السويس محافظة مصرية صغيرة تحمل تاريخاً كبيراً، وتشتهر بين المصرين بكونها المدينة التي لا تهزم، لتصدى أهلها لجميع المعارك والحروب التي مرت في التاريخ الحديث، خصوصاً حربي 1967 و1973، وأفرزت طوال ذلك مئات الشخصيات المميزة المقاومة، كالكابتن غزالي، شاعر المقاومة الراحل، الذي تحول مكتبه الخاص إلى مكتبة للاطلاع، ومكان لتجمع أصدقائه وتلاميذه ومحبيه. ويرتبط اسم غزالي بعشرات الأغاني المصرية الخاصة بزمن الحرب والمقاومة، ومن أشهرها «غنى يا سمسمية»، حيث أسس غزالي فرقة «أولاد الأرض» لفنون السمسمية عقب حرب 1967، وكان لها دور كبير في رفع الروح المعنوية للمصريين بكلمات حماسية تلقائية.
وعقب نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973، انتهى دور الفرقة كواحدة من أدوات المقاومة الشعبية، وإن ظل غزالي يلعب دوراً مهماً في مدينة السويس، فتحلق حوله الأهالي يستشيرونه في كثير من أمورهم، سواء على مقهى سوريا الشهير أو في مكتبه، حتى وفاته العام الماضي عن عمر يناهز الثامنة والثمانين.
يقول الحاج أحمد غزالي، أكبر أبناء الشاعر الراحل، إن العائلة «فضلت عدم غلق مكتبه عقب رحليه، وقررت إتاحة مقتنياته من الكتب لأهالي السويس، خصوصاً أن غزالي كان موسوعي الثقافة، ويملك شغفاً كبيراً بالقراءة في كل فروعها، وهو ما انعكس على الكتب التي تركها، والتي بدت مغايرة لبداياته كمصارع يسعى للاحتراف، ويدير صالة لألعاب القوى».
وتمتلئ المكتبة بعناوين في مجالات الأدب والسياسة والاجتماع والاقتصاد، إلى جانب أعداد قديمة من مجلات ثقافية. وتتيح أسرة غزالي استعارة الكتب أيضاً بالشرط نفسه الذي كان يضعه والدهم الراحل، وهو إعادتها مرة أخرى.
بخط الرقعة الأحمر المميز الكبير كُتبت عبارة «كابتن غزالي»، للإشارة إلى مكتب شاعر المقاومة الراحل الذي يشبه الدكان الصغير، وينقسم إلى دورين؛ أحدهما كان مخصصاً كمكتب للشاعر الراحل، والآخر لجلسات السمر التي لم تنقطع منذ الستينات من القرن الماضي، وشهدت حضور عشرات من الشعراء والساسة.
الشاعر الفلسطيني محمود درويش كان أحد زوار مكتب غزالي خلال الستينات من القرن الماضي، مخترقاً بذلك حصار المدينة الباسلة، وأجواء الحرب وقتها، وكرمت فرقة «أولاد الأرض» درويش بأغنية خاصة له، كان مطلعها «أهلاً يا درويش يا بلبل سهرتنا.. كيف سميح وإيش (كيف) حاله.. وإيش حال عروبتنا». ويقول الحاج أحمد غزالي: «كان الشعراء جميعهم يلتفون حول فرقة (أولاد الأرض)، في حين يرافقهم بشكل دائم الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، الذي كان يقضى أشهراً كاملة بمدينة السويس، حتى يشغله حماس المقاومة عن مرارة الهزيمة». وكان الأبنودي دائماً ما يمازح الكابتن غزالي، قائلاً: «صوتك وحِش، عامل زى الحصيرة المقطعة، بس بيخليني عايز (محتاج) أقوم وأحارب»، ملخصاً الحالة الخاصة لكلمات وموسيقى غزالي. وبجانب الكتب، عرض عدد من الأشعار بخط يد الشاعر الراحل، بعضها يحمل تاريخ حديث، وتشي بنضج تجربته الشعرية وتطورها على نحو يعادل قوة شعره المقاوم.
وفضلاً عن الكتب والأشعار، توجد عشرات الصور التذكارية والأوسمة وشهادة التقدير التي منحت تكريماً لغزالي لدوره في المقاومة الشعبية، وأيضاً آلة سمسمية من صنع يده تركت لعزف الهواة من أبنائه، حيث لم ينجح أي منهم في احتراف فن أبيه، واستكمال مسيرته في إحياء التراث الغنائي لمدن القناة، وفن السمسمية. وبالقرب من المكتبة، تجد واحداً من أشهر خنادق الاحتماء من الغارات في أثناء الحرب، ولا تكتمل الزيارة إلى المكتبة دون المرور عليه، فهو الخندق الذي كانت تجتمع به فرقة «أولاد الأرض»، فيما أطلق عليه كابتن غزالي اسم «شاليه أولاد الأرض» على سبيل المزاح، وما زالت تلك العبارة باقية رغم مرور السنوات، بينما تم إغلاق مدخله، مع تأكيد سكان البناية أن الخندق ربما امتلأ بالمياه الجوفية.
مكتبة غزالي المصرية شاهد على تاريخ المقاومة الشعبية بالغناء
مكتبة غزالي المصرية شاهد على تاريخ المقاومة الشعبية بالغناء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة