الإعلام والديمقراطية... صراع نفوذ ومصالح خاصة

كتاب فرنسي عن العلاقة الجدلية بينهما

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

الإعلام والديمقراطية... صراع نفوذ ومصالح خاصة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ما الذي يحكم العلاقات الوطيدة بين وسائل الإعلام والديمقراطية، وما الأدوار المتبادلة والمفتقدة بين الاثنين، خصوصاً في عالمنا الذي تتداخل فيه المصالح ومساحات النفوذ والسلطة إلى درجة نفي الآخر أحياناً، أو اعتباره مجرد عتبة، ليكتمل فعل الهيمنة في قبضة طرف واحد.
حول هذا الموضوع شهدت المكتبات الفرنسية مؤخرا صدور كتاب «الديمقراطية ووسائل الإعلام في القرن العشرين» للكاتبة كاترين بيروتو لا فونير (Catherine BertoLavenir) الصادر عن دار النشر الفرنسية «Armand Colin». وتستهله بالتأكيد على الدور الذي تلعبه الصحافة والإذاعة وكذلك التلفزيون في الأزمات التي عاشتها الديمقراطيات الغربية في القرن العشرين، هذا بالإضافة إلى النفوذ والتأثير الكبيرين لوسائل الإعلام لدرجة أنها أضحت تمثل أداة للدعاية من جانب، ووسيلة مهمة وفاعلة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير من جانب آخر.
تطرقت الكاتبة لدور وسائل الإعلام بشكل منفرد، لافتة إلى أنه في ثلاثينات القرن الماضي، جعلت النظم التسلطية من الإذاعة أداة شمولية فاعلة؛ إذ منحت الرئيس روزفلت فرصة ذهبية بالتوجه المباشر للأمة، وكان للتلفزيون أيضا دور فاعل ومؤثر للغاية حيث خدم؛ ليس فقط السلطة الشخصية، ولكنه ساند أيضا قرارات القادة مثلما حدث خلال حرب الخليج عام 1991، حين تناول جميع التلفزيونات المختلفة الصور الخاصة بالحرب الخليجية التي ينقلها فقط العسكريون الأميركيون، وهى الصور التي ساعدت في إلقاء الضوء على جوانب محددة دون غيرها للحرب، الأمر الذي ساهم ليس فقد في توجيه الرأي العام، ولكن أيضا في صياغة صورة ذهنية محددة لمجريات وأهداف وكذلك نتائج الحرب الخليجية.
وترى الكاتبة أن هذا النهج في الواقع لا يتسق تماما مع أسس ومبادئ الديمقراطية التي تقضي قواعدها بحرية الفرد في الحصول على المعلومات الحقيقية المجردة البعيدة عن أي مؤثرات وتوجيهات خارجية. وبالتالي، فنحن أمام تصرف يهدد طبيعة العملية الديمقراطية.
وفى سياق متصل، تشير المؤلفة إلى دور التلفزيون والصحافة الأميركيتين في إضعاف إطار العمل الرئاسي، وهو ما اتضح جليا خلال حرب فيتنام، وقضية «ووترغيت» حيث نجحت السلطة الرابعة في استغلال هذه القضية في إقالة الرئيس نيكسون، وكذلك إضعاف سلطة الجنرال شارل ديغول في فرنسا، أي إنها دفعت نحو إسقاط رئيس منتخب. فضلا عن ذلك، فخلال سقوط سور برلين وكذلك حرب الخليج وأيضا حرب كوسوفو، ساهمت الصورة التي تم تداولها في توجيه الرأي العام الدولي تجاه نقاط محددة دون غيرها.
يقع الكتاب في 288 صفحة من القطع الكبير، وعبر صفحاته تشير الكاتبة إلى حقيقة مفادها أن وسائل الإعلام خضعت خلال القرن العشرين لتقلبات مختلفة، كما خضعت كذلك لظروف سياسية متنوعة، أي إنه تم تسييس وسائل الإعلام إلى حد كبير خلال القرن العشرين.
وفى الواقع، لا يكتسب الكتاب أهمية خاصة لأهمية وحساسية الموضوع الذي يتناوله فحسب، وإنما أيضا لأن مؤلفته لها باع طويل في هذا الملف، ولها مؤلفات كثيرة حول العلاقة بين وسائل الإعلام وتوجيه الرأي العام... هذا بالإضافة إلى أنها تدرس التاريخ المعاصر بجامعة السوربون الجديدة (باريس 3).

شبكات التواصل الاجتماعي والديمقراطية
وحول دور شبكات التواصل في هذا الموضوع، تقول الكاتبة: «مع انتشار مساحة ودور شبكات التواصل الاجتماعي أضحى من السهل بث وتداول معلومات كاذبة سريعا كماً وكيفاً، وهو أمر خطير يهدد العملية الديمقراطية ويحيطها بالخطر البالغ، حيث تساعد شبكات التواصل الاجتماعي على سرعة دوران ونشر المعلومات الكاذبة، وهو ما يتناقض تماما مع أسس الديمقراطية، بل يعرضها للخطر». وتتابع: «ليس أدل على ذلك من (التويتات) التي نشرها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وما ساقه من معلومات خلالها اختلف عليها البعض في ما يتعلق بمدى مصداقيتها، الأمر الذي أصاب الرأي العام الأميركي بحالة من الدوار والتخبط نظرا لضياع مصداقية المعلومات التي ساقها الرئيس الأميركي وأدت إلى وجود حالة من الارتباك الشديد جراء التناقض الكبير بين موقف ترامب من جانب ومعارضيه من جانب آخر».
وتسوق كاترين بيروتو لا فونير موقفا آخر مماثلا؛ حيث تداولت شبكات التواصل الاجتماعي، خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، صورة مزيفة لشهادة ميلاد باراك أوباما للتشكيك في أصوله وانتماءاته الأمر الذي أحدث ارتباكا كبيرا لدى الرأي العام الأميركي.
وهنا تشدد على ازدهار سوق وبورصة الأخبار المزيفة بين الحين والآخر؛ حيث يعمل مطلِق الشائعة لحسابه ولمصالحه الخاصة، أو لأهداف متباينة قد تكون ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو ذات طابع شخصي.
وترى الكاتبة أنه في ضوء التطور التكنولوجي وما رافقه من تطور وتنوع في شبكات التواصل الاجتماعي التي تتمتع الآن بسرعة فائقة في نشر وتداول المعلومات الكاذبة، يمكن التأكيد على أن هذه السرعة في تداول ونشر المعلومات الكاذبة، من شأنها أن تؤثر في توجيه الفكر البشري من جانب، وتعرض العملية الديمقراطية للخطر بل للعدم من جانب آخر، خصوصاً أن تكنولوجيا المعلومات لا تتمتع بأي آلية صارمة، ومن ثم لا تمارس أي سيطرة على نشر وتداول الآراء المجتزأة والمنقوصة. وبالتالي فإن الإعلام يخضع لضغوط مصالح من خلال برامج محددة تعمل على توجيه الرأي العام لصياغة صورة ذهنية محددة لقضية بعينها، و«لذلك يجب أن نعترف بأن التمثيل الديمقراطي يتطلب تمثيلا إعلاميا مساويا له نظرا لأهمية وخطورة الإعلام في جميع مناحي المجتمع، خصوصا السياسية والاجتماعية، وخصوصا من خلال ما تسمى (استطلاعات الرأي) التي تبثها وسائل الإعلام والتي تجعل من الصحافي (ملكا متوجا) نظرا لخطورة المادة وحساسية الموضوع الذي يتناوله».
وتخلص الكاتبة إلى أن وسائل الإعلام الحرة نتاج وثمرة العملية الديمقراطية، لأن وجود المناخ الديمقراطي من شأنه أن يضمن وجود وسائل إعلام مستقلة تعزز حرية التعبير وتثري العقل البشري، وهذا من شأنه أن يعلي من قيمة وممارسة حقوق الإنسان.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم