فالح الفياض... بين «الظل» و«الواجهة»

المرشح لوزارة الداخلية الحساسة في الحكومة العراقية

فالح الفياض...  بين «الظل» و«الواجهة»
TT

فالح الفياض... بين «الظل» و«الواجهة»

فالح الفياض...  بين «الظل» و«الواجهة»

فالح الفياض الرئيس السابق لهيئة «الحشد الشعبي» العراقي والرئيس السابق لجهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني السابق، يبدو الآن طرفاً مباشراً في واحدة من أعمق الأزمات التي تمرّ بها العملية السياسية في العراق بعد انتخابات مايو (أيار) الماضي. وعلى الرغم من تعددية المواقع التي شغلها ويشغلها دائماً، حزبياً وسياسياً، فإن الفياض - المرشح لحقيقة وزارة الداخلية المهمة والحسّاسة في حكومة عادل عبد المهدي - رجل لا يميل إلى الأضواء الساطعة. بل، على العكس، يفضل دائما دور «رجل الظل» الذي يفضّل الهدوء وسط عملية سياسية سمتها الأساسية الأضواء والمعارك والاحتدامات والمناكفات بين أطرافها، زعامات وأحزاباً وكتلاً وقياداتٍ دينية كانت أم سياسية.

من منطلق المواقع الأمنية التي شغلها فالح الفياض طوال السنوات الماضية في العراق، سواء كرئيس لهيئة «الحشد الشعبي» أو كرئيس لجهاز الأمن الوطني أو كمستشار الأمن الوطني، فإنه أصبح لاعباً أمنياً قوياً سمحت له مناصبه بأن يتكفّل بحمل الرسائل الخاصة إلى قيادات «التحالف الرباعي» القائم بين العراق وسوريا وإيران وروسيا. إذ ربطته علاقة قوية في سوريا مع بشار الأسد، وكذلك بقيادة إيران التي يجري الحديث الآن في الأوساط السياسية العراقية المقرّبة من صنع القرار أنها هي مَن تدعمه لمنصب وزير الداخلية.
الفياض سياسي قليل الكلام، لم يؤكد أو ينفي صحة ما يجري تداوله من أخبار، بدءاً من عملية انشقاقه من ائتلاف «النصر» بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي - الذي يقال إنه كسر ظهر «النصر» والعبادي معاً - وصولاً إلى أنباء تنافسه على منصب رئاسة الوزراء مع مجموعة من المتنافسين البُدلاء في أعقاب تراجع حظوظ كل من حيدر العبادي، الذي كان منافساً قوياً... وهادي العامري الذي رشح نفسه هو الآخر.
الفياض، هو شيخ عشيرة البوعامر العريقة في العراق، التي تعد إحدى أهم القبائل الشيعية في «حزام بغداد»، بينما تغلب صفة الانتماء إلى الطائفة السنّية على معظم قبائل «حزام بغداد». وهذا أمر كان ولا يزال له دلالته في الوضعين الأمني والسياسي في البلاد عموماً، وفي العاصمة بغداد بالدرجة الأولى.
في فترة من الفترات، كانت تنفجر في العاصمة بغداد وحدها أكثر من عشر سيارات مفخّخة تخلف عشرات، إن لم يكن أحياناً، مئات القتلى والجرحى. وكانت التهمة الدائمة أن مناطق «حزام بغداد» تكاد تكون أبرز الحواضن، التي إما تنطلق منها تلك السيارات المفخّخة أو المجاميع الإرهابية... حتى على عهد تنظيم القاعدة، وقبل ظهور تنظيم داعش بعد عام 2012، أو تأتي من الفلّوجة، أيام كانت الأخيرة توصف بأنها إحدى أكبر بؤر التوتر أيام كان «القاعدة» ومن ثم «داعش» يسيطر عليها.
وبالنظر لما يمكن أن يترتب على ذلك من توتّر أمني قد يقود إلى تقويض السلم الأهلي داخل العاصمة ومحيطها، كان الفياض - الذي هو نجل شيخ عشيرة البوعامر - أحد أبرز الداعمين للسلم الأهلي في تلك المناطق عن طريق نزع فتيل الأزمات التي تحصل بسبب ذلك. وهذا عامل جعله ينسج علاقات قوية مع تلك القبائل رغم الاختلاف المذهبي.
مع ذلك، فإن الاتهامات التي بقيت توجّه إليه حين تولى منصب رئاسة جهاز الأمن القومي تتمثل في كونه قرّب أبناء عشيرته وعائلته في المواقع المختلفة لمؤسسات هذا الجهاز.
وفي العراق، حيث لا تزال النزعة العشائرية هي الغالبة على أصعدة مختلفة - من بينها الصعيد السياسي - كثيرا ما تتمكن تلك العشائر من تقديم عدد من أبنائها إلى واجهة المشهد السياسي، وهذا ما يمنحهم حصانة مزدوجة.
والقصد، من الحصانة المزدوجة أنها مرة حصانة المنصب الرسمي، لا سيما، إذا كان الشخص المقصود نائباً ومسؤولاً كبيراً، ومرة ثانية حصانة الثقل العشائري الذي يتيح للشخص المناورة كثيراً حتى في أحلك الظروف.
بين البُعدين السياسي والعشائري، بالنسبة لفالح الفياض، بدا الأمر صعباً في الآونة الأخيرة، حين تحوّل الصراع بشأنه بين أهم كتلتين في البرلمان العراقي المنتخب حديثاً، وهما كتلة «الإصلاح والإعمار» التي تضم زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، وحيدر العبادي زعيم ما تبقى من ائتلاف «النصر» (بعد انشقاق الفياض عنه)، وعمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، وإياد علاوي زعيم «الوطنية»، وبين كتلة «البناء» التي تضم «الفتح» بزعامة هادي العامري و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و«المحوَر الوطني» السنّي - بتعدد زعاماته - إلى صراع سياسي مفتوح على كل الاحتمالات.
بين «الظل» و«الواجهة»
وسط هذا المستوى الخطير من الصراع، لا يزال الفياض يتأرجح بين «الظل»، حيث يحجم عن التعبير عن رأيه فيما يجري حوله وبسببه، و«الواجهة»، حيث هو لا سواه سبب الأزمة، مثلما يرى خصومه أقطاب كتلة «الإصلاح» وفي المقدمة منهم زعيم «التيار الصدري» وزعيم تحالف «سائرون» مقتدى الصدر الذي يواصل فرض «الفيتو» على قبول تثبيت الفياض وزيراً للداخلية.
الفياض (المهندس، وشيخ العشيرة، والمستشار) الذي يفضل، مثل سواه من زعامات الطبقة السياسية العراقية الحالية، لقب «الحاج» لكونه جامعاً مانعاً... بحيث يجب ما قبله من ألقاب وصفات وأسماء، صامت حيال هذا «الفيتو».
المرة الوحيدة التي تكلّم فيها الفياض بشكل واضح هي أنه حين انشق عن ائتلاف «النصر» بزعامة العبادي الذي كان يضم 43 نائباً - وهو ما كاد يُرجح كفة كتلة «الإصلاح» ككتلة أكبر ترشح رئيس الوزراء - لينضم إلى كتلة «البناء».
العبادي، وعلى إثر ذلك أقال الفياض من مناصبه الأمنية (رئيس هيئة «الحشد الشعبي» ورئيس جهاز الأمن الوطني ومستشار الأمن الوطني) دفعة واحدة. وكان التبرير الذي قدّمه العبادي حيث حصل هذا الأمر إبّان الأيام الأخيرة من عمر حكومته، عندما تحولت إلى «حكومة تصريف أعمال»، هو أن «الفياض سياسي، وزعيم حزب، وفائز بالانتخابات، وبالتالي لا يحقّ له تسلم مواقع أمنية».
هذا الإجراء الذي اتخذه العبادي رفضه الفياض، وعدّه قضية سياسية بحتة. ومن جانبها، فإن كتلة «البناء» لم تنس هذا «الفضل» للفياض. وبالفعل، فإن الأوساط المقربة من الكتلة - وكذلك منافسيها - تؤكد أن هذه الكتلة وعدته بمنصب وزير الداخلية بعدما كان مثل العبادي والعامري وشخصيات أخرى أحد مرشحي التسوية لرئاسة الوزراء أيام لم يكن اسم عادل عبد المهدي مطروحا لهذا المنصب. والجدير بالذكر، أن عبد المهدي كان قد كتب مقالة شهيرة في جريدة «العدالة» كان عنوانها ما يشبه الاعتذار عن عدم قبول المنصب في وقت مبكر، مبينا أن «الشروط (لتوليه رئاسة الحكومة) غير متوافرة».
إلا أنه بعد نحو شهرين من تداول أسماء المرشحين لمنصب رئيس الوزراء، كان الفياض - وهذه من المفارقات - يروّج للعبادي بوصفه مرشح ائتلاف «النصر» للمنصب، وذلك أيام كان الفياض جزءاً من «النصر» بزعامة العبادي.
بعد ذلك بدأت المتغيرات المتسارعة ابتداء من شهر يوليو (تموز) الماضي حين انطلقت مظاهرات البصرة التي استمرت لأكثر من شهرين، ثم تحولت إلى عمليات حرق متبادل للمقرات الحكومية والحزبية، وحتى القنصلية الإيرانية. وعندها، وجدت الطبقة السياسية العراقية أنها وصلت إلى طريق مسدود.

حين توافرت الشروط

في ظل تعثر جهود البحث عن مرشح مقبول لرئاسة الوزراء بعد فشل كل من كتلتي «الإصلاح» «البناء» في تكريس واحدة منهما ككتلة أكبر داخل البرلمان، تغيّرت الحسابات. وبينما لم تسجل أي من الكتلتين نفسها في الجلسة الأولى للبرلمان كـ«كتلة أكبر» أولم تتقدم أي منهما إلى المحكمة الاتحادية بوصفها «كتلة أكبر»، جاء الاتفاق الذي أبرمه زعيم «سائرون» مقتدى الصدر و«الفتح» هادي العامري لتجاوز مسألة «الكتلة الأكبر». ومن ثم، التفاهم بين الكتلتين اللتين تملكان أجنحة عسكرية على أن تتشارك، كلتاهما، في الحكومة عن طريق المجيء بـ«مرشح توافقي».
للعلم، عندما سحب العامري ترشحه لمنصب رئيس الوزراء، كانت حظوظ حيدر العبادي قد تراجعت بعد انسحاب الفياض من ائتلافه. ومن ناحية ثانية، الفياض لم يعد تسويقه مرشحا لرئاسة الوزراء عقب التوافق بين العامري والصدر.
وفي نهاية المطاف، لم يبق في الميدان سوى رجل الاقتصاد المرموق عادل عبد المهدي. وهكذا طرح اسم عبد المهدي، خريج السوربون في باريس، والبعثي في مطلع شبابه، والشيوعي الماوي في منتصف شبابه، والإسلامي المنفتح بين كهولته وشيخوخته (عبد المهدي من مواليد 1942) كمرشح توافقي لرئاسة الحكومة.
إذن توافرت بذا الشروط التي كانت غير متوفرة، وتقدّم عبد المهدي ليتسلم التكليف بتشكيل الحكومة بعد نحو ساعة ونصف من انتخاب الدكتور برهم صالح رئيساً للجمهورية.
لم يتم ترتيب الأوراق. وسرعان ما برزت الخلافات بين مختلف الأطراف.
في المقابل، حبل الود، على الرغم من المشكلات، بقي موصولاً بين العامري والصدر حتى بعد بدء عبد المهدي إجراء المفاوضات لتشكيل حكومته.
السيد مقتدى الصدر تنازل عن حصة كتلة «سائرون» من الوزارات، ومنح عبد المهدي الحرية في اختيار الوزراء شريطة أن يكونوا مستقلين. والعامري، من جهته، وعقب إعلان الصدر، أعلن عن تنازل كتلة «الفتح» عن المناصب الوزارية.
بيد أن الصدر الذي يحتفظ بزعامة مطلقة داخل «التيار» و«سائرون» ظل يتمتع بأفضلية لم تكن تتوافر للعامري الذي هو زعيم فيلق «بدر» ضمن كتلة «الفتح»، التي تضم أيضا كتلة «عصائب أهل الحق» التي لم تكن تشارك كثيرا رؤية العامري في منح عبد المهدي مطلق الحرية في اختيار الوزارات. ليس هذا فحسب، بل إنه ضمن الشروط التي تم التوصل إليها بين الصدر والعامري هي رفض توزير النواب الحاليين والوزراء السابقين.

«سيلفي» نهاية التوافق

لاحقاً، عند بدء تنفيذ الاتفاق المبرم بين «الفتح» بزعامة العامري و«سائرون» بزعامة الصدر من قبل عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء، سرعان ما تسلل شيطان التفاصيل إلى صلب الاتفاقات. ومن ثم، أطاح بـ«قشة التوافق» الذي بدا هشاً، خصوصاً، سقوطه عند أول مواجهة برلمانية حاسمة الأسبوع الماضي، حين حمل عبد المهدي قائمة بأسماء الوزراء، يتقدمها اسم فالح الفياض، مرشحاً لحقيبة الداخلية.
كتلة «البناء» أرادت تمريره بالغالبية خارج سياق التوافق الذي انتهى بين الكتلتين عند بوابة البرلمان. وبينما بدا النصاب كاملاً لبدء التصويت على المرشحين، سرعان ما انسحب النائب الأول لرئيس البرلمان حسن الكعبي، الذي ينتمي إلى كتلة «سائرون» ليتبعه ثلاثة نواب آخرون ليختل التوازن، ويضطر رئيس البرلمان محمد الحلبوسي إلى رفع الجلسة.
عندها أعلن مناصرو «الإصلاح» انتصارهم لإفشالهم تمرير الفياض لمنصب وزير الداخلية. وتعبيرا عن فرحتهم التقطوا عند بوابة البرلمان «سيلفي» (صورة ذاتية) جماعيا كان بمثابة إعلان نهاية التوافق بين الفريقين.
اليوم تخشى أطراف كثيرة في العراق انتقال الأزمة إلى الشارع في حال استمر الإصرار على تمرير فالح الفياض بالغالبية خلال الجلسات القادمة. ومن جهته، وعلى الرغم من كل هذا الضجيج الدائر من حوله لا يزال الفياض ملتزماً الصمت، ومردداً مع نفسه قول المتنبي: «أنام ملء جفوني عن شواردها... ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ».

فالح الفياض في سطور

> فالح الفياض من مواليد بغداد عام 1956، وهو من أبناء أسرة شيعية تقطن شمال شرقي العاصمة العراقية.
حصل على شهادة بكالوريوس في هندسة الكهرباء من جامعة الموصل عام 1977، وانضم إلى حزب الدعوة الإسلامية منذ وقت مبكّر - وتعرّض للاعتقال من قبل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 1980، وحكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه أمضى في سجن أبو غريب خمس سنوات.
بعد إسقاط نظام صدام عام 2003 أصبح الفياض عضوا في أول جمعية وطنية، ثم عضوا في أول برلمان عراقي منتخب عام 2005 عن «الائتلاف الوطني العراقي». أصبح مديرا لمكتب نائب رئيس الجمهورية، وعضوا في «لجنة المصالحة الوطنية العليا» خلال عهد الحكومة السابقة.
تسلم عام 2014 رئاسة هيئة «الحشد الشعبي» حتى عام 2018، وخاض الانتخابات عبر كتلة «عطاء» التي يتزّعمها وفاز فيها.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.