فيما جلس إدريس أمام متجره لبيع أواني الفخار في منطقة "الولجة" بمدينة سلا القريبة من العاصمة المغربية الرباط، عارضاً سلعه بألوانها الزاهية، والمرتبة بإتقان أمام باب المحل وعلى جنباته، انزوى المعلّم ميلود وراء آلته الخاصة بصناعة الفخار في الورشة القريبة، وانشغلت يداه بتطويع الطين، صانعا منه أشكالا مختلفة، أما محمد فقد نزل في صهريج صغير وشرع في تحريك رجليه بقوة ليخلط الماء بالتراب...
أواخر سبعينات القرن الماضي، أمر العاهل المغربي الحسن الثاني بتجميع 18 حرفياً يمتهنون صناعة الفخار كانوا على ضفة واد أبي رقراق في منطقة الولجة، في مجمع للخزف يقام في المكان نفسه، فارتفع عدد المحلات قبل أن يتقلص بعد سنوات، لأن الحرفة في تراجع مستمر، كما يقول إدريس الذي ورث الحرفة والمحل عن والده.
في هذا المكان يملك كل صاحب متجر ورشة لصناعة الفخار. وفي الورشة التابعة لإدريس التقينا ميلود الذي يعمل على اللولب مشكلاً من الطين الطّيِّع أواني مختلفة، وإلى جانبه بعض القطع الجاهزة، بينما تكوّم طين كثير في أحد الأركان.
يقول ميلود، وقد لطخ الطين ملابسه: "من المفروض أن يكون إلى جانبي الآن طفل أو يافع يتعلم، لكي تستمر هذه الحرفة، فعدم وجود متدرّب معناه أن الحرفة تحتضر". وأضاف لـ"الشرق الأوسط": "من حق الشباب واليافعين النفور من هذه الحرفة، فهي تعيش اليوم إهمالاً، وأوضاع الحرفيين مزرية... لو عاد بي الزمن إلى الوراء لاخترت عملا آخر".
المعلم محمد المتخصص في النقش بالصباغة على الأواني الخزفية، وزميله إبراهيم المتخصص في الطلاء، شاطرا ميلود الرأي، وأوضحا لـ"الشرق الأوسط" أن هذه الورشة كانت تعج بالعمال قبل أعوام، أما اليوم فبالكاد يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
*مراحل متسلسلة
في مكان غير مسقوف من إحدى الورشات، نزل رجل سبعيني يدعى محمد في صهريج خلط فيه الماء والتراب، ووراح يحرك رجليه بقوة لخلطه، قبل أن يمرره من غربال ذي فتحات ضيقة داخل صهريج آخر. وشرح أنه يترك الخليط بضعة أيام قبل تحويله إلى صهريج ثالث حيث يبقى إلى أن تتبخر مياهه. بعد هذه العملية، يُنقل الطين إلى الداخل ويُركل جيدا فيصبح جاهزا للعمل.
وقال حرفي آخر إن الطين بعد أن يعطى شكل أوانٍ على يد الصانع مستعينا باللولب، يوضع في الظل حتى يجف. بعد ذلك يتولى "معلّم" آخر نقشه أو طلاءه بالصباغة، قبل أن يوضع لساعات داخل فرن غاز كبير في حرارة تصل إلى ألف درجة.
*منافسة صينية
جلس أحمد وراء مكتب خشبي صغير، وأواني الخزف حوله من كل جانب، بينما انهمك أحد العمال في نفض الغبار عن بعض القطع وتغليفها بالورق. قال صاحب المتجر بنبرة واثقة إن حركة البيع لا بأس بها، لكنه استدرك أن بعض السلع الصينية المصنوعة من السيراميك أثرت على تجارة الخزف، لكنه لفت إلى أنها ليست العامل الوحيد الذي يهدد صناعة الفخار في هذا المجمع.
وهنا قال إدريس إن و"كالة تهيئة ضفتي نهر أبي رقراق" منعتهم أخيراً من استخدام المقلع الذي يجلبون منه التراب الخاص بالفخار منذ أكثر من ثلاثين سنة، موضحا أنهم الآن يضطرون لشراء التراب من أصحاب بعض الشاحنات الذين يجلبونه من ورشات البناء، بثمن قد يتجاوز 200 دولار للشحنة الواحدة، الأمر الذي رفع كلفة الإنتاج.
وأضاف إدريس أن الورشات لم تعد تنتج الكثير من القطع، مشيرا إلى أن السلع المعروضة في المحلات ليست كلها من صنع محلي، "بل إن هناك سلعا تأتي من مدن مغربية أخرى كآسفي ومراكش، نشتريها بالجملة ونعرضها هنا".
أما عبد الكبير فاضطر تحت ضغط كل هذه العوامل إلى إغلاق متجره وورشته، ليعمل سائقا لدى إحدى المدارس الخاصة. ورأى أن هذا المجمع مهدد بالاندثار، مضيفا أنه ترك العمل في متجره وورشته لأن مدخوله لم يعد يكفيه لإعالة أسرته.
*من «مبادرة المراسل العربي»