نازك الملائكة.. ثورة على القوانين وعودة إليها

الناقد عبد الرضا علي يتناول تجربتها النقدية

نازك الملائكة.. ثورة على القوانين وعودة إليها
TT

نازك الملائكة.. ثورة على القوانين وعودة إليها

نازك الملائكة.. ثورة على القوانين وعودة إليها

في الستينات، طرحت نازك الملائكة في كتابها المهم «قضايا الشعر المعاصر» كثيرا من القضايا المتعلقة بالشعر الحر، التي ما زالت تثير نقاشا حتى يومنا هذا، وتشغل الكثير من النقاد والأدباء والباحثين.
ومن المعروف، أن نازك الملائكة كانت رائدة في تطوير القصيدة العربية الحديثة، وكانت، كما يرى الشاعر والناقد علي جعفر العلاق، «جريئة حين واجهت جدارا صلبا من قيم السلوك الشعري والاجتماعي والثقافي، واستطاعت ومعها زميلها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، هز شجرة الشعر العربي هزا عنيفا بعث فيها الحياة وروح الدهشة من جديد». وكانت صاحبة فضل أساسي في انتشار الشعر الحرّ، هذه الحركة الجديدة التي ظهرت سنة ١٩٤٧.. ونجحت في مد جسر ينقلنا من القصيدة التقليدية ذات الشطرين إلى قصيدة الشعر الحر التي تطورت مع الزمن إلى ما يعرف اليوم بقصيدة النثر، ومن روادها أنسي الحاج ومحمد الماغوط.
لكن نازك وضعت (قوانين) أو أسسا للشعر الحر وكأنها أرادت أن تكبله بالقيود من جديد، أو لتكون صاحبة المرجعية الوحيدة. ورغم هذا كله لا يسعنا أن ننكر أنها ما زالت مرجعا نفتقده أشد الافتقاد في وقتنا هذا، الذي يسود فيه الاستسهال، وغياب معرفة حقيقية يستند إليها الشاعر كي يمارس التجريب الحقيقي وليس المفتعل، وكم نحن بحاجة، لا بل في أمس الحاجة، إلى مرجعيات صارمة تصون قيمة وجلالة الشعر وقدسيته.
الدكتور عبد الرضا علي أحد الذين كرسوا وقتهم في التعمق في تجربة نازك الملائكة الشعرية والنقدية جامعا أجزاء موسعة عن عالمها، متطرقا إلى تفاصيل ما يمكننا تسميته بمغامرة نازك الناقدة والشاعرة، وذلك في كتابه «نازك الملائكة الشاعرة»، الصادر حديثا، قدم - الناقد علي - طرحا شاملا وغنيا عن نازك الملائكة الناقدة ونظريتها الشعرية، لكن من دون أن يناقش نقديا النقاط الخلافية التي طرحتها الشاعرة.. وكأن كتابه أقرب إلى التأريخ منه إلى البحث الأدبي.
فعلى سبيل المثال، يستغرب الكاتب عدم اهتمام نازك بالصورة الشعرية ولكنه يكتفي بتبرير موقفها بقوله: «أغلب الظن أن ناقدتنا كانت تعيش هما نقديا يبحث عن إيجاد ضوابط أو قواعد أو قوانين تبرر وجود هذه الحركة نظريا، ويوقف سبيل التجاوز الذي شغف به بعض مريديها لما لمحوا فيها من إيحاءات الحرية؛ لذلك فإن البحث في الصورة لم يكن هما بقدر ما كان ملمحا جماليا لا يقدم للحركة مرتكزا مثلما تقدمه النظرية».
هل يمكن تقديم تبرير كهذا لإهمال شاعرتنا الصورة؟ مع أن الصورة تعتبر من أهم عناصر وأركان القصيدة الحديثة. أهملت نازك الصورة في حين أعطت الوزن حيزا كبيرا من اهتمامها، مع أن الأخير يأتي لخدمة الفكرة والصورة والمعاني وليس العكس.
وقد عرض عبد الرضا علي موقف نازك من قضية الوزن وقضية تناسبها مع المواضيع الشعرية في الفصل الثالث من كتابه تحت عنوان «الوزن» ولكنه لم يناقش هذه القضية أيضا.
ومن وجهة نظرنا، لم تترك نازك الملائكة بقوانينها المستبدة مكانا لحرية الشاعر في التعبير وحاولت تقييده بقوانين تحد من إبداعه.. فربطت كل وزن بموضوع محدد! قالت عن المتقارب: «هو، كما قررته، وزن بطيء ذو جلال وشاعرية ورقة ومحبة، وكأنه يتسلل من أعماق حلم راق، فهو يصلح للمعاني الرقيقة المرهفة ولا يناسب المواقف الرهيبة والساخرة. لكن من قال إن السخرية لا يمكن التعبير عنها بوزن بطيء، وهل يستحيل على الشاعر المبدع أن يعبر عن الفكرة نفسها مستخدما وزنا آخر؟ إن الإيقاع الداخلي هو الذي يفرض شكل الموسيقى الخارجية»، والفكرة نفسها تنطبق على كل البحور التي صنفتها الشاعرة لموضوع واحد دون سواه.
في مكان آخر من الكتاب، يذكر علي أن «نجاح القصيدة أو إخفاقها، على وفق ما نستنتجه من آراء الناقدة، ليس مرتبطا بالأسلوب الذي يتخذه الشاعر وسيلة لإيصال فكرته، وإنما بالموضوع الذي يجيده ويبدع فيه..». ووفقا لهذا الحكم الذي نراه يفتقد إلى الدقة في تصنف الشعراء، ومنهم على سبيل المثال الشاعر نزار قباني الذي تضعه في خانة شعراء قصائد الحب والعاطفة.. طبعا نزار كان، وما زال، من أبرز وأهم شعراء الحب، ويعتبره كثيرون «شاعر المرأة من دون منازع»، ولكن نعود لنقول إن الشاعر ابن التجربة التي يعيشها وتعيشه، وتأتي قصيدته لتعبر عن تلك المشاعر الدفينة التي تسكن أعماق أعماقه حيث المياه الدافئة تحركه.. قد يكون اليوم الحب هو سبب الطلق وولادة القصيدة، وغدا قد تكون قضية سياسية، ومع مرور الوقت قد يكون الموت أو الفرح أو الثورة، وإلى ما هنالك من مواضيع فكرية وفلسفية وغيرها.. وتتغير المواضيع التي يتناولها بتغير التجارب وقوتها وعمق تأثيرها وازدياد ثقافة الشاعر واطلاعه.. فالمثقف متغير أبدا. لكن، مرة أخرى، لم يتطرق الناقد إلى هذه القضايا، وإنما اكتفى باستعراض آراء نازك، وكأنها قضايا مسلم بها نقديا.
وكما قلنا، بدأت نازك الحركة الشعرية الحديثة بنية تحرير القصيدة من عبودية الشكل، ولكنها سرعان ما استعبدتها وسجنتها ضمن قوانينها، وربما جاء انعكاسا لشخصيتها؛ إذ نلمح في مواقفها شيئا من شخصية نرجسية لا تقبل التراجع عن أخطائها، وهي شخصية مترددة في معظم مواقفها، غيرت موقفها من استخدام التفعيلة الواحدة في سياق القصيدة، ولم تمانع لاحقا تنوع التفعيلات، قامت بثورة على القافية لتعود لاحقا وتهتم بها أشد اهتمام. لقد كانت ابنة واقع حافل بالتغيرات سواء في حياتها الخاصة، كانتقالها مثلا من الإلحاد إلى الإيمان، أو في مواقفها الشعرية.
ومن هنا يستغرب دعوتها إلى الثبات وتصنيف الشعراء ضمن خانات محددة، فهذا شاعر الحب، وذاك شاعر الفكرة، والآخر شاعر الحزن.. إلخ.
ومع هذا، لا يمكن لأحد أن يتجاهل فضل نازك الملائكة الناقدة والمثقفة التي قدمت لنا أفكارا نقدية نيرة كثيرة، واحدة منها، على سبيل المثال، تقسيم هيكل القصيدة في أصنافه الثلاثة وهي:
- «الهيكل المسطح» وهو الذي يخلو من الحركة والزمن.
- «الهيكل الهرمي» وهو الذي يستند إلى الحركة والزمن.
- «الهيكل الذهني» وهو الذي يشتمل على حركة لا تقترن بزمن.
تبقى نازك، وإن نجحت ببعض أفكارها النقدية أو أخفقت في أخرى، رائدة حركة أدبية فريدة في عصرها، فكما يقول الناقد فيصل دراج، فإن نازك الملائكة هي من «أبرز الوجوه في إطلاق ما يعد الآن بالشعر العربي الحديث، وسواء كانت الريادة تعود لها في قصيدتها الشهيرة (الكوليرا) أم للشاعر بدر شاكر السياب، فإنها بالتأكيد شكلت، مع السياب ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي، الصوت الأكبر الذي استهلت به الحداثة الشعرية».



سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».


رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية
TT

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحل في الساعات الأولى من صباح اليوم الجمعة الناشر المصري محمد هاشم، مؤسس ومدير دار «ميريت للنشر»، عن عمر يناهز 68 عاماً، بعد رحلة كبيرة مع صناعة الكتاب، فقد كان نموذجاً للناشر المثقف، صاحب الموقف الطليعي ثقافياً وسياسياً، وجعل من «ميريت» أحد أهم المنافذ الثقافية في القاهرة، وأحدث طفرة في صناعة النشر، وفتح من خلالها نافذة كبيرة للعديد من الأجيال ليروا إبداعاتهم منشورة بين دفتي كتاب، بعد أن كان النشر عقبةً كبيرةً تواجه كل مبدع مصري، ويضطر للوقوف سنواتٍ على أبواب دور النشر الحكومية.

أسس الراحل «دار ميريت» في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لتشكل هي و«دار شرقيات»، التي تأسست في الفترة نفسها تقريباً، رئة ثقافية أسهمت في احتضان جيل التسعينات في الرواية والشعر والنقد، وتقديمهم للحياة الثقافية والأدبية، ودشنت كثيراً من التجارب الطليعية التي لم تكن حصلت على الاعتراف الأدبي بعد، فكانت فضاءً للاحتفاء بكل إبداع جديد ومختلف، وظلت تمارس الدور نفسه في العقدين الأولين من الألفية الجديدة، فكثير من الأجيال الراهنة الذين أصبحوا نجوماً في الشعر والرواية والقصة، بدأوا مشوارهم الإبداعي من «ميريت» أو من «شرقيات».

لم تكن «ميريت» مجرد دار نشر، فقد تحول مقرها الأول الشهير في شارع قصر النيل بوسط العاصمة المصرية إلى منتدى ثقافي دائم، وكان له رواد من مشاهير الثقافة المصرية والعربية، فعندما كنت تدخل تجد الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم جالساً بأريحية وكأنه في بيته، وكان من ضمن رواد الدار أيضاً الروائيان الراحلان خيري شلبي و إبراهيم أصلان، والناقد محمد بدوي، والروائي الراحل حمدي أبو جليل، والشاعر الراحل أسامة الديناصوري، وغيرهم كثيرون من رموز الحركة الثقافية المصرية، وكان كل شاب يريد أن يبدأ مشواره الإبداعي لا بد له أن يمر يوماً على «ميريت»، ليتعرف على «مطبخ» الثقافة المصرية، ويتقرب من رموزها، يسمعهم، ويتعلم منهم، ويحصل على فرصة أن يسمعوه ويتعرفوا إلى إبداعه، فيُمنح صك الاعتراف.

فازت «ميريت» بجائزة نادي القلم الدولي «هيرمان كيستن» (kesten PEN الفرع الألماني)، وتمنحها وزارة «هسه» للعلوم والفنون، وقدرها 10.000 يورو، وتمنح لكتاب المقالات والروائيين فى جميع أنحاء العالم لمن يتصدون للاضطهاد والقمع ويدافعون عن الحق والحرية، كما تمنح للناشرين لتقديمهم الدعم والرعاية للكتاب المضطهدين في نشر فكرهم ويؤمنون بالحق فى الحرية والتعبير عن الرأي.

لم يتوقف دور محمد هاشم عند حدود العمل الثقافي وصناعة الكتاب، فقد كان ناشطاً سياسياً، حتى أصبح مقر الدار ربما أكثر صخباً وحيويةً من مقرات بعض الأحزاب السياسية. وأثناء ثورة 25 يناير، وبسبب قرب الدار من ميدان التحرير، مركز الحراك الثوري آنذاك، كانت ملاذاً لكثير من أبناء الثورة، خصوصاً من المثقفين، سواء لالتقاط الأنفاس، أو متابعة الأخبار، أو حتى المبيت في الدار التي فتحت أبوابها على مصاريعها. كما كان هاشم ناشطاً في ثورة 30 يونيو ضد جماعة الإخوان، وشارك في الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات التي أقيمت ضدهم، بل إن لافتات كثير من الوقفات ضدهم كانت تخرج من مقر الدار.

عن الراحل يقول الروائي والقاص محمد محمد مستجاب: «رغم أنني لم أكن من (شلة دار ميريت) التي اشتهرت في بداية الألفية، حيث كان يحضرها والدي رحمه الله (الروائي الراحل محمد مستجاب)، فإن علاقتي بعمنا محمد هاشم كانت بعد رحيل والدي في 2005، خصوصاً في إرسال أعمالي لإبداء الرأي فيها، ثم طلبه عملًا لي ليصدر عن (ميريت) لكن هذا لم يتحقق. لكن (ميريت) التي تنقلت من شارع قصر النيل ثم شارع صبري أبو علم ثم باب اللوق ظلت ظهراً حامياً للثقافة المصرية، وليس لي على المستوى الشخصي، وقد خرجت منها عدة مظاهرات تحمي مكتسبات ثورة يناير».

يضيف مستجاب: «محمد هاشم كان يرعى كثيراً من المواهب، ويحزن عندما يجدها انحرفت عن مسارها، واتجهت لشيء آخر بعيداً عن الكتابة. وسيظل اسمه غالياً على جميع الكتاب المصريين والعرب، ومنبراً طالما أحببناه وتعاركنا واختلفنا معه، لكنه كان دائماً مثل آبائنا؛ يعلم أننا سنعود كي نجد في حضرته الابتسامة، وفي جيبه النقود التي تدفئ أيامنا، والكتب التي تشعل خيالنا بالإبداع. برحيل (أبو ميريت)، خسرنا صرحاً ثقافياً حقيقياً في زمن العبث الثقافي».

ويقول الروائي سامح الجباس: «قدم محمد هاشم للثقافة المصرية والعربية أهم الأسماء التي تملأ الساحة الأدبية المصرية الآن، كلهم كانوا مجرد كتاب شبان هواة خرجوا من عباءة (ميريت)، وانطلقوا بعدها نجوماً في ساحة الأدب، وأنا منهم. ففي عام 2005 حملت في يدي أول مخطوط لكتاب أرغب في نشره، وذهبت مباشرة إلى (ميريت)، أهم وأشهر دار نشر خاصة وقتها، واستقبلني صاحب الدار محمد هاشم بحفاوة كأنني كاتب معروف. وحتى نهاية 2010 كنت زائراً شهرياً للدار، ومنها قرأت لكل هذا الجيل من الكتاب، فقد كانت ملتقى الكتاب، فيها كنت تقابل أحمد فؤاد نجم وخيري شلبي وحمدي أبو جليل وعلاء الأسواني والسيد ياسين وغيرهم من الصحافيين والفنانين. وكانت أبوابها مفتوحة دائماً للشباب روائيين، وشعراء، ومطربين، وموسيقيين. وفيها ندوات يومية تقريباً».

ويكمل الجباس: «مرت السنوات، وتعرضت (ميريت) لهزات زلزالية حتى أوشكت الدار على التوقف. وانتقلت الدار من مكان إلى آخر في نطاق وسط البلد. وكنت حتى بداية هذا العام حريصاً على أن أزورها كلما انتقلت من مكان إلى آخر ولو مرة واحدة في العام، تقديراً لموقف هاشم معي في بداياتي، فقد نشرت في الدار عام 2006، ثم انتقلت للنشر بعدها في أكثر من دار نشر، لكني كنت أدين بالفضل والامتنان لهذا الرجل. فتح محمد هاشم الباب لعشرات الكتاب ونسي نفسه، نسي أنه نشر رواية وحيدة بعنوان (ملاعب مفتوحة)، وقلت له في آخر زيارة منذ شهور إنه يجب أن يعيد طباعتها. سيظل اسم محمد هاشم، وتجربة (دار ميريت)، وستظل أفضاله تحيط بالكثيرين، مهما تنكروا له، وقد حان دور اتحاد الناشرين لتكريم اسم هذا الرجل. الكلام والذكريات عن محمد هاشم ودار ميريت يحتاج إلى صفحات وصفحات من الحب والامتنان، والكثير من الحزن والأسف».

ويروي الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة «ميريت» التي كانت تصدر عن الدار، تجربته مع الناشر الراحل، قائلاً: «كان رجلاً جريئاً كريماً، طيِّباً بشوشاً محبّاً للحياة والناس. ذهبت له بمشروعي لإصدار مجلة ثقافية تنويرية، فوافق دون قيد أو شرط، وطوال خمس سنوات لم يتدخل ولا مرة، رغم أنه كان يصدُّ عنَّا ويحمينا».

محمد هاشم في «ميريت»، مع حسني سليمان في «شرقيات»، صنعا طفرة كبيرة في عالم النشر الثقافي منذ منتصف التسعينيات، سارا الخطوة الأولى التي فتحت طريق التحديث حتى اليوم.