دول الجوار الليبي تؤيد المبادرة الأممية وتتعهد بدعم العملية السياسية

«وكر الإرهابيين} في جنوب ليبيا يقلق غسان سلامة

دول الجوار الليبي تؤيد المبادرة الأممية وتتعهد بدعم العملية السياسية
TT

دول الجوار الليبي تؤيد المبادرة الأممية وتتعهد بدعم العملية السياسية

دول الجوار الليبي تؤيد المبادرة الأممية وتتعهد بدعم العملية السياسية

منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، ومقتله في مدينة سرت عام 2011، وجدت ليبيا نفسها غارقة في صراعات دامية، وانقسامات عرقية ومذهبية، وتدخلات أجنبية، حوّلت البلاد إلى ساحة لتصفية «خلافات العالم». ولقد مرّت سبع سنوات على الحدث الأبرز في التاريخ الليبي المعاصر، ومع ذلك ما زالت الأطراف الليبية تعيش أزمتها السياسية والأمنية الطاحنة.
هذه الأزمة الطاحنة لا يقتصر تأثيرها السلبي على الداخل الليبي وحده، بل يمتد إلى الإقليم وبعيداً عبر المتوسط. والحقيقة، أن تداعياتها حوّلت هذا البلد العربي الثري، إلى وكر لشتى الجماعات الإرهابية، والمتطرفين، وعصابات الجريمة المنظمة وتجار البشر، وجعلت منه مركزاً للهجرة غير المنظمة.

نيران اللااستقرار الليبي تضرب في كل الاتجاهات؛ وهو ما دفع جهات كثيرة لتبني مبادرة تهدف إلى إعادة الاستقرار الذي افتقدته ليبيا طويلاً. وكان من آخر محاولات حل المأزق، اجتماع وزراء خارجية دول الجوار الليبي الذي عقد في الخرطوم الخميس 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، باعتباره إكمالاً لجهود إقليمية ودولية وانشغالات محلية، تسعى إلى إيجاد سبل لإنهاء الأزمة.
وكان قد سبق اجتماع الخرطوم هذا بأيام، عقد «مؤتمر بالرمو» يومي 12-13 من الشهر ذاته بجزيرة صقلية الإيطالية، وبدوره كان قد سبقه في شهر مايو (أيار) الماضي مؤتمر مثيل عُقد في العاصمة الفرنسية باريس، بالفكرة ذاتها... أي حل الأزمة الليبية.
لكن يبدو أن الجهود الثلاثة غرقت في «رمال الأزمة التي تهب من أنحاء الصحراء الليبية». وبحسب المراقبين، انغمس كل منها في طموحات ورغبات الدولة المضيفة، ما عدا اجتماع الخرطوم الذي غرق هو الآخر، لكن في «أزمة الجنوب» وأعمال العنف والعمليات الإرهابية التي تدور هناك منذ أشهر.
عملياً، لم يتوصل اجتماع الخرطوم، إلى أكثر من التوصية التقليدية بـ«ضرورة إيجاد حل سياسي للأزمة»، والبحث عن آلية أمنية تضع حداً لتمركز الجماعات الإرهابية التي نقلت عملياتها إلى هناك. إذ خيّمت عليه أجواء العمليات القتالية والإرهابية في الجنوب الليبي على مداولات «اجتماع وزراء خارجية دول الجوار» بالخرطوم، فأنهى جلساته باللازمة التقليدية «إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية».

قلق غسان سلامة

في بداية اجتماع الخرطوم، أطلق الدكتور غسان سلامة، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، تصريحات قلقة بشأن مآلات الأوضاع هناك، وإعلانه دخول متطرفين عبر النيجر إلى منطقة جنوبي غرب البلاد، واعتبر ذلك تهديداً جدياً للعملية السياسية التي يقودها.
سلامة، قال للاجتماع: إن «عمليتين إرهابيتين كبيرتين» وقعتا أخيراً في جنوب ليبيا، وأن ثمة معلومات تشير إلى المنفذين لهاتين العمليتين «من القادمين الجدد». وأضاف: «وهذا مثار لقلقنا»، كما شكا من صعوبات لوجيستية تواجه المنظمة الأممية في «الوصول والتمركز» في المناطق الليبية الشاسعة، ولفت إلى أهمية «قرع ناقوس الخطر مجدداً بشأن الأوضاع في ليبيا».
الدول المجتمعة من جهتها، أبدت قلقها من حالة اللااستقرار التي تعيشها ليبيا، على الرغم من أن بعضها تواجه اتهامات بدعم متطرفين، وتقول أخرى إن حركات مسلحة تعمل ضدها تستغل حالة السيولة الليبية لتنطلق ضد بلادها. وإزاء هذا الوضع؛ قال سلامة: «أفهم القلق الذي يساور هذه الدول التي تجاور جنوب ليبيا؛ لوجود حركات مسلحة ليبية، وتشكيلات مسلحة غير ليبية، وتصاعد تمركز الحركات الإرهابية، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية، وإجمالاً كلها عناصر لا تبعث على الارتياح». ومن بين العمليتين اللتين ذكرهما سلامة، فإن تنظيم داعش تبنى هجوماً على بلدة في الصحراء الجنوبية، أدى إلى قتل عدد من الأشخاص وخطف آخرين، بينهم رجال شرطة.
وزير الخارجية السوداني الدرديري محمد أحمد الدخيري، الذي تتهم بلاده جماعات متمردة مسلحة سودانية باستغلال التوتر في ليبيا، قال: إن الخرطوم «تمد يدها لكافة الفرقاء الليبيين، وهي تأمل من خلال عمليات أمنية مشتركة، القضاء على الخطر الذي تمثله بعض المجموعات المسلحة الوافدة إلى الجنوب الليبي». وشدد الوزير السوداني، الذي واجهت بلاده اتهامات من أطراف ليبية، بأنها تدعم مجموعات إسلامية متشددة بعينها في أوقات سابقة، على أهمية تحقيق المزيد من التفاهمات للوصول إلى تسويات سياسية ومجتمعية تعيد ليبيا إلى العالم مجدداً.
كذلك أوضح الدرديري، أن بلاده اختارت هذا التوقيت للاجتماع لاستغلال ما أطلق عليه: «الرياح المواتية التي تهب على المنطقة»، مثل السلام في جنوب السودان، والمصالحة الإثيوبية الإرترية، والمساعي التصالحية العربية. الدرديري شدد على أن التعاون لمجابهة أخطار الحركات المسلحة المتمركزة في ليبيا، وما تقوم به من جريمة منظمة وعمليات إرهابية «يوجب العمل على إعادة الاستقرار إلى ليبيا»، معيداً الاتهام الذي توجهه حكومته لحركات دارفورية متمردة مسلحة بأنها جعلت من ليبيا ملاذاً، تعمل فيه بصفة «مرتزقة»، إلى جانب الفصائل المتنازعة هناك.

البيان الختامي

بيان اجتماع الخرطوم الختامي أكد أن حل الأزمة جذرياً يكمن في «الخيار السياسي الذي يقرره الليبيون أنفسهم دون إقصاء»، وتأييد مبادرة الأمم المتحدة، ودعم دول الجوار من أجل مصالحة وطنية، تثمر مؤسسات وطنية قوية وذات مصداقية. وأعلن دعم دوله لـ«خطة العمل من أجل ليبيا» التي قدمها الممثل الخاص للأمين العام غسان سلامة، رافضين التدخل الأجنبي في الشأن الليبي.
كذلك، أعلن اجتماع الخرطوم أهمية إيلاء الأوضاع المتوترة في الجنوب الليبي الأهمية القصوى، وتكثيف التعاون الدولي والإقليمي لمواجهة الإرهاب والعنف والتطرف والجريمة المنظمة والأنشطة الإجرامية، كافة.
ومن جهته، أبلغ وزير الخارجية الليبي محمد طاهر سيالة، الصحافيين عقب نهاية الاجتماع، أن حكومته «تعتبره اجتماعاً مهماً لعودة الاستقرار إلى بلاده، وبمقدور ما توصل إليه المجتمعون الإسهام في مكافحة الحركات المتطرفة والإرهابية في ليبيا، وفي عوده الاستقرار وإقامة الانتخابات والحياة السياسية إلى طبيعتها».
ورغم الرأي الإيجابي من «حكومة الوفاق الوطني» الليبية الذي أبداه سيالة، فإن تقارير رأت أن التمثيل في اجتماع الخرطوم لم يكن بالمستوى المطلوب؛ إذ غاب عنه وزراء خارجية كل من تونس، والجزائر، وتشاد، والنيجر، ومثلهم موظفون ودبلوماسيون أقل كثيراً من صفة وزير، عدا تونس التي بعثت «وزير دولة».
وكان لافتاً كذلك من كلمات الوفود وجود «تنافس» مكتوم وتسابق دولي وإقليمي على الملف الليبي. فمن جهتها، فإن إيطاليا - الدولة المستعمرة السابقة لليبيا - اعتبرت الصراع الليبي «مسألة أمنية وطنية»، وقال السفير الإيطالي في الخرطوم فابريتزيو لوباسو: إن اجتماع الخرطوم يلعب دوراً «جيوسياسياً مهماً»، ويسير على نهج بلاده في بالرمو. وتابع: «بالنسبة لإيطاليا قضية ليبيا مسألة أمنية، وأكدنا على أن مصير المنطقة رهين بحقيق السلام في ليبيا»، مستطرداً: «تحوّلت هذه الجغرافيا الواسطة إلى مرتع للمجرمين والإرهابيين، وأصبحت تشكل مصدر خطر على الإقليم».
أما فرنسا، التي شاركت بمبعوثها إلى ليبيا فريديرك ديساغنيو، فقد أعلنت أنها تعتبر خطر الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتجارة البشرة «قضية وطنية فرنسية»، ودعت إلى وضع خطة عمل لاستعادة الاستقرار، وأن أحداث الجنوب أظهرت أن العملية السياسية أساسية لحل الأزمة.
وغامزاً من قناة دول لم يحددها، قال المبعوث الفرنسي: «الأسرة الدولية ستحدث الفارق عندما تتحدث بصوت واحد ضد هؤلاء الناس الذين يعلمون ضد أمن ليبيا. دول الجوار لها نصيب الأسد في تحقيق ذلك حين تحارب الجماعات المسلحة الإرهابية وتجارة الأسلحة، والقوات الأجنبية في التراب الليبي». أما الاتحاد الأفريقي، فقد حذرت مبعوثته إلى ليبيا، أميرة الفاضل، في كلمتها للاجتماع، من التدخل الأجنبي في الملف الليبي، ودعت إلى حل المشكلة بعيداً عن الأجندات الدولية، وأعلنت عن رغبة الأفارقة في مبادرة ترعاها القارة، وتدعمها الأمم المتحدة لحل النزاع الليبي.

ملف معقّد ومتشابك

الخبراء يرون أن الملف الليبي معقد ومتشابك، وأنه يدار من خارج ليبيا. فالغربيون عينهم على «حقول النفط الغنية»، وقلوبهم على أيديهم من سيطرة الإرهابيين والعصابات عليها. ودول الإقليم لها أجنداتها ومطامعها، وتحالفاتها داخل الفسيفساء الليبية المتطاحنة، لكن خطر «التطرف والإرهاب يهدد الجميع».
لقد خلق استمرار الانفلات الأمني والانقسام السياسي، أزمة اقتصادية حادة فاقمت الأوضاع الكارثية في ليبيا، بينما ظل الليبيون يتنافسون ويتقاتلون «جميعهم ضد جميعهم»، لكن أبرز وجوه الانقسام الليبي تتمثل في الحكومتين اللتين تتنازعان الشرعية، كل على حساب الأخرى. ففي غرب البلاد تحاول حكومة «حكومة الوفاق الوطني» التي يترأسها فايز السراج، وتحظى باعتراف أممي ودولي، و«الحكومة الليبية المؤقتة» برئاسة عبد الله الثني، المدعومة من رجل الجيش القوي المشير خليفة حفتر بشرق البلاد، فرض سيطرتها دون جدوى. وإلى جانب هاتين الحكومتين، هناك العشرات - إن لم تكن المئات - من الميليشيات والجماعات المسلحة المتطرفة، والقوات المسلحة الأخرى التي توالي الأطراف العشائرية والعرقية المتنافسة. هذا الوضع القلق أدى إلى استمرار القتال والاشتباكات بين الأطراف الليبية، وتحوُّل ليبيا إلى ساحة معارك مستمرة، تهدأ لتشتعل من جديد لأسباب مختلفة، أو حتى دون أسباب معروفة. ولقد أنهك القتال والاضطراب الأمني اقتصاد البلد الغني بالنفط، وجعل سكانه يواجهون أزمات طاحنة اقتصادية وصحية، أدت هي والقتال العشوائي إلى قتل ونزوح وتشريد مئات الآلاف.

خريطة الصراع الليبي

> يقود فايز السراج «حكومة الوفاق الوطني» وهي حكومة معترف بها دولياً، تدعمها منظمة الأمم المتحدة والدول الكبرى، وتم تعيينها من قبل البرلمان المنتخب، الذي يعرف بـ«مجلس النواب»، لكنها تواجه بشكل أساسي تحديات الجماعات المسلحة. ويحاول «مجلس النواب» الذي انتخب في مدينة طبرق (شرق ليبيا) خلال يونيو (حزيران) 2014، بسط السلطة التشريعية بعدما حل مكان البرلمان السابق «المؤتمر الوطني العام».
> على الرغم من تسلم «مجلس النواب» مهامه، فإن الإسلاميين الذين كانوا يحتكمون على وجود مؤثر في «المؤتمر الوطني العام»، شككوا في شرعيته. وأعادوا «المؤتمر الوطني العام» المنحل للانعقاد، بطلب حكومة «فجر ليبيا» الإسلامية التوجه، ليعتبر نفسه «السلطة الشرعية والوحيدة». وهكذا تخلى عن اعترافه بـ«مجلس النواب»؛ وبناءً على ذلك ألّف حكومة تابعة له تدعمها الجماعات الإسلامية.
* يقود عبد الله الثني «الحكومة المؤقتة»، وهي الحكومة التي تشكلت من برلمان طبرق في سبتمبر (أيلول) 2014، وهي تمارس مهامها من مدينة البيضاء بشرق البلاد.
> يقف المشير خليفة حفتر خلف عملية «كرامة ليبيا»، التي أسسها خلال مايو (أيار) 2014. وتحارب قوات حفتر المجموعات والميليشيات الإسلامية باعتباره «الجيش الوطني الليبي»، ولقد دأبت هذه القوات على شن عمليات برية وجوية على تلك المجموعات والميليشيات. وللعلم، تتلقى هذه العمليات الدعم والمساندة من ميليشيا الزنتان، وقوات الصاعقة والصواعق في طرابلس، وهدف حفتر المعلن هو إعادة توحيد الجيش الليبي باعتباره قائداً له.
> في غرب ليبيا تنشط ألوية الزنتان والصواعق، وهي ميليشيات مناوئة للإسلاميين تدعم الحكومة المعترف بها دولياً. ولقد دخلت ميليشيا الزنتان القوية في اشتباكات مع ميليشيا «فجر ليبيا» الإسلامية، وهي الجهة التي تحتجز «سيف الإسلام القذافي».
> أطلقت الجماعات الإسلامية ميليشيا «فجر ليبيا» المدعومة من ميليشيات مدينة مصراتة، ويدعمها «المؤتمر الوطني العام»، وهي القوات التي يحاربها بشكل أساس الجيش الليبي.
> تتكون «ميليشيا مجلس شورى ثوار بنغازي» من تحالف بين ميليشيات إسلامية، قاتلت ضد قوات الجيش الليبي، ونفذت عمليات انتحارية ضد بعض معالقه، وأشهرها عملية تفجير مطار بنينة (بنغازي)، وهي تضم «جماعة أنصار الشريعة»، الجماعة الأشد تطرفاً والتي تصنف دولياً بأنها «جماعة إرهابية» مقربة من «القاعدة»، وكذلك «ميليشيا 17 فبراير»... وغيرها.
> أظهر تنظيم داعش في ليبيا عام 2015، وجوداً ميدانياً لافتاً. وتقول التقارير: إنه اعتمد على جماعات موجودة في مدينة درنة (شرق ليبيا) التي اشتهرت بمعقل الجماعات الإرهابية، والتي أعلنت ولاءها له. لكن التنظيم تكبد خسائر كبيرة في مواجهات مع «مجلس شورى المجاهدين» الموالي لتنظيم «القاعدة»، ومع ذلك شنّ هجمات ضد سفارات وفنادق وهجمات في طرابلس وبنغازي.
> تعد عملية «درع ليبيا» تجمعاً لميليشيات تنشط عبر البلاد، وهي تدعم «المؤتمر الوطني العام»، وهي بمثابة ذراعها العسكرية، ويقود فرعها في بنغازي محمد الزهاوي، ومقاتل سابق ضمن «جماعة أنصار الشريعة» التابعة لـ«القاعدة».

محاولات لحل الأزمة

> وقّعت أطراف ليبية في مدينة الصخيرات المغربية 17 ديسمبر (كانون الأول) 2015 اتفاقاً على تشكيل حكومة «وحدة وطنية»، لكنه لم يحظ بإجماع كافٍ.
> نظمت تونس في سبتمبر (أيلول) 2017 جولة مباحثات بين الأفرقاء الليبيين، هدفت لإجراء تعديلات على اتفاق الصخيرات، وشارك فيه ممثلون عن البرلمان ومجلس الدولة المتكون نتيجة لاتفاق الصخيرات.
> نظمت فرنسا في مايو (أيار) الماضي مؤتمراً للحوار الليبي، اتفقت خلاله الأطراف في العاصمة الفرنسية باريس على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية حدد لها العاشر من ديسمبر الحالي، مع التزام بتهيئة الأجواء لجعلها حرة ونزيهة لتعتمد نتائجها. لكن الخطة الفرنسية في «مؤتمر باريس» فشلت بسبب رفض الجدول الزمني المحدد لتلك الانتخابات، من قبل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في مجلس الأمن.
> عقد في مدينة بالرمو، كبرى مدن جزيرة صقلية الإيطالية يومي 12-13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي مؤتمر بشأن ليبيا توصل إلى نتائج مثيلة لما توصل إليه من قبل «مؤتمر باريس»، وكان اللافت كشفه وجود رغبة إيطالية في عزل تيار «الإسلام السياسي» وقص أجنحة الميليشيات المحسوبة عليه. ولقد أكد بيان بالرمو الختامي على «أهمية إجراء الانتخابات وفقاً لخطة الأمم المتحدة الجديدة ربيع العام المقبل»، لتعذر إجرائها الشهر الحالي، كما كان مقرراً في السابق. وشدد أيضاً، على أهمية وضع إطار دستوري للانتخابات. هذا هو الشيء نفسه الذي نادى به «اتفاق باريس» الذي لم ينص على وجوب إجراء الانتخابات بعد إجازة الدستور، وهو الشيء الذي تطالب به جماعات الإسلام السياسي وحلفائها الإقليميون.
التيار الإسلامي وخصومه، من جهتهم، يصرون على ضرورة إصدار الدستور أولاً، تحت ذريعة خشية «حدوث فراغ دستوري». أما التيار المناوئ لهم فيرى، أن بالإمكان إجراء الانتخابات بتعديل الإعلان الدستوري، وإجراء الاستحقاق الانتخابي وفقاً له، وهذا هو الطرح الذي يؤيده المشير خليفة حفتر و«حكومة الوفاق الوطني» المعترف بها دولياً برئاسة السراج وآخرين، «بمواجهة جماعات الإسلام السياسي المدعومين من قطر وتركيا عسكرياً ومالياً ضده»، بحسب اتهامات حفتر.
ومن المنتظر، بحسب مراقبين للوضع الليبي، أن يفقد «تيار الإسلام السياسي» وداعموه الإقليميون، في حال إجراء الانتخابات، الكثير من نفوذه... وذلك لأن صورته في الداخل الليبي، وكذلك صورته في الإقليم والعالم، ارتبطت طوال سنوات بالاضطراب الليبي، وبأنه «داعم للإرهاب والميليشيات» التي تقف ضد قيام الدولة.

مبادرة غسان سلامة

> قدم رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الدكتور غسان سلامة، خطة عمل جديدة في جلسة الأمم المتحدة حول ليبيا في 20 سبتمبر (أيلول) الماضي.
وتتكون خطة سلامة من ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: يجري في هذه المرحلة تعديل الاتفاق السياسي الليبي استناداً على المادة 12 منه.
المرحلة الثانية: تبدأ بعقد «مؤتمر وطني» يرعاه الأمين العام للأمم المتحدة، ويفتح الباب أمام من سبق استبعادهم. ويصار إلى إدخال الأطراف المُحجمة عن المشاركة في العملية السياسية، ومجلسي النواب والأعلى للدولة، ومن يشتكون ضعف تمثيلهم أو غير الممثلين. وخلال المؤتمر تجرى عملية اختيار أعضاء الجهات التنفيذية وإعادة تشكيلها توافقياً؛ ليقوم مجلس النواب بمعاونة «هيئة صياغة» بإعداد الدستور، وإعداد تشريع لإجراء استفتاء دستوري وانتخابات رئاسية وبرلمانية.
المرحلة الثالثة والأخيرة: تعمل على الوصول للمراحل النهائية للعملية السياسية في غضون سنة، وإكمال الإجراءات التشريعية، بما في ذلك إجراء الاستفتاء الدستوري، وانتخاب برلمان ورئيس برلمان، بنهاية الفترة الانتقالية التي حددتها الخطة.
إضافة إلى مبادرات الحل السابقة، فإن الأزمة الليبية شهدت مبادرات كثيرة قدمها أطراف كثيرون، ومن بينها المبادرة المصرية، ومبادرة الاتحاد الأفريقي، والمبادرة «الجزائرية التونسية المصرية» - المعروفة بالمبادرة الثلاثية لدول الجوار -، والمبادرة الهولندية، ومبادرة الخرطوم الرامية إلى توحيد جهود المبادرة الرباعية التي تضم بلدان الجنوب الليبي «السودان تشاد النيجر ومصر».
لكن مع كثرة المبادرات و«أنياب المصالح» المخفية تحت «الإشفاق» على شعب ليبيا، ما زال «النفط الليبي» مثيراً للشهية بالنسبة للشركات الغربية، كما أنه يخيف كثيرين أيضاً؛ لأن «الإرهابيين» يحيطون به من كل الجهات.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.