خيارات الصين في مواجهة «استدارة» أميركا نحو «الشرق الأدنى»

الرئيسان الأميركي أوباما والصيني جين بينغ قبيل لقائهما الثنائي في كاليفورنيا في 7 يونيو 2013 (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي أوباما والصيني جين بينغ قبيل لقائهما الثنائي في كاليفورنيا في 7 يونيو 2013 (أ.ف.ب)
TT

خيارات الصين في مواجهة «استدارة» أميركا نحو «الشرق الأدنى»

الرئيسان الأميركي أوباما والصيني جين بينغ قبيل لقائهما الثنائي في كاليفورنيا في 7 يونيو 2013 (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي أوباما والصيني جين بينغ قبيل لقائهما الثنائي في كاليفورنيا في 7 يونيو 2013 (أ.ف.ب)

انهيار سطوة السوفيات العسكرية وتوقف الماكينة الاقتصادية اليابانية، أبقيا الولايات المتحدة وحدها في طليعة دول العالم عسكريا واقتصاديا من دون منازع. هذا الانفراد بالصدارة، دفع الأميركيين، مسؤولين ومثقفين، إلى الوقوف والتأمل في بريق تلك اللحظة، فأطلق الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، لقب «القرن الأميركي» على القرن العشرين، فيما أطلق الأكاديمي المعروف، فرانسيس فوكوياما، عنوان «نهاية التاريخ» على السنوات الأخيرة من الألفية الثانية التي شهدت تفوقا أميركيا لا لبس فيه. لكن التاريخ لم ينته، وراحت الولايات المتحدة تخسر صدارتها في بعض المجالات الاقتصادية مع نهاية القرن الماضي.
في عام 1999، انتزعت الصين صدارة العالم في استهلاك الفولاذ، وفي عام 2001 في عدد الهواتف الجوالة. وفي عام 2002 أصبحت الأولى عالميا في استهلاك النحاس. أما في عام 2003 فتصدرت الصين دول العالم في الاستثمارات الأجنبية. وأصبحت الدولة الأولى في انبعاث ثاني أكسيد الكربون في عام 2006، والأولى في الصادرات في عام 2007. وفي عام 2010 أصبحت الأولى في الإنتاج الصناعي، وفي استهلاك الطاقة، وفي مبيعات السيارات.
هذا التقدم السريع جعل الصين تحتل عام 2011، المركز الثاني لأكبر اقتصاد في العالم وتأخذ موقع اليابان. ومع نهاية العام الحالي، من المتوقع أن يبلغ حجم الاقتصاد الصيني 9 تريليونات دولار، ليبقى في المرتبة الثانية خلف الاقتصاد الأميركي الذي يبلغ حجمه 14 تريليونا. وحسب توقعات «ذي إيكونوميست انتيليجنس يونيت» المرموقة، فإن الاقتصاد الصيني سيصبح الأكبر عالميا في عام 2021. وستتحول الصين إلى أكبر دولة تنفق على الشؤون الدفاعية في عام 2025، متخطية أميركا التي بلغ إنفاق وزارة الدفاع فيها عام 2008 إنفاق وزارات دفاع العالم مجتمعة.
صعود الصين هذا لم يكن يوما خافيا على أحد، خصوصا الولايات المتحدة، التي بدأت منذ انتخاب باراك أوباما في عام 2009 ما أطلقت عليه سياسة «الاستدارة» من الشرق الأوسط إلى الشرق الأدنى، وهي سياسة معقدة ومبنية على خطوات مصممة لإبقاء أميركا الأولى عالميا.
حجر الزاوية في سياسة أوباما هذه، هو إعادة تأهيل داخلية. وتطلب هذا حتما، إنهاء حروب أميركا المكلفة في الخارج، أي في العراق وأفغانستان التي تشير التقديرات، إلى أن تكلفتها بلغت قرابة 6 تريليونات دولار، أو ثلث الدين الأميركي العام البالغ نحو 17 تريليونا.
وترافق إنهاء الإنفاق الأميركي «لبناء الدول» في الخارج، مع تجديد حزمة من السياسات الاقتصادية أسهمت في إعادة إحياء الصناعة الأميركية، وزيادة الصادرات التي ارتفعت بنسبة 19 في المائة بين عامي 2008 و2012، لتصل إلى تريليون و500 مليون، فقفزت أميركا من المركز الثالث عالميا في الصادرات إلى المركز الثاني، لتحل محل ألمانيا وتصبح الثانية خلف الصين. وكانت أميركا خسرت مركزها الأول في عام 2003، لكن مع حلول عام 2013 أظهرت البيانات أن كمية صادرات أميركا بلغت 76 في المائة من صادرات الصين، وهو ما يشير إلى تقلص في الهوة بين البلدين لمصلحة الأميركيين.
ومن حسن حظ أوباما، أن سياسته للبقاء في الصدارة ترافقت مع انتشار تقنية استخراج النفط والغاز الصخري. وشهدت أميركا العام الماضي زيادات في ناتجها اليومي من الطاقة لم تشهدها منذ اكتشاف البترول في ولاية بنسلفانيا في عام 1859. وكانت وزارة الطاقة الأميركية أعلنت، الشهر الماضي، أنها احتلت المركز الأول كأكبر دولة منتجة للنفط والغاز في العالم، لتحل محل روسيا.
الفورة النفطية الأميركية لا تنبئ باكتفاء ذاتي مع نهاية العقد وحسب، بل أسهمت، حتى الآن، في إعادة إحياء صناعات أميركية كثيرة ترتبط بمشتقات النفط، وأسهمت هذه الصناعات - مع الزيادة في التصدير والتقليص في استيراد الطاقة - إلى تقليص في عجز ميزان المدفوعات الأميركي للمرة الأولى منذ عقود.
هل تصبح الصين الأولى عالميا؟
بدأت أرقام تشير إلى تعافي اقتصادها، وإن بشكل خجول، وصارت نسب النمو الاقتصادي تقارب 3 في المائة سنويا، يترافق ذلك مع انخفاض في نسبة البطالة وفي عجز ميزانية الدولة السنوي. في الوقت نفسه، تراجعت نسب النمو الاقتصادي في الصين في عام 2013 إلى 7.5 في المائة، بعدما تعدت 14 في المائة في عام 2009.
ينقسم الاقتصاديون عموما حول مستقبل الصين. البعض من أمثال جيم أونيل، مؤلف تسمية «دول بريكس»، يعتقد أنه في حين خيبت ثلاث دول من هذه المجموعة آماله، وهي البرازيل وروسيا والهند، التي انهار الصعود الاقتصادي الذي شهدته على مدى العقد الماضي، فإن أونيل ما يزال يراهن على نجاح الصين في قلب اقتصادها من واحد يعتمد على الاستثمارات الأجنبية والتصدير، إلى آخر يعتمد على الاستهلاك الداخلي.
وبمقارنة بسيطة، يظهر أنه فيما يعتمد ثلثا نشاط اقتصاد أميركا على الاستهلاك المحلي، لا تتعدى النسبة نفسها 35 في المائة في الصين حسب بيانات خريف عام 2013. وكانت الحكومة الصينية وعدت بزيادة نسبة الاستهلاك إلى 50 في المائة من ناتجها المحلي مع نهاية العقد الحالي، إلا أن هذا الهدف يبدو طموحا بعض الشيء.
بدوره، يقول المعلق في صحيفة «نيويورك تايمز» وأستاذ الاقتصاد الحائز جائزة نوبل، بول كروغمان، إن «الإشارات اليوم لا يمكن أن تخطئ، فالصين في ورطة كبيرة». ويضيف «نحن لا نتحدث عن تراجع بسيط، إنما مشكلة جوهرية». ويتابع أن «كل النموذج الذي تجري فيه الصين أعمالها، النظام الاقتصادي الذي غذى ثلاثة عقود من النمو المذهل، وصل إلى أقصاه. ويمكن القول إن النموذج الصيني سيرتطم بالسور العظيم، والسؤال الوحيد الآن هو مدى فداحة الارتطام».
وينقسم الاقتصاديون في تحديد شكل الأزمة الصينية المقبلة، فيعتقد بعضهم أنه لا يمكن لهذه الأزمة أن تأتي على شكل التعثر الياباني في عام 1992، بسبب محدودية انخراط الصين في الأسواق المالية العالمية. بينما يعتقد بعض آخر أنه بسبب إصرار الصين على تمويل حكومي لصناعتها من أجل الإبقاء على إنتاجها مرتفعا، حفاظا على «الأمن الاجتماعي»، المرتبط بإبقاء معدلات البطالة منخفضة، قد يأتي انهيار الصين الاقتصادي بطيئا على شكل الوهن الذي أصاب الاتحاد السوفياتي.
وبغض النظر عما إذا كان اقتصاد الصين سيرتطم بأي عقبات أم لا، فإنه من المؤكد أن أمامها عقدين فقط لتحقيق سطوتها العالمية والحفاظ عليها، إذ من المتوقع أن تصيب الشعب الصيني شيخوخة قبل حلول منتصف القرن الحالي، وهو ما يفرض تراجعا اقتصاديا على غرار أوروبا واليابان. ويبدو ذلك جليا في أرقام نمو السكان، فالنسبة الوحيدة التي تتقدم فيها أميركا على الصين منذ عام 1992 هي النمو السكاني، بفعل الولادة والهجرة، مما يعني أن أمام أميركا فرصا أكبر للحفاظ على شبابية قوتها الإنتاجية لفترة أطول بكثير من الصين واليابان وباقي الاقتصادات المتقدمة، وما من شأنه أن يسمح لأميركا بالحفاظ على صدارتها الاقتصادية العالمية، وتاليا سطوتها.
الحرب الباردة بنسختها المحدثة أميركا المتيقظة دائما لأي منافسة عالمية لا يبدو أنها تنتظر تعثر الصين ذاتيا، بل تعمل وكأن النمو الصيني مستمر إلى الأبد. هكذا، ولاحتواء الصعود الصيني، كان لا بد لواشنطن من عقد تحالفات دولية على غرار تلك التي عقدتها زمن الحرب الباردة. ففي أيام الصراع مع موسكو، تفوق السوفيات على الأميركيين في عدد القوات التقليدية وكميات الأسلحة ومساحة الجبهات، حتى إنهم صعدوا إلى الفضاء قبل الأميركيين. لكن أميركا نجحت في خلق «تحالف الأطلسي» مع الأوروبيين، وكان يمكن لهذا التحالف مقارعة الروس من حيث عدد الجنود الذي كانت أميركا متأخرة فيه.
في حالة الصراع مع الصين، تعاني أميركا مشكلة مشابهة، فعدد سكانها البالغ 330 مليونا بالكاد يبلغ ربع تعداد سكان الصينيين. اقتصاديا، يعطي ذلك الصين نقاط تفوق متعددة، فمع التقدم في مداخيل الصينيين، يمكن أن تتحول الصين إلى أكبر سوق استهلاكية في العالم، وهي لديها، حاليا، أكبر عدد من العاملين على وجه المعمورة، كما أن تعداد أفراد طبقتها الوسطى وحدها يساوي عدد الشعب الأميركي كله.
وتشير أحدث الإحصاءات، إلى أن أميركا ما زالت أكبر سوق في العالم، مع حجم استيراد سنوي يبلغ تريليونين و200 مليار، تليها الصين بتريليون و700 مليار. أما إذا تحولت الصين إلى أكبر مستوردة في العالم، فذلك سيعني أن الدول ستسعى إلى صداقتها أكثر للحفاظ على هذه السوق، مما سيعطي الصين أهمية استراتيجية تتفوق فيها على أميركا.
في ضوء ذلك، قامت الولايات المتحدة بالانضمام إلى سوق إقليمية تجمعها مع حلفائها ومنافسي الصين في جنوب وشرق آسيا، وذلك في إطار اتفاقية «الشراكة عبر الباسيفيك»، وهي اتفاقية تجارة حرة، ستجمع في حال قيامها المتوقع قريبا كتلة بشرية من نحو 800 مليون، مع اقتصاد يبلغ حجمه 28 تريليون دولار. هذه الشراكة، المبنية على رؤية أميركية للتجارة العالمية - غالبا ما لا تلتزم بها الصين - تحترم حقوق الملكية الفكرية وقواعد التجارة الحرة وتلغي الحمايات الجمركية، وهي في حال قيامها ستتحول إلى عملاق اقتصادي يفيد الدول الأعضاء، وقد تؤثر سلبا على أداء الصين الاقتصادي.
بكين بدورها أدركت أن أمامها سباقا، فراحت توقع الاتفاقيات مع الجمهوريات السوفياتية السابقة الواقعة على حدودها الشمالية، والغنية بالنفط عموما. لكن هذه الدول تفتقر إلى المقدرة الاقتصادية والبشرية التي تتمتع بها الاقتصادات المتقدمة شريكة أميركا، في الاتفاقية المذكورة، مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية.
هكذا، بعدما وضعت واشنطن نفسها على مسار اقتصادي تنافسي يجعل من تفوق الصين عليها أمرا أصعب مما كان عليه قبل خمسة أعوام، التفتت إلى التوازنات العسكرية، فوقعت اتفاقيات جديدة مع دول مجاورة للصين، وتضمنت هذه الاتفاقيات إنشاء قاعدة أميركية للمارينز في أستراليا، وقواعد لطائرات التجسس من دون طيار من طراز «غلوبال هوك» في اليابان، في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. ومع أن التجسس موجه نظريا إلى كوريا الشمالية، فإنه يغطي من دون شك حركة القطعات البحرية الصينية.
ومن المتوقع أن تسهم الترسانة العسكرية الأميركية المتفوقة في حماية خطوط التجارة بين دول هذه الاتفاقية، وتعزيز أمن مجموعة «الشراكة عبر الباسيفيك»، تماما كما فعلت القوات الأميركية و«حلف الأطلسي» في زمن الحرب الباردة في وجه السوفيات.
هذه المواجهة الأميركية - الصينية الباردة ستؤثر على السياسة الدولية لأبرز قوتين في العالم، وسيتصدرها من دون شك النزاع القديم على مصادر الطاقة. فقد أصبحت الصين أخيرا، الأولى عالميا في استهلاك النفط بدلا من أميركا، لا بسبب زيادة حاجتها إلى الطاقة وحسب، بل بسبب اقتراب أميركا من الاكتفاء الذاتي، وهذا ما دفع الأميركيين إلى الاعتقاد بأن الاستمرار في سياسة حماية منابع النفط، وطرق انتقاله البحرية والدولية، عملية مكلفة لواشنطن ومردودها الأكبر يعود إلى الصين.
هكذا، ترددت الأصوات داخل العاصمة الأميركية، حول ضرورة إجبار الصين على تحمل مسؤولياتها في تكاليف حماية التجارة الدولية، ومنها الطاقة، أو الانسحاب من المناطق التي تعتقد واشنطن أن الصين بحاجة أكثر لها، مثل الشرق الأوسط، مما يجبر بكين على التدخل إيجابا في صناعة سياسات هذه الدول بدلا من دور المتفرج أو المعطل الذي تلعبه هنا أو هناك. فإذا كانت القنبلة النووية الإيرانية تدفع إلى سباق تسلح نووي، وتهدد استقرار الشرق الأوسط، وتدفع سعر النفط صعودا، فلتتعامل الصين بمسؤولية أكبر مع الموضوع.
والدعوة الأميركية إلى مسؤولية صينية عالمية، تنطبق كذلك، على شؤون مثل البيئة وانبعاث الغازات الحرارية، ومكافحة الجريمة الدولية، ومجابهة الاتجار بالمخدرات، ومحاربة القرصنة. فإذا كانت الصين تفيد من الاستقرار ومن محاربة هذه الآفات، فعليها المساهمة سياسيا وماليا في ذلك.
هذا يعني أن أميركا جدية في سياسة «الاستدارة»، وأنها تنوي استثمار ما تبقى لها من تفوق على الصين في إطالة تفوقها قدر الإمكان، بل استعادته وتثبيته إن أمكن.
الاستدارة في زمن العولمة توم دونيلون عمل مستشارا للأمن القومي الثالث والعشرين في تاريخ الولايات المتحدة، والثاني عند أوباما، وهو شغل منصبه بين عامي 2010 و2013. أما أبرز ما يعزى إليه، فهو تصميمه سياسة «الاستدارة» من الشرق الأوسط إلى الشرق الأدنى التي تنتهجها الحكومة الأميركية الحالية.
وبموجب هذه السياسة، أنهت أميركا حربها في العراق على وجه السرعة، أي من دون التوصل إلى اتفاقية مع العراقيين لإبقاء قوة عسكرية صغيرة بعد الانسحاب الأميركي في نهاية عام 2011. كذلك، تسعى أميركا إلى إنهاء حربها في أفغانستان العام المقبل، بغض النظر عن نجاحها في تثبيت الوضع هناك أم لا، وبغض النظر عن موافقة الأفغان على إبقاء قوة أميركية صغيرة في مرحلة ما بعد الانسحاب أم لا.
ولا يخفى أنه في أثناء المرحلة التي عرفت بالربيع العربي، بدت واشنطن مرتبكة تجاه الثورة التي أطاحت بالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ومترددة في المشاركة في الحرب التي أطاحت بالعقيد الليبي معمر القذافي. وبلغ التقاعس الأميركي في الشرق الأوسط ذروته، بعدما تراجعت واشنطن عن توجيه ضربة لنظام بشار الأسد في سوريا، بعد شن نظام الأخير هجوما بالأسلحة الكيماوية ضد مدنيين في 21 أغسطس (آب) الماضي.
وفي العلاقة مع إيران، حقق اتفاق جنيف أخيرا مع إيران حول ملفها النووي نوعا من الانفتاح الذي سعى إليه أوباما طويلا، ووجدت فيه إيران، من جانبها فرصة لاقتناص تسوية ما مع أميركا تكون في مصلحتها، فتتحول إلى دولة نووية، أو تصبح صاحبة مقدرة على إنتاج أسلحة نووية، على الأقل، حتى لو لم تقم فعليا بصناعتها، وفي الوقت نفسه ترفع أميركا والمجتمع الدولي العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها مقابل تطبيع دبلوماسي بين الجانبين.
وتعتقد الولايات المتحدة، على الأقل حسب كتاب مذكرات وزير الدفاع تشاك هيغل الذي أصدره على أثر تقاعده من مجلس الشيوخ في عام 2008، أن الانفتاح على إيران يشبه انفتاح أميركا على الصين الشيوعية مطلع السبعينات. يومذاك، تجاهلت واشنطن عقيدة الصين الاقتصادية وتجاوزاتها لحقوق الإنسان ومعظم المبادئ التي تبشر أميركا بها، وانفتحت على بكين في سبيل ما اعتقدته مكاسب اقتصادية على شكل تجارة واستثمارات مربحة للشركات الأميركية في الصين.
لكن الدرس الوحيد من الانفتاح الأميركي على الصين، هو أن الأخيرة تحولت إلى قوة اقتصادية، وبقيت في الوقت نفسه ندا - وفي بعض الأحيان خصما - للولايات المتحدة. ومن غير المفهوم كيف يمكن أن تتحول إيران النووية، صاحبة أكبر مخزونات العالم النفطية، إلى قوة صديقة لأميركا، من دون أن تهدد المصالح الأميركية ومصالح حلفائها في المنطقة.
ثم إنه في حال رفع العقوبات عن إيران وبسبب قرب الصين جغرافيا منها، تكون الولايات المتحدة قد قدمت للصينيين مصدرا هائلا للطاقة على طبق من ذهب، مما يعني أن سياسة «الاستدارة»، التي تفترض أن الشرقين الأوسط والأدنى كيانان منفصلان ولا يرتبطان مع بعضهما البعض، هي ضرب من السذاجة في السياسة الدولية، فالاستدارة الأميركية ممكنة فقط لو كان الشرقان منفصلين إلى الحد الذي يتصوره بعض الأميركيين من أمثال دونيلون. ولكن مع عالم معولم ومتصل ببعضه بعضا كما هو حاليا، تصعب الاستدارات، ويصبح المطلوب سياسات أكثر تعقيدا تسمح لواشنطن بأن «تمشي وتمضغ العلكة في الوقت نفسه»، على حسب التعبير الأميركي الرائج.
أميركا قوية وقيادة ضعيفة في ضوء ما تقدم، يمكن الاستنتاج أن حلول الصين محل أميركا ما زال موضع شك، وأن الولايات المتحدة ما زالت تتمتع بقدرات تجعل من الصعب أن ينافسها آخرون. لكن من الواضح أيضا، أن واشنطن ابتليت بقيادة عديمة الخبرة في الشؤون الدولية، وهي حتى لو نجحت في الفوز في سباقها مع الصين، ترتكب أخطاء على صعيد العالم، خصوصا في الشرق الأوسط، من شأنها أن تعطي الصينيين نقاط أفضلية، على عكس ما تأمله واشنطن. أما أبرز الأمثلة على ضعف أميركا عالميا، على الرغم من قوتها الفعلية، فيبدو جليا في تفوق الروس والإيرانيين، الذين يتأخرون بما لا يقاس على أميركا، لأسباب يبدو أنها تنحصر بسياسات واشنطن حصرا.



السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
TT

السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)

تعيش دمشق، في الذكرى الأولى لـ«التحرير» التي تصادف اليوم، لحظات احتفاء بعودة السوريين إلى بلادهم، وانهيار النظام السابق وهروب رئيسه بشار الأسد.

في العاصمة التي بدت كأنها في «وقفة عيد»، تتداخل بهجة بـ«حق العودة» مع ثقل الذاكرة، فيما تعكس الشوارع ملامح هوية جديدة حلّت محل رموز «الحقبة السوداء»، وصهرت مقاتلي الفصائل في أجهزة الدولة الناشئة، وامتصت جانباً من قلق الدمشقيين تجاه مستقبلهم.

وخلف الزينة والزحام والفنادق المكتظة والعائدين بعد سنوات منفى، ثمة غصة حاضرة لدى أهالي المغيبين وسكان المناطق المدمرة. رغم ذلك، استعاد الناس جرأة النقاش العلني، كأن «الجدران لم تعد لها آذان»، في تعبير عن شعور عام باسترداد القرار الفردي والحق في العودة.

هذا التحول لم يلغِ ذكرى الليلة العصيبة التي أعقبت هروب الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، حين وقفت دمشق على حافة الفوضى؛ فقد انهارت المؤسسات الأمنية، واندفعت مجموعات مسلحة لنهب مقرات حساسة، بينما ترك عناصر النظام بزاتهم في الشوارع.

ومع ذلك، نجحت أحياء مثل الجسر الأبيض وباب توما والقصاع في حماية نفسها عبر لجان أهلية ارتجالية ضمت أطباء وطلاباً وتجاراً. وبفضل هذه المبادرات، أوقف أكثر من 200 لص، وأحبطت محاولات اعتداء ذات طابع طائفي، في لحظة كشفت قدرة الناس على منع الانزلاق.

وفي طهران، تبرز اليوم روايات متناقضة حول انهيار «خيمة المقاومة»، وفقدان إيران عمودها السوري بين خطاب المرشد عن «مؤامرة خارجية»، ورؤية «الحرس الثوري» لسوريا بوصفها «المحافظة الخامسة والثلاثين»، ودفاع الدبلوماسية، واتهامات برلمانيين بهدر عشرات المليارات. وتتوالى الأسئلة حول التكلفة والخسارة، وفيما إذا تستطيع طهران خوض مغامرة جديدة في سوريا بعدما انهار الرهان السابق.


4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.