الغرب في سينما الأخوين كووين قاتم رغم أنف محبيه

يلوّنانه بريشة فان غوخ أحياناً

TT

الغرب في سينما الأخوين كووين قاتم رغم أنف محبيه

يرمي الأخوان جووَل وإيتن كووين نظرة داكنة على الغرب الأميركي ليس نسبة للتصوير واللعب على الظلال وتوجيه الإضاءة المعتمة؛ بل بما هو أخطر وأهم: العمل على تفتيت الغرب الأميركي المتداول وصهره في صورة جديدة توعز بأنه لم يكن مطلقاً كما وصل إلينا وإلى من سبقنا في الحياة على الأرض في العقود المتوالية للقرن العشرين.
يفعلان ذلك في فيلمهما الجديد «أنشودة بَستر سكرغس» (The Ballad of Buster Scruggs) كما كانا فعلاه سابقاً في «ترو غريت» (2010)، و«لا بلد للمسنين» (2007). صحيح أن «لا بلد…» ليس «وسترن» تقع أحداثه في القرن التاسع عشر، كما هو مفهوم ذلك النوع من السينما، لكنه «وسترن» بكونه حكاية تقع في الغرب الأميركي ولو في عصرنا اليوم.
في هذه الأفلام الثلاثة صورة قاسية لما يدخل ضمن منظومة «الوسترن» مثل البطولة والحرية الفردية والسعي للعدالة انتقاصاً من الخارجين عن القانون. الصورة البديلة عالم بلا حنان وبلا أبطال بملامح واضحة وبأشرار أعلى مهارة وحذقاً من الآخرين. «ترو غريت»، الذي لم يكن بجودة الفيلم ذاته الذي قام هنري هاذاواي بتحقيقه سنة 1969 كان حكاية امرأة تبحث عن عدالة ولا تجدها لكون من استنجدت بهما لتحقيقها لا يمكن الاعتماد عليهما لذلك. «لا بلد للمسنين» كان أفضل، لكن الدور الذي لعبه جافيير باردم كان من السطوة بحيث هيمن على أي شخصية أخرى تستطيع أن تؤدي دوراً إيجابياً في مسيرة الأحداث. على ذلك: «لا بلد للمسنين» كان أفضل صنعاً من «ترو غريت» (True Grit ما يمكن تسميته «حبيبات خشنة»). «أنشودة بَستر سكرغس» هو أيضاً أفضل من ذلك الفيلم، لكنه ليس بالعمل الجيد كما ساد اعتقاد كثير من نقاد الغرب.

- ست حكايات
إنه من إنتاج «نتفلكس»، وتم عرضه في مهرجان «فينيسيا» في سبتمبر (أيلول)، وبعد ذلك عرض لأسبوع في صالات أميركية ثم بثته «نتفلكس» على شاشاتها المنزلية بكثافة بعد ذلك. على الشاشة الكبيرة، حيث شوهد مرّتين، يتبدّى الفيلم شاعرياً وجمالياً كعمل أنيق. مدير التصوير هو الفرنسي برونو دلبونيل الذي سبق وصوّر للأخوين كووين «داخل لوين دافيز» وسبق أن صوّر لجولي تامبور «عبر المحيط» (Across the Universe) وللروسي ألكسندر سوخوروف «فاوست» (2012).
دلبونيل ليس برؤية مدير التصوير المعتمد عادة في أفلام الأخوين كووين، وهو روجر ديكنز، الذي صوّر عدداً من أعمالهما السابقة من بينها «ليبوسكي الكبير» (1998)، و«أيها الأخ أين أنت؟» (2000)، و«قسوة غير محتملة» (2003)، و«لا بلد للمسنين» (2007)، لكنه يوقع في «أنشودة بَستر سكرغس» مهارته على نحو كفء وشبه مماثل. تصويره عوالم مختلفة في رحى الغرب الأميركي (صحراء، ومدن، وثلوج، ومروج... إلخ) مُوحٍ ومعبّر عما يريد الأخوين كووين إنجازه... هذا؛ وموسيقى كارتر بوروَل، أحد من يستعين به الشقيقان في كل مرّة.
يتألّف «أنشودة بَستر سكرغس» من 6 حكايات؛ بعضها مؤلف، وبعضها الآخر مستوحى، صاغها الأخوان برؤيتهما. كبعض الأفلام القديمة، يبدأ هذا الفيلم بلقطة لكتاب قديم ويد تمتد إلى غلافه لتفتحه ثم لتفتح صفحات أخرى. كل صفحة تتوقف عندها اليد هي إما لصورة تحتها حوار من الحكاية المقبلة أو عنوان تلك الحكاية.
كل حكاية من هذه الحكايات الست موضوعة في الغرب القديم. ولكلٍ بعض خصائصها المكانية. يبدأ الفيلم (133 دقيقة) بـ10 دقائق كرتونية (تحت عنوان الفيلم ذاته) لبطل اسمه بستر سكرغس (تيم بليك نلسون) يغني قادماً من برية قاحلة إلى واد بين جبال عالية تردد صدى صوته وصولاً إلى حانة تقع في الصحراء. هناك ينازل بضعة أشرار ويقتلهم قبل أن يتمكن واحد منهم من إطلاق رصاصة واحدة. بعد ذلك يصل إلى بلدة «لم أعرفها من قبل» (كما يقول في واحد من الحوارات الموجهة للكاميرا ومنها للمشاهد) فيقتل مسلحاً بجعله يُطلق النار على نفسه 3 مرّات. حين خروجه يتعرض له شقيق القتيل فيرديه، ثم يسقط قتيلاً حين وصول مبارز أمهر، ونرى روحه ترتفع صوب السماء وهو ما زال يصدح غناءً.
بعد هذه الصورة الكرتونية المستمدة من رهط من أفلام الأربعينات التي عرفت بـSinging Cowboy ينتقل الفيلم إلى حكايات أكثر جدية. يتقدم جيمس فرنكو في حكاية بعنوان «قرب ألغودونس» لاعباً دور سارق مصرف ألقي القبض عليه ويواجه الشنق. لكن قبل أن هذا الفعل يهاجم الهنود الحمر البيض ويتركون السارق فوق حصانه مربوط العنق بغصن عال. حين ينقذه رجل أبيض يتبين أن الرجل سارق ماشية. يُلقى القبض مجدداً على الأول لشنقه للمرة الثانية.
الحكاية الثالثة هي لرجل (ليام نيسون) ينتقل عبر البراري مصطحباً معه آخر مقطوع الأطراف (هاري ميلينغ) يعرضه أمام الجمهور مقابل نقود. الرجل مقطوع الأطراف يحكي نبذاً مستقاة من شكسبير وأمبروز بيرس والسفر القديم. المستثمر الفقير يستبدل به دجاجة مدربة على ضرب أهداف بمنقارها ليجني منها مالاً أكثر. أما مقطوع الأطراف فسيتم إلقاؤه من علٍ والتخلص منه.

- النبرة الساخرة
بعد ذلك حكاية «كل وادي الذهب» حيث يكتشف توم وايتس الذهب في باطن الأرض. يطلق آخر عليه النار، لكنه يستقوي ويقتله ويمضي. في الحكاية الخامسة (والأطول) «الفتاة التي تحشرجت» (The Gal Who Got Rattled) وهي الحكاية الوحيدة من بطولة امرأة، تسعى زو كازان للهجرة إلى ولاية أوريغون. قصّة حب على الطريق، وكلب صغير، وشقيق مات، وعرض زواج. الهنود يهاجمون القافلة. تعتقد أن خطيبها مات فتنتحر.
الحكاية السادسة «باقي الفناء» (Mortal Remains) حول 5 ركاب عربة تصل بهم إلى ما يبدو رمزاً لنهاية رحلة الحياة. قبل ذلك يمضون الوقت بالحديث عن أنفسهم وآرائهم ومواقعهم في الحياة.
جماليات الأماكن المختلفة معبّرة، وفي «وادي كل الذهب» تصوير للطبيعة يشابه لوحات فان غوخ. لكن حتى في هذا الجزء من الفيلم تسود القتامة الناتجة عن العبثية والعدم حيث المراد إطلاق النار عليه هو الناس جميعاً بصرف النظر عن مواقعهم (داخل القانون أو خارجه).
كل أبطال هذه الحكايات الست آيلون إلى الموت (باستثناء الحكاية الثالثة «وادي كل الذهب») لكن هذا المصير ليس ما يعكس النبرة الساخرة من الغرب وحكاياته وشخوصه، بل ما يقومون به في الحكايات الأولى والثانية والرابعة والسادسة، والمستقبل المتشائم في الحكاية الخامسة... هناك ملامح رومانسية، لكنها محكوم عليها بالعدمية أيضاً. ما رآه بعض النقاد أن الفيلم يعرض الصورة الحقيقية للغرب الأميركي. لكن الواقع هو أنه يعرض «صورة ما قد تكون حقيقية» وليس «الصورة الحقيقية» كلها. في نهايته، الفيلم يتساقط «نثراً» صغيرة بلا معنى كبير.
وإذا كان هناك من يرغب في صور داكنة تعكس واقعاً، فعليه أن يعود إلى فيلم روبرت ألتمن «ماكاب آند مسز ميلر» (1971)، أو فيلم مايكل شيمينو «بوابة الجنة» (1980)... وكثير سواهما، التي كشفت عن ذلك «الواقع» بنيّة نقده وتحليله، وليس بنية تسويده واحتقاره.
الأخوان كووين عادة ما يسخرون من كل ما هو أميركي، من دون تقديم البديل ولا الاقتراب من الطرح السياسي (ولو أن ما يقومان به سياسي المنطلق). بعض أفلامهم أفضل من بعضها الآخر بالتأكيد، لكن أميركا (على بشاعة مراحل سياسية مختلفة) هي أفضل مما يصوّرانه.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.