إليزبيث وارين «باكورة» تحدّي الديمقراطيين لمعركة الرئاسة الأميركية 2020

جمهورية سابقة ووجه بارز في مواجهة «اليسار» الأميركي لدونالد ترمب

إليزبيث وارين «باكورة» تحدّي الديمقراطيين لمعركة الرئاسة الأميركية 2020
TT

إليزبيث وارين «باكورة» تحدّي الديمقراطيين لمعركة الرئاسة الأميركية 2020

إليزبيث وارين «باكورة» تحدّي الديمقراطيين لمعركة الرئاسة الأميركية 2020

أدى الأعضاء الجدد في الكونغرس اليمين الأميركي بالأمس اليمين الدستورية لتولي مناصبهم. وكان بينهم توليفة من الوجوه التي شكل وصولها إلى مجلس النواب، خاصة، رداً على التيار المحافظ الذي حقق انتصاره الأكبر عبر فوز دونالد ترمب بالرئاسة قبل سنتين. وضمت هذه التوليفة أعداداً متزايدة من النساء والمثليين وممثلي الأقليات العرقية والدينية، ناهيك من الجماعات الراديكالية التي ضمت ناشطين يصفون أنفسهم علانية بـ«اليساريين» أو «التقدميين» أو «الاشتراكيين». وكانت حظوظ هؤلاء قد انتعشت، فخرجوا من «الظل» عبر تحدّي السيناتور اليساري بيرني ساندرز الوزيرة والسيناتورة السابقة هيلاري كلينتون على ترشيح الحزب الديمقراطي ضد ترمب في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2016. هذا التطور تزامن مع إعلان أول شخصية قيادية في الحزب الديمقراطي نيتها خوض معركة الرئاسة المقبلة في نوفمبر 2020. وبالفعل، كانت هذه الشخصية السيناتورة إليزابيث وارين، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس، وهي بجانب كونها امرأة، فإنها تعد اليوم ضمن التيار الليبرالي «التقدمي» المتشدد في عدائه السياسي لترمب ولحزبه الجمهوري، مع أنها أصلاً كانت عضواً في الحزب الجمهوري وظلت فيه حتى العام، كما أنها أصلاً من ولاية أوكلاهوما المحافظة التي تعد حاليا من معاقل الجمهوريين الانتخابية.

يجمع راصدو المشهد السياسي في الولايات المتحدة على أن «المعسكر الديمقراطي» لا يفتقر إلى الكفاءات المؤهلة لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة المتوقعة عام 2020. ولعل الانتخابات النصفية التي أجريت في نوفمبر (تشرين الثاني) قد زادت حدة التنافس بين الحزبين الكبيرين، أي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. إذ استطاع الجمهوريين، رغم توقع كثيرين أن تؤدي سياسات الرئيس دونالد ترمب الراديكالية لنفور كثرة من الناخبين المعتدلين منهم، ليس فقط الاحتفاظ بغالبيتهم في مجلس الشيوخ، بل تعزيز غالبيتهم فيه. وبالتالي، خاب أمل أولئك الذين توقعوا «انقلاباً» داخل «المؤسسة الحزبية» على خط ترمب وتياره اليميني المتشدد.
وفي المقابل، تمكّن الديمقراطيون من تحقيق انتصارات كاسحة في مجلس النواب، مستعيدين السيطرة عليه بعد سنوات كثيرة. ومن ثم، أطلقوا لأنفسهم «قوة دفع» مهمة عبر وجوه جديدة وتيارات شابة ديناميكية تعكس التبدّلات الحاصلة في المجتمع الأميركي يساراً ويميناً. وكان لافتاً أن عدداً من الوجوه الجديدة التي برزت، سواء في مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، تمثل أساساً المكوّنات والكتل التي استهدفتها وتستهدفها ظاهرة ترمب. وهذا ما فسّره الراصدون والمحللّون بأنه بدايات رد فعل قد يرسم ملامح المرحلة المقبلة على الساحة السياسية الأميركية.

استقطاب آيديولوجي

ردّ الفعل هذا «آيديولوجي» لا لبس فيه ولا تقاطعات. وحقاً، ثمة قناعة باتت الآن أثبت أكثر من أي وقت مضى، بأنه ما عاد هناك سياسي جمهوري واحد على «يسار» الديمقراطيين... ولا ديمقراطي واحد على «يمين» الجمهوريين. وبناءً عليه، مع افتتاح السيناتورة إليزابيث وارين (ولاية ماساتشوستس) ترشيحات الديمقراطيين لمعركة 2020، يغدو «السيناريو» المرتقب للمنافسة على تمثيل الحزب الديمقراطي محصوراً بأمرين اثنين: الأول هو اختلاف المزاج والطبع الشخصي بين المرشحين. والثاني هو الأسلوب الأمثل - أو حتى المقاربة المثلى - الذي ينوي كل مرشح اعتماده في الصراع مع حزب جمهوري تقوده الطروحات الشعبوية الراديكالية المتشدّدة.
السيناتورة وارين تُعدّ في طليعة مرشحي ما يمكن اعتباره تيار المواجهة والصدام «اليساري» مع ظاهرة دونالد ترمب. وهي أكاديمية ومحامية وسياسية نشطة لم تتردد لحظة منذ بروزها اللافت في مجلس الشيوخ، بل حتى قبل ذلك، في تبني خطّ صريح لا مواربة فيه، تحت شعارات العدالة الاجتماعية والتسامح والانفتاح والنزاهة المالية والمساواة العرقية. ومن أهم بصماتها على الصعيد المطلبي دفعها النشيط والدؤوب لتأسيس «مكتب الحماية المالية للمستهلك».

بطاقة هوية

ولدت إليزابيت هيرينغ، وهذا هو اسمها الأصلي قبل الزواج، يوم 22 يونيو (حزيران) 1949 في مدينة أوكلاهوما سيتي عاصمة ولاية أوكلاهوما وكبرى مدنها. وهي الولد الرابع الأصغر والبنت الوحيدة لعائلة بروتستانتية تتبع الكنيسة النظامية من الطبقة المتوسطة. وكان أبوها (توفي عام 1997) يعمل في قسم المبيعات في سلسلة متاجر مونتغمري وارد. وحسب ابنته، يتصل نسبه بأصول أميركية أصلية (هندية حمراء)، مع العلم أن ولاية أوكلاهوما تعد من أهم مواطن الأميركيين الأصليين بين الولايات الأميركية، وأسست خصيصاً من أجلهم.
عاشت إليزابيث في مدينة نورمان الجامعية الصغيرة القريبة من أوكلاهوما سيتي حتى سن الـ11 من عمرها، قبل أن تنتقل العائلة إلى العاصمة القريبة. وبسبب معاناة أبيها من أزمة قلبية اضطرت لدخول سوق العمل باكراً لمساعدة عائلتها ماديا، بالتوازي مع متابعتها دراستها، حيث تفوقت خصوصاً في المناظرات. بل أدى هذا التفوق الذي توّج بفوزها ببطولة المدارس في المناظرات، ولاحقاً إلى ظفرها - وهي في سن السادسة عشرة - بمنحة جامعية إلى جامعة جورج واشنطن الخاصة المرموقة في العاصمة واشنطن. في تلك المرحلة كان حلم إليزابيث أن تغدو مدرّسة، بيد أنها بعدما أنهت سنتين من الدراسة الجامعية في واشنطن تزوّجت من زميل الدراسة الثانوية جيم وارين، وانتقل الزوجان الشابان إلى مدينة هيوستن بولاية تكساس حيث عملت في شركة آي بي إم. وفي تكساس، التحقت إليزابيث بجامعة هيوستن وتخرّجت فيها بدرجة البكالوريوس في العلاج النطقي والسمعي، ولمدة سنة عملت في تعليم الأطفال من ذوي الحاجات التعليمية الخاصة بإحدى المدارس الحكومية. بعدها انتقل الزوجان إلى ولاية نيوجيرسي المتاخمة لمدينة نيويورك، بسبب ظروف عمل الزوج. وفي هذه الفترة تفرّغت للأمومة بعدما رزقت ببنت سمتها إميليا، غير أن طموحها العلمي دفعها لمتابعة دراساتها العليا بعد بلوغ طفلتها السنتين. وبالفعل التحقت بكلية الحقوق في جامعة رتغرز (جامعة نيوجيرسي الحكومية) بفرعها في مدينة نيوآرك.
تخرّجت بشهادة القانون عام 1976. وقبل ذلك رزقت بمولودها الثاني ألكسندر. لكن الطلاق وقع بين إليزابيث وجيم في عام 1978، ولم تلبث أن تزوجت للمرة الثانية مع أستاذ القانون بروس مان، لكنها احتفظت - وهي اليوم جدة - باسمها من زواجها الأول حتى اليوم.

الأكاديمية والسياسية

انطلقت إليزابيث وارين في المرحلة التالية من حياتها في المجال الأكاديمي أولاً، ثم المجال السياسي. وتنقلت بين جامعة تكساس وجامعة بنسلفانيا وجامعة هارفارد أستاذة ثم أستاذة كرسي للحقوق، متخصصة في القانون التجاري والمالي، وخاصة، الإفلاسات.
وفي عام 1996، تحوّلت قناعاتها السياسية وتركت الحزب الجمهوري لتغدو ناشطة ديمقراطية. ولمع نجمها بصفتها أستاذة قانون متميزة ومرجعا كبيرا في تخصصها، كما نشطت من واقع اهتمامها المهني وخلفيتها الأكاديمية بحماية حقوق المستهلكين، والاقتصاد الأميركي، والتمويل.
وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 اختيرت رئيسة للجنة الكونغرس الرقابية المكلفة الإشراف والرقابة على «برنامج إغاثة الموجودات» (تارب). ولاحقاً عينت مساعدا لرئيس الجمهورية ومستشاراً خاصة لوزير الخزانة لشؤون «مكتب الحماية المالية للمستهلكين» في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

دخول مجلس الشيوخ

في عام 2011 أعلنت إليزابيث وارين ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس عن الحزب الديمقراطي ضد السيناتور الجمهوري سكوت براون، الذي فاز بانتخابات لملء المقعد الشاغر بوفاة السيناتور المخضرم إدوارد كنيدي.
وفي انتخابات نوفمبر 2012، التي حصلت قبلها على ترشيح الديمقراطيين بالتزكية من دون منافسة، فازت بالانتخابات متغلبة على براون، جامعة ما نسبته 53.7 في المائة من الأصوات لتغدو أول امرأة تمثل ماساتشوستس في مجلس الشيوخ. وبعد دخولها، انضمت لعدد من اللجان المؤثرة وذات الصلة باهتماماتها الإنسانية والقانونية والمالية، ولا سيما تلك التي تتعلق بالمعوزين والمسنّين والصحة والتعليم والطبقة العاملة.
وبفضل نجاحاتها، وقوة أدائها، جدّدت فوزها بفارق مريح يزيد على 60 في المائة في انتخابات مجلس الشيوخ في خريف 2018، وباتت من شخصيات الحزب الديمقراطي التي يُحسب حسابها، لا سيما، في مواجهة الرئيس دونالد ترمب.
عن تحوّلها السياسي في عام 1996، مع أنها صوّتت لأول مرة للديمقراطيين قبل سنة في عام 1995، قالت وارين في حديث صحافي «كنت جمهورية لأنني كنت أظن أن الجمهوريين هم أفضل من يدعمون الأسواق». وحسب قولها فإن هذا الأمر ما عاد صحيحاً باعتقادها، بل إن الحزب الجمهوري «ما عاد حزباً ملتزماً ومبدئياً في نهجه المحافظ للاقتصاد والأسواق، إذ بات - كما ترى - ميالاً لاسترضاء المؤسسات المالية الكبرى على حساب أبناء العائلات الأميركية من الطبقة المتوسطة». لكنها، مع هذا، ومع تسارع ميلها إلى مواقع اليسار الصريح، ترى أنه لا يجوز أن يسيطر أي من الحزبين على المشهد السياسي بالكامل.

الانتخابات الرئاسية الأخيرة

قبيل الانتخابات الرئاسية، أعلنت وارين أنها لا تنوي خوض الانتخابات التمهيدية للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، على الرغم من أن بعض مناصريها طرحوا اسمها. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2013 كانت واحدة من 15 امرأة من أعضاء مجلس الشيوخ وقعن بياناً دعمن فيها ترشح وزيرة الخارجية والسيناتورة السابقة هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس الأسبق بيل كلينتون. وبعد كلام كثير عن احتمال اختيارها لتكون المرشحة لمنصب نائب الرئيس، أعلنت وارين رسمياً دعمها الكامل لهيلاري كلينتون. وشاركت بقوة وهمّة في حملات كلينتون الانتخابية.

خوض انتخابات 2020

وهكذا، لدى النظر إلى مسيرة هذه السياسية اللامعة، والطموح أيضاً، كان كثيرون يتوقعون أن يكون اسمها بين الأسماء التي تفرض نفسها على ترشيحات الديمقراطيين لمعركتهم التالية الكبرى ضد الجمهوريين... وسياسات دونالد ترمب.
كان أول الغيث في تلميح لها في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي ببلدة هوليوك في ماساتشوستس، عندما قالت إنها «ستنظر جدياً» في احتمال الترشح. ولكن الانتظار لم يطل كثيراً. إذ في آخر أيام 2018، يوم 31 ديسمبر (كانون الأول)، أعلنت وارين أنها بصدد تشكيل «لجنة استكشافية» حول ترشحها للانتخابات الرئاسية... وهي الخطوة العملية الحقيقية لافتتاح أي حملة انتخابية على هذا المستوى. وبذا، باتت أول شخصية ديمقراطية تعلن دخولها الحلبة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.