منزوية في منزل قديم حتى فضاء أبها الحالم. ولأنني ابنة هذا المكان ومن أحبته، فحتما سيكون للجنوب بمختلف اتجاهاته ورسمه نصيبا مما أكتب».
بينما يقول الروائي إبراهيم شحبي: «لا نستطيع أن نقول إن لدينا رواية بالمعني الحقيقي فالروايات الموجودة قليلة إذا استثنينا روايات عبد العزيز مشري، فلدينا شح في الروايات»، مبينا أن المكان حاضر بقوة في كل الروايات الجنوبية، بدءا بروايات مشري ونهاية بالروايات التي لم تكتب.
لكنه يستدرك بقوله: «أعتقد أن لدينا فقرا في الأرضية الثقافية بشكل عام. وأن القصور في الثقافة الروائية مؤثر في توجه كتاب الرواية للمكان، فالمكان أشبع في جل الروايات تقريبا. أما بالنسبة لي، فقد كتبت ثلاث روايات واعتبرتها فاشلة، فأنا أعتبر أن النجاح ليس بحجم الحضور وإنما بحجم الانتشار مقارنة بالروايات في البلاد العربية وحجم النقد. فنجاح رواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان، مثلا، سببه وجود الكاتب في مكان مثل فرنسا، على الرغم من أنه كتب عن المنطقة الجنوبية».
ويضيف: «لدي إحساس أن صاحب الموهبة سيكتب، ويجب أن يتسلح بالتاريخ المعرفي الثري الذي سيعزز نجاح روايته؛ فوجود المساحات المعرفية والتاريخ الثقافي والأسطوري للأرض يفتح آفاقا جديدة. وبالطبع، الرواية الجنوبية ليست في معزل عن الرواية السعودية، لكن أغلبها يتسم بالمناطقية والسير الذاتية، ولا بد من خطوة نحو الأمام للتغيير والابتكار في العمل الروائي التقليدي».

* الرواية القروية
بينما أكد الروائي خالد المرضى أن لكل منطقة جغرافية سماتها الخاصة، ولذلك فالروايات التي كتبت في المنطقة الجنوبية لها سمات خاصة أيضا، حيث كتب عن القرية بشكل تفصيلي، وقد ظهرت بوادر هذا الأمر في روايات عبد العزيز مشري، الذي يعد رائدا في الحديث عن القرية.
وقال: «أتحفظ على تصنيف الرواية بالجنوبية فهي (الرواية القروية)، إذ إن الرواية هي بنت المدينة، لكن الروايات الجنوبية التي ظهرت غيرت النظرة نحو القرية، وأفرزت خيوطا لحبكات روائية وتجارب روائية تعد نقلة في عالم الرواية».
وتابع المرضي: «كتاب المنطقة الجنوبية اتفقوا في الحديث عن القرية والكتابة عنها، واختلفوا في الأفكار والشخصيات وطريقة الطرح. فكتاب الجنوب هم من أول كتاب المملكة في عالم الرواية، حيث الرواية عمل وليست مجرد حكاية، وهي عمل يتناول الشخصيات والعمق الفلسفي؛ سواء أكان في القرية أو المدينة، وخبرات الكتاب السعوديين في الرواية لا تتجاوز الـ50 سنة، بينما كتبت الرواية في الغرب منذ أكثر من 250 عاما، ولكن الرواية في السعودية وصلت إلى مواقع مميزة، فهي موجودة وبعمق، وهذا ما لمسناه في روايات عبده خال ورجاء عالم وغيرها من الروايات التي تصدرت في أفكارها وطريقة طرحها».
بينما يضيف الدكتور عبد الرحمن بن حسن المحسني، وهو ناقد من جامعة الملك خالد في عسير جنوب المملكة، بالقول: «لا أعتقد أن الطبيعة وحدها هي ما يميز الحكي هنا، فهناك معطيات تبدو في بعض ما يكتب، حيث الخط السياسي الآيديولوجي كان حاضرا بقوة عند عبد الله ثابت في (الإرهابي 20).. والخط الاجتماعي الحداثي في الكتابة حضر في (جبل حالية) لإبراهيم مضواح الألمعي مثلا».
ويضيف: «المكان في ظني لم يتشكل في كتابة الروائيين الجنوبيين، وعلى خلاف مدينة كالرياض التي حضرت في (بنات الرياض) لرجاء الصانع، ومكة التي حضرت تفاصيلها عن رجاء عالم وعبد الله التعزي.. وجدة التي حضرت بقوة في روايات ليلى الجهني.. على خلاف هذا الحضور المكاني لم تكتب أبها في عمل روائي يكشف عمقها المتخفي في تسميات مستفزة للبعد الكتابي مثل (حي النصب) و(حي المنسك) مثلا.. وأتمنى أن لا تبقى طويلا بعيدة عن عمل روائي حفري يفجر طاقات المكان الروائية».
ويضيف: «يحتاج الروائي السعودي بنحو عام وفي الجنوب خاصة، أن يفقه مفهوم العمل الروائي الذي يتباين عن القصة الطويلة، ويبنى على رؤية استراتيجية تحرك مسار الرواية، وهو ما تفتقده جل الروايات السعودية». مبينا أن أزمة الرواية السعودية تكمن في المضامين، التي ما زالت تئن تحت وطأة القضايا الاجتماعية التي جعلت كثيرا من الروايات السعودية نسخا مطورة عن بعضها.

* الطبيعة والأرض
ويرى الأديب والكاتب يحيى العلكمي أن ما يميز الرواية الجنوبية هو التصاقها بالأرض، وتعلق الروائي بالطبيعة الاجتماعية وآمالها وآلامها فشخوص الروائي الجنوبي حميمة ووادعة، وقلما يكتب الروائي في الجنوب رواية عنيفة أو تكثر فيها الصراعات، فهي تتماهى مع الطبيعة ومع الناس وحياتهم اليومية، ولديها حنين إلى الماضي، وتكريسه بأخطائه ونجاحاته، كما أن نظرتها إلى المستقبل نظرة ليست بعيدة؛ فلا تستشرف المستقبل وتكتفي بالواقع.
ويعتقد العلكمي أن معظم الروايات الجنوبية عبارة عن سير ذاتية ومذكرات، ولكن الاختلاف والتميز برز في روايات محمد حسن علوان في خروجه عن المألوف إلى مقاربات اجتماعية وسياسية واقتصادية خارج نطاق اليوم المعتاد.
أما الأديب أحمد التيهاني فيقول: «لم أعثر على روايات مبكرة تمثل طور نشأة هذا الفن بهذه المنطقة, وتكون موازية - زمنيا - للروايات السعودية الأولى, وذلك أمر بديهي إذا نظرنا إلى أدب هذه الجهة بوصفِه جزءا من الأدب السعودي؛ إذ كان رواد الأدب في المملكة العربية السعودية ينتمون إلى مناطق أخرى هي أكثر قدرة على تقبل هذا الفن الجديد، وذلك لما تهيأ لأدبائها من أسباب الاطلاع على تجارب نظرائهم في البلاد العربية المجاورة, ولأن أدباء الحجاز - على وجه الخصوص - كانوا أقرب إلى الانفتاح على الفنون الجديدة، ذلك أن الفن الروائي مرتبط بالتطور الاجتماعي الذي كانت الحجاز أسبق إليه لأسباب معلومة، وهو - كالفنون الأدبية الأخرى - يرتبط بالتحولات الاجتماعية السريعة، والاضطرابات غير المألوفة, وقد كانت الحجاز الأسرع نموا، وتطورا، ولذا بادر الحجازيون إلى الأنواع الأدبية الجديدة قاصدين ذلك, فقد كان هناك نوع من الرفض لهذا الفن في بدئه الأول، ولذلك أسباب تتعلق بكون الرواية تعتمد على تعقيدات العلاقة بين الجنسين التي يرفضها المجتمع السعودي ولعلاقتها - في تاريخها - بنقد الثابت الاجتماعي والعقدي, فضلا عن كونها فنا دخيلا على العربية يحتاج إلى التمكن, والوعي, قبل ممارسة الكتابة».
ويضيف: «الحق أن تأخر ظهور الرواية عند أدباء عسير كان سببا في حرق المراحل, وهي سمة إيجابية حين ينظر إلى الأعمال الروائية من ناحية النضج الفني، لا من ناحية الريادة التاريخية, ولذا لم تمر الرواية في عسير - عند النظر إليها بوصفها جزءا من الفن الروائي السعودي - بما سماه البعض (المعيار الزمني) ، ويقصد به أولية الإنتاج وريادته, ولم تشهد الرواية في عسير مراحل الإرهاصات الأولى التي لا تكون على درجة عالية من النضج, كما أنها لم تشهد ما يتبع البدايات من التراخي, والانحسار, اللذين قد يحدثان نتيجة عدم مواءمة الجنس الأدبي للواقع الاجتماعي, وإنما ظهرت ناضجة بوصفها حلقة في سلسلة مراحل نشأة الرواية السعودية».



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

 

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.