كأن كل شيء كان يتعلق ب“الكريشيندو“ أو التصاعد المتدرج لكل هجمة يقودها حمادي العقربي على ملعب مديمنة روزاريو الأرجنتينية ، وكأنه حاول نقل الحمى التي عرفها بفوزه بالبطولة التونسية في ربيع نفس العام ١٩٧٨ برفقة الصفافسي ، كريشيندو الجموح ،والتمرد الذي قاده من منتصف ملعبه إلى منتصف ملعب الفريق البولندي في أقل من ثلاث ثواني.
في كل مرة يمسك فيها العقربي الكرة يمكن فيها الاستماع إلى الطموح الخاص بالفرق التي يغزوها الطموح ، إلى اللاعبين الذي يشعرون بالضجر من وضعهم في قوالب محفوظة ، وملعب روزاريزو ربما كان المسرح المثالي لمثل تلك النزوات ، وكأن العقربي يقوم بصنع بطاقة تحية لبطل المدينة الأوحد وقتها توماس كارلوفيتش ، نجم الشباك في رزواريو ، رغم أنه يقبع معظم أوقات العام في غياهب القسم الثاني ، نفس الجموح ، الانطلاق ، الحرية ، وربما التدمير الذاتي أيضاً ، إنه الكريشيندو الذي يمكن سماعه عندما يقرر الصغار قلب الطاولة على التوقعات والحسابات.
العقربي كان يعلم أن فريقه متأخر بهدف ، وبحاجة إلى التسجيل سريعاً حتى ينعش حظوظ المنتخب الأفريقي الصغير إلى الدور الثاني من كأس العالم ، أمام ثالث العالم في النسخة السابقة ، وواحد من أفضل المنتخبات على الصعيد البدني في حقبة السبعينات ، ”ساحر الجيلين“ القادم من أعمق ”حومات“ صفاقس انطلق كما فعلها ١٠ مرات أمام المكسيك في المباراة الأولى في المجموعة ، ممرراً الكرة بلا تفكير إلى محمد عقيد ، ثم مستقبلاً اللعبة مجدداً لينطلق إلى الثلث الأخير من الملعب البولندي ، وفي لمحة مماثلة يرى تميم الحزامي خالياً من الرقابة ، ليصبح الأخير في مواجهة الحارس البهلوان يان توماشفسكي ، الأمر لا يستغرق سوى ثانية واحدة ليقرر القائد التونسي التسديد مباشرة ، لتسقط الكرة على خط المرمى تماماً دون ان تعبره كرد فعل على ارتطامها بالعارضة البولندية اولاً ، قبل أن تعود إلى الملعب مجدداً في إعلان عن كونها مجرد فرصة ضائعة، صمت تونسي داخلي من فعل الصدمة ، يضاهي صخب خيبة الأمل وقضم أصابع الندم التي ترددت بين مسامع أغلب من تواجدوا في ملعب خيجانتي دي أروييتو في روزاريو.
كل شيء مر على منتخب تونس في نهاية السبعينات سريعاً ، تماماً كانطلاقات العقربي ، كحمى المد القومي في مرحلة بناء وطن ما بعد الاستقلال خلال الستينات ، نسيان مؤقت لتعصب الأندية القبلي، نشوة استمرت كزمن أغنية ”حمى ليلة السبت“ للبي جييز، التي رقص عليها لاعبو ومشجعو المنتخب عقب التأهل في ديسمبر من العام السابق، ربما كانت الرقصة حالمة، ولكن الأبطال كانوا أشبه بشخصيات فيلم لسام باكينباه، ”منتخب الأرجنتين ٧٨ ”كما أصبح لقبه في الثقافة الشعبية التونسية كان ينتمي أكثر كأفراد مجموعات ”ملائكة الجحيم“بلا ألوان رمادية ، دوماً على الحافة ، تماماً كتسديدة تميم الحزامي على المرمى البولندي ، حيث الفارق بين المجد والإقصاء بوصات معدودات.
لا شيء يبدو تقليديا مع تلك ”العصبة“ ، بداية من قائد في نهاية الثلاثينات من عمره ، شاب ينسى تهذيب لحيته لأنه محموم بكثير من المشاغل ، ليبدو وكأنه أحد أعضاء فرق روك من كاليفورنيا ، واحد من الأبطال المحليين خلال الستينات ، وأحد أكثر محبطيها من اخفاقات المنتخب كلاعب ، أحد أكثر نماذج المدرب الوطني العربي راديكالية في قارة تسبح بين مفركات ودولارات المدربين اليوغسلاف والفرنسيين ، عبد المجيد شتالي كان الثورة التي ينتظرها المدرب الوطني الأفريقي منذ سنوات الاستقلال الأولى ، التدريبات البدنية المبتكرة ، مزج كرة السلة وكرة اليد مع التدريبات التكتيكية ، صنع تشكيلة لاعبين على درجة كبيرة من العمق الفني ، إلى الحد الذي كان معه نجم الفريق على الكعبي هو الاختيار الرابع في مركز الظهير الأيسر قبل انطلاق التصفيات ، فيما كان الحارس البديل مختار النايلي اختياراً أساسياً تلقائياً من جانب الشتالي ، في قراره المفاجيء بجلوس الصادق عتوقة الحارس التاريخي للكرة التونسية على مقاعد البدلاء خلال المونديال.
وكأن الشتالي قرر بشكل لا إرادي أن يكون ذلك الفريق نصفه كرة قدم ونصفه الآخر من الأساطير ، وهو الذي كان يعامل في بلدته سوسة لاعباً في النجم الساحلي كأسطورة يتداول حولها أهل البلد نسج القصص التي لا تنتهي ، أساطير مغامرات عتوقة وتقلباته المزاجية ، في مقابل هدوء طفل معجزة باسم طارق ذياب ، أو نبوغ محمد عقيد (الذي اكتملت أسطورته بالوفاة في العام التالي للمونديال عن طريق صاعقة يوم مطير برفقة ناديه النصر السعودي) . أسطورة اكتفاء الشتالي بوضع علم تونس في منتصف غرفة خلع ملابس فريقه في استراحة ما بين الشوطين بأول مباراة بالمونديال أمام المكسيك ، متجنباً إظهار غضبه من تاخر الفريق بهدف ، أو سرد محاضرة فنية معقدة ، ليعلنها صريحة وفي جملة قصيرة ”أنا بانتظاركم بعد الشوط الثاني“.
لتنتهي المباراة بفوز تونسي ٣- ١ ، في اأول انتصار أفريقي أو عربي خلال ما يقرب من خمسين عاماً في تاريخ البطولة الكروية الأهم. منتخب يليق بحالة التمرد التي عاشتها كرة القدم العالمية في السبعينات ، حالة تمرد منقولة على الهواء مباشرة وبالألوان الطبيعية ، تليق بسبعينات يوهان كرويف ، وجورج بيست ، وفريق لاتسيو الإيطالي ، وكل لون جامح لبسه نجم فيرونا جيان فرانكو تسيجوني ، متمرد المرحلة بالكرة الإيطالية.
كل شيء كان على الحافة بالنسبة ل“عصبة شتالي“ ، حافة تليق براديكالية المدرب الجامح في اختيار لاعبين من ثمانية أندية محلية مختلفة ، أو راديكالية مشوار التوانسة أنفسهم خلال مشوار التأهل ، بالتفوق بركلات االترجيح على المغاربة أبطال أفريقيا ، أو الجار الجزائري في فجر جيله الذهبي ، أو المنتخب الغيني الذي يحوي نصفه لاعبي فريق هافيا كونكاري غول أندية القارة في منتصف السبعينات ، قبل أن تكتمل الرحلة المجنونة بدور نهائي شرس مع نيجيريا بطل القارة المستقبلي ، عرف الفوز في العاصمة لاجوس نفسها ، قبل مواجهة مزدوجة أسطورية مع المنتخب المصري ، مرتين خلال أسبوعين ، عرفا زلزالا في المنطقة يعرف زيارة السادات إلى القدس ، إنها الحافة التي عرف فيها التوانسة الخسارة في القاهرة، قبل الفوز بالأربعة في ملعب المنزه في واحدة من نقاط التحول التي عرفتها الكرة العربية.
ردايكالية عبد الجيد الشتالي حملت ثاني أصغر فريق في مونديال الأرجنتين (بمتوسط اعمار يبلغ ٢٥ عاماً) إلى حافة المجد ، ”ملائكة جحيم“ قادمة من النجم والملعب وأولمبيك النقل ، والترجي ، والأفريقي ، وشبيبة القيروان ، ومستقبل المرسى والنادي الرياضي البنرتي والصفاسي ، نتاج واحدة من اخصب فترات الكرة المحلية التونسية (في وضع أكثر تنافسية وعملية من حالة مشابهة مثل نفس الجيل في الكرة المصرية) ، الشتالي صنع من ٤ - ٤- ٢ أول تنويعاتها الهجومية المنطلقة في الكرة العربية ، ولا يمكن العثور على من هو أكثر جموحاً من ظهيري الجنب الكعبي ومختار ذويب (صاحب الهدف الثالث أمام المكسيك) ، محسن العبادي وعمر الجبالي كقلبي دفاع. لاعبا ارتكاز من أكثر أنواعهم ديناميكية كما هو الحال مع العقربي ونجيب غميض ، ومعهما بطاريتان للإبداع في منتصف الملعب مع تميم الحازمي وطارق ذياب ، وفي الهجوم كان الثنائي بالغ الخطورة عقيد وعبد الرؤوف بن عزيزة (ويمكن سؤال المدافع المصري مصطفى يونس بشكل خاص عن خطورتهما).
كل شيء مر على منتخب تونس والشتالي سريعاً ، تماماً كما هو التحول بين خمول الشوط الأول أمام المكسيك أو بولندا إلى الجموح في الشوط الثاني من المبارتين. وكأن تونس ١٩٧٨ أرادت أن تصبح ”بوصلة" لكل فريق عربي او أفريقي مستقبلاً . بوصلة لكل ما يمكن فعله اللاعبون أمام أسماء مثل هوجو سانشيز أو كويار أو لاتو او بونييك او رومينيجيه أو بونهوف أو سيب ماير ، عن ما يمكن أن يحققه تجنب التحفظ الدفاعي المجاني ، أو التنويع بين الرقابة الفردية وبين دفاع المنطقة ، عن ما يمكن أن يحدثه غياب التركيز ولو للحظة من ألم (تماماً مثلما حدث مع هفوة الكعبي أمام بولندا) ، إن الجموح ليس ضرباً من التهور ، ولعل ما فعله العقربي خلال الشوط الثاني أمام البولنديين بإضاعة ما يقرب من ثلاث فرص مهمة للتسجيل ، نفس ما فعله برفقة غميض في مباراة ألمانيا التالية ، والتي أنقذ معها سيب ماير فرصتين كانتا كفيلتين بزلزلة البطولة مع إزاحة حاملي اللقب ، في ما يشبه بالبروفة لما فعله الجزائريون بالألمان أيضاً في إسبانيا ٨٢ .
”عصبة شتالي“ كأي مجموعة راديكالية كان عليها التوهج سريعاً والخفوت مبكراً ،كان عليها دفع ثمن الغضب في كأس الأمم ١٩٧٨ بالحرمان أفريقياً من المشاركة لعامين ، أمتدت إلى أربع سنوات أقتنصت أفضل سنوات الجيل الذهبي ، الاستفاقة استغرقت ١٠ سنوات كاملة مع جيل نبيل معلول مع أولمبياد سول ١٩٨٨، وهي نفس الفترة التي استغرقها شتالي نفسه حتى يعود للتدريب مجدداً بعد أن فضل الانزواء عن تعقيدات الكرة التونسية بمتاهاتها المحلية ، لم يتبق منها بالنسبة للبعض سوى بطاقات النوستالجيا لسبعينات تونسية كانت فيها الكرة بمثابة ”نخب الفقراء“ كما قال عنها الشتالي في أول حوار له عقب التأهل ، إلا أن بطاقات التمرد على لعب دور الضحية الذي تم حجزه للصغار لنصف قرن كامل ، بطاقات الشجاعة لمجموعة كسرت خوفها الداخلي ، قبل أن تزرعه في قلوب المنافسين ، تماماً مثلما ساعد عمر الجبالي زميله طارق ذياب على ارتداء واقي الساق ، وسط ارتعاش الأخير من توتر المشوار التونسي الطويل في التصفيات ، تماماً مثلما تحمل شخصيات أفلام سام باكنباه بعضها البعض في المعركة الأخيرة كثمن إجباري للوصل إلى المجد ، حتى لم لو تكتمل مهمتهم الأصلية بالنجاح الكامل.
————————————————————————————
”لم يطلب الشتالي من الفريق أن يلعب بحذر أو بتحفظ أو بطريقة خاصة استثنائية ، لقد طلب اللعب بطريقتنا المعتادة ، طلب اللعب أمام ألمانيا وبولندا مثلما لعبنا أمام مصر أو غينيا“.
*طارق ذياب متحدثاً عن الفلسفة التي كان يفضلها مدربه عبد المجيد الشتالي قبل خوض غمار مباريات المجموعة الثانية بكأس العالم ١٩٧٨