تأملات سركون بولص في الشعر والحياة

«دار الجمل» تجمع أوراقه منذ ستينات القرن الماضي

سركون بولص
سركون بولص
TT

تأملات سركون بولص في الشعر والحياة

سركون بولص
سركون بولص

يضم كتاب «الهاجس الأقوى عن الشعر والحياة» للشاعر الراحل سركون بولص، المطبوع حديثاً عن «منشورات الجمل»، مقالات وقصاصات وترجمات متنوعة للشاعر الذي رحل مبكراً قبل أن يلملم شتات الكثير من أوراقه ونصوصه التي تركها وراءه. وحسناً فعل خالد المعالي، صاحب الدار وصديق سركون، الذي أخذ على عاتقه فيما يبدو نشر نتاج هذا الشاعر والمترجم والمثقف الذي كانت له نبرة مختلفة وبصمة واضحة في المشهد الشعري الحديث في كل أرجاء الوطن العربي.
وبغض النظر حول الجدل الذي أثير مؤخراً حول إقدام المعالي على نشر قصائد مبكرة لسركون الذي أغفل نشرها في حياته، وما إذا كان يحق له فعل ذلك أدبياً وأخلاقياً ومهنياً، إلا أن المعالي، والحق يقال، يقدم خدمة جليلة للأدب العربي والثقافة العربية إجمالاً بنشر نتاج هذا الشاعر والمترجم المهم.
يضم «الهاجس الأقوى» قرابة 30 مادة ما بين مقالة وتعليق ومقدمة لنصوص مترجمة، فضلاً عن المقالات المترجمة التي تتوزع في ثنايا الكتاب. أما بخصوص المدى الزمني لمحتويات الكتاب فيمتد من نهايات ستينات القرن العشرين وصولاً إلى مرحلة متأخرة من حياة الشاعر.
ولعل أهم مقالات الكتاب هي تلك التي تعرّض فيها كاتبها لجانب من تجربته الشعرية وفهمه للشعر، وعلاقته بشعراء جيل الستينات في العراق، كمقالة «عن الشعر والذاكرة» و«ملاحظات على الشعر والتحولات الثلاثة» التي يقدّم فيها تأملات عميقة حول الشعر وطبيعته ومهمته المركزية التي تتمثل، كما يرى، في تقديم الأدلة التي تذكرنا بما يصدم ويوقظ بين آلاف الوقائع والتجارب التي هي خليقة بالنسيان.
وفي «شذرات غير منشورة عن الشعر والحياة»، يتحدث سركون عما يسميه «صك المقبولية» الذي يسعى بعض الشعراء لنيله من الصحافة أو الجماهير، أو حتى النقاد، فهو لا يعقد اتفاقات مع أحد، كما يقول عن نفسه، حيث إن كل ما يريده هو أن يشاركه القارئ، إذا أراد أو استطاع، في محاولته لفهم قيمة إنسانية أو عاطفية معينة، تعبر عنها القصيدة، ليصلا معاً إلى نقطة لقاء، وانفتاح عابر بين كائنين.
ويشن سركون في تأملاته تلك هجوماً ضارياً على الآيديولوجيا وحضورها في الكتابة، فهي في الشعر، حسب تعبيره، عصاب فكري وليست من صلب الرؤية الشعرية، ويشبهها بالعصابة الجلدية التي تربط بها عينا الحصان فلا يرى غير الطريق التي تمتد أمامه.
ورغم أن الهم الشعري طاغ على صفحات الكتاب، كما يوحي عنوانه وكما هو متوقع من شاعر نذر عمره للشعر، إلا أن هناك مساحة لأشكال أخرى من الكتابة مثل الرواية، إذ يحضر روائيون مثل بول أوستر وتوماس مان وجويس كارول أوتز بمقالات مكتوبة أو مترجمة عنهم، فضلاً عن بعض المقالات التي انشغلت بهموم ثقافية أو فكرية عامة، كالمقالة التي كتبها سركون عمن يسميه «الكاهن الأعلى للغابة الإلكترونية»، ماك لوهان، الذي كان يقدم نفسه بوصفه خبيراً بفن الاتصال، ويصر رغم ذلك على القول إن «النثر الواضح يدل على غياب الفكر»، في تناقض صارخ مع ما هو مألوف وقار لدى أبرز المفكرين والكتاب، بل حتى أعلام الفلسفة.
هناك في هذا الجانب أيضاً مقالة مهمة نشرت في ملحق النهار عام 1968، وحملت عنوان «من مكر المستشرقين والاستعمار الذي استغله»، عرض فيها سركون لكتاب صدر حينها للباحث والمؤرخ الفرنسي إيف لاكوست عن ابن خلدون، حيث تناول الباحث الفرنسي طبيعة تلقي الفكر الغربي إجمالاً لفكر ابن خلدون. ومن اللافت للنظر في هذه المقالة فكرة تبرير الاستعمار وجعله يظهر بمظهر الضرورة، وهي فكرة ناجمة عن كتابات المؤرخين الاستعماريين الذين مهدت كتاباتهم وبررت للمستعمِر إقدامه على قهر وإخضاع المستعمَر، الأمر الذي يذكرنا بأطروحة المفكر الراحل إدوارد سعيد عن الاستشراق.
*كاتب وشاعر سعودي



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».