حلم «الدولة الكردية»

الدعوة لاستفتاء حول استقلال إقليم كردستان العراق.. تواجه خلافات وعقبات

حلم «الدولة الكردية»
TT

حلم «الدولة الكردية»

حلم «الدولة الكردية»

جاءت رياح العنف والقتال بين الجيش العراقي وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وسيطرة التنظيم المتطرف على مدن ومحافظات غربية في البلاد، بما تشتهي سفن مسوؤلي إقليم كردستان، الذين لوحوا لاستقلال إقليمهم، بالدعوة إلى استفتاء جماهيري، وبتأكيد رئيس الإقليم مسعود برزاني أن الأكراد لن يبقوا جزءا من عراق مضطرب.. وقال «استيقظنا ووجدنا بجوارنا دولة جديدة}.. وإن العراق مقسم بالفعل.. وإن الاستقلال حق طبيعي. واستغل الأكراد الأوضاع الأمنية للسيطرة على المناطق المتنازع عليها مع بغداد.. وفي المقابل رفض رئيس الوزراء نوري المالكي هذه الإجراءات وهدد الأكراد بـ«الندم}، ووصف أربيل بأنها «بؤرة الإرهاب}، كما أن دول الجوار وأهمها تركيا وإيران رفضتا أيضا قيام دولة كردية.
وتباينت الآراء في الساحة العراقية، وبينما أعربت قيادات سنية معارضة للحكم في بغداد تأييدها الكامل لتأسيس دولة كردية في العراق، أعلن الجانب الشيعي عن معارضته التامة لمبدأ تقرير المصير للكرد، أما الجانب الكردي فيؤكد أن هناك دعما كبيرا من قبل المجتمع الدولي لحق الأكراد في تقرير مصيرهم. وبين تحقيق الحلم الكردي.. جسور كثيرة ينبغي عبورها.. إقليميا ومحليا.
تعلن تنسيقية ثوار العشائر في العراق التي تقود إلى جانب فصائل أخرى المعارك ضد القوات الحكومية في المناطق السنية في العراق، عن تأييدها الكامل لتأسيس دولة كردية.
وقال فائز الشاووش المتحدث الإعلامي لهيئة ثوار العشائر في حديث لـ{الشرق الأوسط}، «نحن نؤيد أي شيء يقرره الشعب الكردي والقيادة الكردية من ناحية تقرير مصير هذا الشعب، من حق الأكراد الاستقلال وتأسيس دولة لهم في كافة الأراضي التي يسيطرون عليها بما فيها الأراضي التي سيطرت عليها قوات البيشمركة الكردية بعد أحداث الموصل}.
وفي الوقت ذاته أعرب الشاووش عن معارضتهم لإنشاء دول دينية في العراق على حد تعبيره. وقال «المالكي يريد تقسيم العراق إلى دويلات سنية وشيعية، ونحن نرفض هذه الدول الدينية، لأن الأوطان للقوميات وليست للأديان، إذن هي من حق الأكراد لأنهم قومية، أما الشيعة والسنة فلا، فنحن نؤمن بوحدة العراق شيعة وسنة}.
من جانبه أكد الشيخ سعد افتيخان أبو ريشة عضو الهيئة السياسية لثوار العشائر في العراق، تأييد السنة لمشروع إعلان الدولة الكردية، وقال أبو ريشة لـ{الشرق الأوسط}، «نحن في دولة ديمقراطية، إذا قرر الشعب الكردي الانفصال، فالقرار حينها سيكون لهم، ونحن نؤيدهم، لأن الأغلبية قررت ذلك}. مبينا أن الدستور العراقي يمنح المواطن أن يقرر مصيره، سواء أكان ذلك بإقليم أو بكونفيدرالية.
أما الجانب الآخر، فقد بين معارضته للفكرة إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان لتقرير مصير الأكراد في العراق، داعيا الأكراد إلى الالتزام بالعملية السياسية واللجوء إلى الحوار في إطار العراق الموحد.
وفي خطابه الأسبوعي الأخير وصف رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أربيل عاصمة الإقليم ببؤرة الإرهاب، الأمر الذي تسبب برد فعل قوي في الأوساط السياسية الكردية، التي وصفت المالكي بالمصاب بـ{الهيستيريا}، وأدت تصريحات المالكي هذه إلى تدهور أكبر في العلاقات بين أربيل وبغداد.
ويبدي علي الشبر القيادي في المجلس الأعلى الإسلامي الذي يتزعمه عمار الحكيم وأحد مكونات الائتلاف العراقي الشيعي الموحد، «معارضته لفكرة استقلال الكرد}. وقال الشبر في حديث لـ«لشرق الأوسط}، «الوضع الحالي لا يقتضي بالذهاب نحو التقسيم، وعلى الأكراد احترام وحدة العراق، جميع الموجودين في البرلمان العراقي أقسموا على الحفاظ على وحدة العراق وأرضه، إذن ما فائدة هذا القسم الآن، وهناك من يريد تقسيم العراق وتجزئته}.
وأوضح شبر «صحيح أن هناك إخفاقات في العملية السياسية، لكن هذا لا يعني المضي نحو تقسيم العراق، يجب على الجميع التوجه نحو الحوار لمعالجة المشكلات، والوضع الحالي لا يخدم تقسيم العراق وتأسيس دولة كردية». ودعا شبر الأكراد إلى احترام الدستور، وقال «كلنا من شيعة وسنة وعرب وأكراد صوتنا على هذا الدستور الذي أعطى حق تأسيس الأقاليم الفيدرالية في العراق، نحن كمجلس أعلى، والائتلاف العراقي الموحد مع الفيدرالية وضد التقسيم}.
بينما يرى السياسيون الأكراد أن الوقت قد حان لإعلان دولتهم، فهم يقولون إن الظروف الذاتية والموضوعية تغيرت في المنطقة، وأصبحت الآن ملائمة لإنشاء دولة كردية، مشيرين إلى أن الكرد هيأوا لهذه الدولة خلال الـ22 عاما الماضية. وقال هيمن هورامي مسؤول العلاقات الخارجية للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس الإقليم مسعود بارزاني، لـ{الشرق الأوسط}، إن «الظروف الذاتية والموضوعية تغيرت في كردستان، فمن الناحية الذاتية لم يبق للكرد مشكلة أرض وهناك وحدة داخلية واسعة بين الأطراف الكردية، كردستان استطاعت خلال الـ22 عاما الماضية أن تؤسس مؤسساتها الحكومية بشكل جيد، وأن تضع أساسا اقتصاديا للدولة، ومن الناحية الموضوعية فإننا نرى أن المعادلات تغيرت في الشرق الأوسط، والأنظمة الديكتاتورية آلت إلى الهاوية، وكذلك نرى تغييرا في توازنات القوى بعد ثورات الربيع العربي}.
يقول القيادي الشاب هيمن هورامي «إن إقليم كردستان برهن للعالم وللشرق أنه عامل استقرار في المنطقة}، مؤكدا أن «العالم ينظر إلى الكرد في الشرق الأوسط الآن كعامل جيوستراتيجي في معادلات المنطقة، كما هو متمثل بدور كردستان في المعادلة العراقية وفي العلاقة مع إيران وتركيا ودور كردستان في التطورات على الساحة السورية}.
وتابع هورامي «كذلك دور كردستان في أمن الطاقة ليس للمنطقة فحسب بل لكل العالم، والآن هناك تفهم دولي كبير لفكرة الاستفتاء على تقرير المصير في إقليم كردستان}، مبينا بالقول «إن لم تكن كردستان واقتصادها مهمين للعالم لما استثمرت 53 شركة دولية في نفط الإقليم، ولما تركت شركات كبيرة كإكسوموبيل وشيفرون وتوتال وغازبروم الاستثمار في العراق وجاءت إلى إقليم كردستان لتستثمر في النفط».
ويعاني الإقليم الكردي حاليا من أزمة اقتصادية حادة بدأت منذ بداية العام الحالي، بعد تدهور العلاقات مع الحكومة الاتحادية حول العقود النفطية التي أبرمتها حكومة الإقليم في مجال استخراج وتصدير النفط إلى تركيا، الأمر الذي دفع ببغداد إلى قطع حصة الإقليم من الميزانية الاتحادية وقطع رواتب موظفي الإقليم.
وعلى الرغم من أن الاتفاقية التي وقعتها أربيل مع تركيا في مجال الطاقة من الاتفاقيات الطويلة الأمد حيث تمتد إلى نحو 50 عاما وهي حسبما يقول المسؤولون الأكراد قابلة للتمديد، فإن الإقليم ولحد الآن يعاني من حصار بغداد الاقتصادي الذي شهد تطورا ملحوظا خلال الأيام الماضية، فبغداد التي تمتلك سلطة الطيران المدني في العراقي قررت منع هبوط طائرات الشحن في مطاري الإقليم، الأمر الذي تسبب في نشوء أزمة اقتصادية أخرى ستكون لها تأثيرات على البنى التحتية في كردستان.
بدورها أيدت الأحزاب الكردية كافة، فكرة إجراء استفتاء لتقرير مصير كردستان، مؤكدة أن هذا القرار جاء بعد دراسة طويل بين رئاسة الإقليم والأطراف السياسية الكردية.
وقال عدنان مفتي القيادي البارز في الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه رئيس الجمهورية جلال طالباني في حديث لـ{الشرق الأوسط}} إن «قرار رئيس الإقليم بإجراء الاستفتاء لم يكن وليد ذلك اليوم بل كان هذا الموضوع مدار البحث والمناقشة بين كافة الأطراف الكردستانية ورئيس الإقليم على مدى أشهر}.
وأضاف مفتي أن هذا القرار يأتي بعد تعرض الأكراد إلى إحباطات كثيرة نتيجة فشل الدولة العراقية، واستطرق بالقول «السطور الأخيرة من ديباجة الدستور العراقي الذي صوتنا عليها جميعا تقول إن وحدة العراق مرهونة بالالتزام بهذا الدستور}، وتسأل «أين هذا الالتزام بالدستور الآن، الدولة الاتحادية فشلت في حل المشكلات وتحقيق المصالحة الوطنية وفشلت في تحقيق الديمقراطية}.
مصادر مطلعة على المشهد السياسي في كردستان العراق أبلغت «الشرق الأوسط» أن عدد الدول التي أعلنت تأييدها لفكرة الاستفتاء لاستقلال كردستان فاق الـ20 دولة، من بينها دول عربية وغربية أهمها فرنسا، دون الخوض في التفاصيل.
أما بريطانيا العظمى فموقفها جاء مخالفا للطموحات الكردية في الانفصال من العراق.
وأعلنت لندن على لسان سفيرها في تركيا «رتشارد مور} أن الوقت ليس مناسبا لإعلان دولة كردية، وقال مور في حوار مع موقع «ديلي صباح» التركي، «إن رأي بريطانيا متوافق مع تركيا، وهي أننا نرى أن وحدة الأراضي العراقية مهمة، ونقول في الوقت ذاته إن الوقت غير مناسب لإعلان الكرد الاستقلال عن العراق}.
إسرائيل الصديقة السرية للأكراد طوال العقود الماضية، كانت من أوائل الدول التي أعربت عن تأييدها لتأسيس دولة كردية في العراق، وطالبت حليفتها الولايات المتحدة بدعم إنشاء دولة للكرد في العراق، لكن القيادي في حزب طالباني عدنان مفتي يرى أن الموقف الإسرائيلي كان له تأثير سلبي على مسار التأسيس لدولة كردية. وأشار إلى أن دولة كردستان لا تريد أن تكون مصدرا للحروب والنزاعات في المنطقة، وسيكون لدولة كردستان إثر إيجابي في تحقيق السلام في الشرق الأوسط.
من جانبه أعلن فلاح مصطفى مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في حكومة الإقليم الذي يعد وزيرا للخارجية وقد عاد لتوه من زيارة إلى أميركا، أن هناك تفهما من قبل واشنطن لفكرة الاستفتاء على تقرير المصير في كردستان، وقال لـ{الشرق الأوسط}، «حاولنا كثيرا أن نساعد العراق لكن مع الأسف لم تكن هناك إرادة في الجانب المقابل لقبول الشراكة الحقيقية والعيش معا، لذلك عندما نتحدث عن حق تقرير المصير نتحدث عن ممارسة هذا الحق، لأننا لسنا المسؤولين عن تفكك العراق}.
وكشف مصطفى أن الوفد الكردي الذي زار واشنطن مؤخرا وضح لها أن الأكراد يسيرون بمسارين اثنين، أولهما الاستمرار بالعملية السياسية في بغداد، من أجل أن يكون للكرد وجود فعلي في بغداد، مع إجراء تغييرات جذرية، وبين أن الأكراد لن يقبلوا برجوع العراق إلى ما كان عليه قبل أحداث الموصل.
وأكد، «لا يمكن الحديث عن نظام فيدرالي فارغ، إما أن نتحدث عن الكونفيدرالية أو الاستقلال، والمسار الثاني يتمثل بطلب رئيس الإقليم من برلمان كردستان تشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات في الإقليم لإجراء استفتاء على تقرير المصير للكرد في العراق، فإن اختار لشعب الكردي الاستقلال حينها تكون القيادة السياسية الكردية ملزمة بتطبيق قرار شعب كردستان}.
وتابع مصطفى أن واشنطن لم تعترض على موقفنا هذا وهناك تفهم من قبل الإدارة الأميركية لفكرة الاستفتاء، مؤكدا في الوقت ذاته أن هناك تفهما دوليا كبيرا أيضا للموقف الكردي في الاستفتاء لتقرير المصير.
بدوره يعد المحلل السياسي عبد الغني علي يحيى، توفر دعم من قبل إحدى الدول العظمى في العالم أو دولة جارة، شرطا مهما لتأسيس ونجاح الدولة الكردية في إقليم كردستان.
وأضاف يحيى لـ{الشرق الأوسط} أن «توفر دعم دولة عظمى كالولايات المتحدة أو من ينوب عنها مهم لنجاح الدولة الكردية، وهذا ما نلاحظه الآن في التقدم الإسرائيلي باتجاه دعم استقلال كردستان، فهناك روابط وثيقة بين السياسات الأميركية والإسرائيلية، إذن من المحتمل أن تقوم دولة إسرائيل بتأييد استقلال كردستان نيابة عن أميركا}.
وأضاف يحيى أن الشروط متوفرة لإعلان استقلال كردستان، عادا أن الموقف الإسرائيلي له وقع إيجابي على مسار تأسيس الدولة الكردية، مشددا «الموقف الإسرائيلي لا يشكل مصدر إحراج للقيادة الكردية}.
أما الدكتور هيزا سندي الخبير في الشؤون الإدارية والحكم، فقال في حديث لـ{الشرق الأوسط} حول مقومات الدولة الكردية: «المقومات موضوعية ومصطنعة، هنالك شعب ولغة وأرض، والعالم يعرف هذه الحقيقة، فنتيجة لتقسيمات سايكس بيكو وما قبلها تجزأ هذا الشعب، لكن الآن أضيفت لها جوانب كثيرة، فهنالك اقتصاد وتغيير للخارطة السياسية للشرق الأوسط وهنالك ربيع عربي وقوى عظمى لها مصالح في المنطقة، هذه كلها أسباب وعوامل ستحقق بشكل جديد مقومات الدولة الكردية، وهناك مقومات داخلية وخارجية في إقليم كردستان كي تصبح دولة، والأهم أن حكومة الإقليم تحكم كردستان منذ عام 1991 فهي اكتسبت من خلال هذا الحكم خبرة كبيرة في مجال الحكم والإدارة، وللإقليم اقتصاد كبير قائم بذاته، وكون علاقات دبلوماسية كبيرة وناجحة إقليميا ودوليا».
ولعل أبرز مشكلة ستواجه الدولة الكردية إن أعلن عنها قريبا هي مشكلة عدم وجود عملة خاصة بهذه الدولة، فالعملة هي التي تتحكم بالسياسة النقدية لأي دولة في العالم، ويعتمد إقليم كردستان حاليا على الدينار العراقي كعملة رئيسة في التعامل.
ويقول إدريس رمضان أستاذ الاقتصاد في جامعة صلاح الدين بأربيل، «إن أهم مقوم من مقومات تأسيس الدولة هو المقوم الاقتصادي، فما دام يفكر الإقليم في موضوع الاستفتاء أو تأسيس الدولة عليه أن يعد إعدادا جيدا لهذا الموضوع من المالية النقدية، فعند الإعلان عن هذه الدولة يجب أن تمتلك نقدا خاصا بها لا أن تكون مرتبطة بالعراق}.
وأضاف رمضان «وجود أساس نقدي مستقل للإقليم إضافة إلى أساس مالي مستند على هذا النقد يعد عاملا مهما لانطلاق اقتصاد متطور في هذا البلد يدعم الخطوات السياسية، لذا يجب على الإقليم أن يفكر أولا في هذا الجانب ومن ثم التفكير ف الاقتصاد المستقل والدولة المستقلة}.
وعلى الرغم من أن الأكراد استطاعوا ومنذ عام 1991 وبعد الغزو العراقي لدولة الكويت أن يتمتعوا بشبه الاستقلال عن الدولة العراقية في ثلاث محافظات رئيسة هي (أربيل - السليمانية - دهوك)، وتشكيل برلمان وحكومة الإقليم لكن الكثير من المناطق الكردية الأخرى ظلت تحت سيطرة الحكومة العراقية بما فيها محافظة كركوك الغنية بالنفط.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.