أعادت عملية هدم مبنى «وكالة العنبريين» بمنطقة شارع المعز، بوسط القاهرة، الجدل مرة أخرى حول حماية وتسجيل المباني الأثرية الإسلامية المنتشرة في ربوع مصر، خصوصاً عقب إخلاء وزارة الآثار المصرية مسؤوليتها عن مبنى «العنبريين» بحجة أنه غير مسجل في عداد الآثار الإسلامية والقبطية.
بدأت حالة الجدل عندما بدأ مالك «وكالة العنبريين» في هدم واجهة الوكالة، لينتشر الخبر بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي، مع مطالبة وزارة الآثار بالتدخل لحماية المبنى الأثري، لكن وزارة الآثار أصدرت بياناً صحافياً مقتضباً أعلنت فيه أنها غير مسؤولة عن المبنى، وهو ما فتح الباب لمناقشة أوضاع المباني الأثرية غير المسجلة بحجة ملكيتها الخاصة أو عدم توافر ميزانية لتسجيلها وترميمها.
من جهته، قال الدكتور محمد عبد المقصود، الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار، لـ«الشرق الأوسط»، إن «عدم تسجيل المبنى ضمن الآثار الإسلامية هو نوع من التقصير من جانب وزارة الآثار»، مشيراً إلى أن «النيابة الإدارية طلبت من الوزارة تسجيله»، وأضاف: «كون المبنى غير مسجل لا يعني أنه ليس ذا قيمة أثرية، فالمبنى له تاريخ منذ الحملة الفرنسية على مصر»، واصفاً ما يحدث بأنه «استخفاف بقيمة الآثار المصرية وبعقول المصريين»، متسائلاً: «إذا لم تكن وزارة الآثار مسؤولة، فمن يتحمل مسؤولية الدفاع عن المباني التاريخية غير المسجلة في عداد الآثار؟».
وتاريخياً كانت وكالة العنبريين سوقاً في عصر المماليك، أُقيمت في موقع سجن يعود لزمن الدولة الفاطمية، كان يطلق عليه «سجن المعونة»، ويقال إن السلطان المنصور قلاوون كان يمر على السجن في عهد السلطان الظاهر بيبرس ويشتمّ رائحة كريهة تنبعث من المكان وسط صيحات المسجونين، فنذر لله نذراً أن يحسّن المكان فور توليه المُلك، وعندما تولى حكم مصر هدم السجن وبنى سوقاً للعنبر سنة 680 هـ - 1281م، ولذلك عرف المكان باسم وكالة العنبريين.
ورغم القيمة التاريخية للمبنى، فإنه لم يتم تسجيله كأثر. يقول الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية، لـ«الشرق الأوسط»: «هناك عدد كبير من المباني الأثرية غير مسجل في قوائم وزارة الآثار، بينها مقابر تاريخية في منتهى الجمال، ووكالات، وغيرها، لأن التسجيل يحتاج إلى إجراءات وميزانيات ضخمة، وفي النهاية لا يوجد عائد يمكن جنيه من ترميم هذه المباني»، مشيراً إلى أن «الحد الأدنى لترميم وتسجيل مبنى من هذه المباني هو 5 ملايين جنيه، وهو مبلغ كبير خصوصاً أن وزارة الآثار ليست لها ميزانية وتعتمد على عائدات السياحة».
وأضاف أن «وكالة العنبريين وغيرها من المباني غير المسجلة هي مباني ملكية خاصة، لا تستطيع وزارة الآثار التدخل لحمايتها، أو وقف هدمها»، مشيراً إلى أن «الحل يكمن في مشروع قومي يتم من خلاله حصر هذه المباني ونقل ملكيتها للدولة وتعويض مالكيها، وهذا عبء كبير جداً على وزارة الآثار».
وليست الميزانية هي المشكلة الوحيدة التي تعيق تسجيل هذه المباني، فالمشكلة الكبرى تكمن في «انعدام التنسيق بين الوزارات»، خصوصاً أن كثيراً من هذه الوكالات مملوكة لوزارة الأوقاف المصرية.
وقال الكسباني إن «عدداً كبيراً من الوكالات مملوك لوزارة الأوقاف، التي تعلن عن بيعها في مزادات علنية، ويتم بيعها بأسعار قليلة جداً، ليحوّلها المالك الجديد إلى عمارة أو مبنى حديث»، مؤكداً أن «المشكلة تكمن في تداخل الاختصاصات، وهي نفس مشكلة المساجد الأثرية التي تملكها وزارة الأوقاف وترممها وزارة الآثار».
واتفق الدكتور محمد الكحلاوي، أمين اتحاد الأثريين العرب، مع الكسباني، وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن «المشكلة الكبرى هي عدم التنسيق»، موضحاً أن «وزارة الأوقاف تبيع كثيراً من هذه المباني الأثرية ومَن يملك المال هو الذي يستطيع شراءها، دون أي رقابة أو مساءلة من أحد لحماية تاريخ مصر»، وتابع مستنكراً: «هل توجد دولة عاقلة تهدم وكالة أثرية...؟ هذه كارثة بكل المقاييس».
من جهته، قال المستشار محمد سمير، المتحدث الرسمي باسم النيابة الإدارية، في تصريحات صحافية، إن «النيابة فتحت تحقيقاً إدارياً حول هدم الوكالة، وأنها أوصت وزارة الآثار بتسجيل المبنى كأثر بعد تشكيل لجنة أثرية أكدت توافر المواصفات الأثرية في المبنى، لكن وزارة الآثار أصدرت بياناً أكدت فيه عدم أثرية العقار رقم 88 فتم هدم المبنى».
من جهته، أوضح محمد عبد العزيز، المشرف على القاهرة التاريخية، في تصريحات صحافية، أن «المبنى عبارة عن أنقاض، ومقلب قمامة ومكان خَرِب من الداخل، ولا توجد به سوى الواجهة»، مشيراً إلى أن «اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية رفضت تسجيل المبنى كأثر نحو 3 مرات منذ عام 2004، لأن المكان لا يحمل أي قيمة أثرية، ولا يوجد له مخطط ولا معالم أثرية أو بنائية على الإطلاق».
من جانبه أكد فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، لـ«الشرق الأوسط»، أنه «طلب من المجلس الأعلى للآثار مرتين تسجيل المبنى كأثر في عامي 2005 و2007، لكن اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية رفضت تسجيله»، مشيراً إلى أن «تسجيل المباني كآثار يخضع للقيمة الذهنية والفكرية لكل إنسان، وعدم تسجيل الوكالة لا يعني أنها ليست أثراً، وإذا كان بعض الناس لا يستطيعون تقييم قيمة الأثر فلنبحث عن غيرهم».
وأضاف أن «شارع المعز شارع له طابع تاريخي، بمبانيه وواجهاته، وهذه الوكالة جزء منه، حتى لو كانت واجهة فقط، فهي جزء من التاريخ كان ينبغي الحفاظ عليها، واستغلال المساحة الموجودة خلف الواجهة، والتي وُصفت بالخرابة، في أي شيء»، متسائلاً: «ما دور الترميم إذا كنا سنهدم أي مبنى بحجة أنه خرب؟ ولماذا لا نتعلم من الدول الأخرى مثل المغرب وتونس والبحرين وأوروبا كيفية الحفاظ على الواجهات الأثرية وعلى الهوية التاريخية؟».
ووصف حسني هدم وكالة العنبريين بأنه «جريمة ومأساة بكل المقاييس»، مطالباً بالتحقيق فيها، ومحاسبة المسؤولين، وقال: «لو لم نفعل ذلك سنتحول إلى دولة مسخ دون تاريخ».
======= =====================شرح الصور: ===================================
1: هدم وكالة العنبريين أثار غضب متابعي الآثار في مصر (متابعون أثريون)
2: شارع المعز بوسط القاهرة الفاطمية الذي شهد عملية هدم أحد مبانيه التاريخية (الشرق الأوسط)
المباني الأثرية الإسلامية غير المسجلة في مصر تراث خارج الحماية
الملكية والتمويل أهم المعوقات
المباني الأثرية الإسلامية غير المسجلة في مصر تراث خارج الحماية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة