- ما بين الفن والسلطة
«مفيستو» للمجري استفان شابو (إنتاج مجري- ألماني- نمساوي مشترك) يتمحور حول الصراع ما بين موقف الفنان وموقف السلطة وإلى أي مدى يستطيع الأول الاستمرار في تأدية رغباته، وتسلق مكانته من دون التعرض إلى ضغوط السلطة الهادفة احتواءه. إلى أي مدى يقدر ذلك الفنان على مقاومة الضغوط التي تُلقى عليه، والتي سريعاً ما تتحول إلى تهديدات تتناول كل مستقبله.
هنا، ينتهي البطل إلى موظف للسلطة يضع في تصرفها كل طموحاته وكل مواهبه، وذلك حسب ما وردت به رواية كلوس مان التي قام المخرج شابو باقتباسها. كلوس مان روائي ألماني عاش من 1906 إلى 1949 (توفي منتحراً)، يُجمع نقاد الرواية على أن أفضل أعماله هي تلك التي كتبها في منفاه (مدينة «كان» التي شهدت العرض الأول لهذا الفيلم)، والتي ضمّت «السيمفونية العطوفة» (1935)، و«مفيستو» (1936)، و«البركان» (1939)، وهو الزمن الذي كانت فيه النازية تعيش أوجّ مراحل نموها، وتبدأ فيه ببث التهديد على سلامة الأقليات والدول المجاورة على حد سواء. وقد تميزت هذه الروايات، كمجمل أعمال المؤلف، بمعارضة شديدة للفاشية، كما في انعكاس يأس مؤلفها الشديد من الظروف الخاصة والعامة التي كان يحياها.
لا يخفي الفيلم أياً من هذا وهو يسرد حال الفنان هندريك هوفغن (يؤديه الممثل المتواري كلاوس ماريا برانداور)، الذي ظن أن في مقدوره إيقاف زحف السلطة فوق أعماله. بمجرد أن يكرر عبارته «أنا ممثل فقط…»، محاولاً الفصل بين كيف يرى نفسه وكيف يريدونه أن يكون. لكن الفاصل كان يضيق كلما اضطر هوفغن إلى الخضوع، حتى بات الفاصل بينه وبين مصيره مجرد وجهَي نزاع في شخص واحد يسرع لاحتلال مواقع الرفض الأخيرة فيه.
في تأكيداته السابقة لوصوله إلى وضع يجد فيه أن عليه الإذعان للسلطة النازية، ذلك الوهم الجميل بقدرة المرء على إبعاد نفسه وفنه عن الموقف السياسي، نتعرف على هندريك كممثل طموح له مواقف ليبرالية واضحة. لديه علاقة عاطفية مع جولييت، مدرّسة الباليه التي تعلّمه الرقص، وهي فتاة سوداء يصورها المؤلف عشيقة أولاً ومعلمة رقص ثانياً، لكن المخرج يقلب الصورة حفاظاً على وحدتها ويعطيها رسماً أكثر احتراماً لموضعها. وأقرب زملاء هندريك إليه هما ميكلاس وألريخ، وهما يساريان. في حين أن باربره، وهي الزوجة التي يسعى إليها، فتاة متحررة وذات نظرة تقدمية لمجمل الطروحات الثقافية والسياسية في ذلك الحين.
شابو لا يُدين السلطة لأنه من غير المتوقع أن تتصرّف على عكس موقعها السياسي، لكنه ينتقد الفنان والمثقف المتمثلين في شخصية هنريك. ففي سعيه للزواج من باربره، نكتشف فيه نمطاً من التفكير الوصولي في بدايته الأولى، فهو على حبه لها، لا يستطيع إلا أن يدرك أنها، بعلاقة والدها مع رجالات الفن، ستتيح له فرصة دخول مسرح الدولة في برلين وتلقف ثمار نجاحه. هنا يشهد بداية فشله في ضبط مسار حياته كما كان يرغب. يشهد تراجعه أمام متطلبات السلطة التي حاول مصالحتها. تطلب منه طلاق زوجته التي كانت قد فرّت مع والدها اليهودي إلى فرنسا، وإنهاء علاقته بالفتاة السوداء، لأنها ليست من عنصره ومستواه، وكذلك بميكلاس وألريخ، زميليه اللذين حاول أن ينقذ مصير أحدهما (ألريخ) دون فائدة.
«مفيستو»، دون شك، فيلم مهم جداً على صعيديه السياسي والفني، وإذا كان شابو لا يؤمّن كل ما يحتاج إليه الفيلم من نجاح، إلا أن هذه المسألة منفصلة تماماً عن قيمة الفيلم ككل، وكل ما يمكن أن تعكسه هنا هو بقاء الظن بأن مضمون الفيلم السياسي قد ساعد المخرج إلى حد كبير في تأليف ومعالجة شكله. برانداور مبهر الأداء، لا يدخل في نمط ما، لكنه يؤدي شخصيته ومراحلها وتقلباتها في إتقان فريد.
- قيمة تاريخية: ممتاز
- قيمة فنية: ممتاز