بيوت المقلب الآخر من الأعمار

العودة إلى أماكن أخليناها قبل سنين تبقى غالباً ناقصة

غاستون باشلار  -  صورة متخيلة لأبي تمام  -  ميلان كونديرا
غاستون باشلار - صورة متخيلة لأبي تمام - ميلان كونديرا
TT

بيوت المقلب الآخر من الأعمار

غاستون باشلار  -  صورة متخيلة لأبي تمام  -  ميلان كونديرا
غاستون باشلار - صورة متخيلة لأبي تمام - ميلان كونديرا

لا يحتاج البشر إلى العلم وحده لكي يتأكدوا من كروية الأرض أو من عودتهم دائماً إلى النقطة التي ينطلقون منها، بل هم يكتشفون تلك الحقيقة بالملموس عند المقلب الآخر من حيواتهم المتسارعة. وما يبدو في النصف الأول من العمر، أو في ثلثيه الأولين، انسلاخاً عن المهد وتوقاً شديد الإلحاح إلى تنكب المجهول، يصبح فيما بعد نكوصاً إلى الوراء وحنيناً جارفاً لاستعادة المكان الأول الذي خسروه. فكما يؤكد المكان كروية الأرض يؤكد الزمان من جهته كروية العيش فوقها. والمكان الأول يبدو لشدة وضوحه أو التصاقنا به عادياً وباعثاً على الضجر والتململ، بحيث ننشد فراديسنا الموعودة في الأماكن البعيدة وغير الموطوءة. لكن ذلك المكان سرعان ما يتحول إلى فردوس مفقود، حتى قبل أن نصل إلى ضالتنا المنشودة. ولعل ذلك الجدل الدائم والحافل بالمفارقات بين الطرفين هو ما أمدّ الشعر بأعتى الصور والأخيلة وألصقها بالعواطف الجياشة. فالأماكن والبيوت التي يتم إخلاؤها تتحول عند الشريف الرضي إلى مرتع للحسرات، وإلى طلل مكاني نسعى إلى استعادته بالحنين والتلفت القلبي «وتلفّتت عيني فمذ خفيتْ عني الطلول تلفَّت القلبُ». وهي نفسها تُبلور عند ابن الرومي فكرة الوطن ومفهومه «وحبب أوطان الرجال إليهمُ مآرب قضّاها الشباب هنالكا». أما غاستون باشلار فيرى من جهته أن المكان الأول يحتوي في بيوته ومقصوراته المغلقة على الزمن مكثفاً. ويضيف على طريقته الخاصة في المزج الحاذق بين الفلسفة والشعر «حين نحلم بالبيت الذي وُلدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء الأقصى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، وفي ذلك النسغ الهلامي لفراديسنا المادية».
ومع ذلك فإن العودة إلى الأماكن التي أخليناها قبل عشرات السنين هي في معظم حالاتها عودة ناقصة ومثلومة بهواء الغياب. ذلك أن اعتيادنا على الإيقاع السريع للمدن والعواصم التي قضينا بين ظهرانيها وفي كنف ضوضائها القسم الأكبر من حيواتنا المنصرمة، يجعلنا غير قادرين على التكيف الطبيعي مع «بلادة» الزمن الريفي ورخاوته، ودورانه حول ذاته بوتيرة واحدة. كما أن كل شيء حولنا يُشعرنا من جهة أخرى بأننا غرباء تماماً عن ذلك العالم الذي أخليناه للآخرين. كل شيء في ذلك العالم تدبر من دوننا شؤونه وأحواله وطرق عيشه. والناس بمن فيهم الأهل والأقربون رتّبوا في ضوء غيابنا علاقاتهم وعاداتهم ومصائرهم المتباينة. والشجر لم يعد ينتظرنا ليثمر، ولا الورد كي يتفتح، ولا الريح كي تهب. وقد يكون أبو تمام قد قصد هذا النوع من الغربة حين كتب ذات عودة مشابهة «لا أنت أنت ولا الديار ديارُ». وبعده بقرون عديدة عبّر ميلان كونديرا في روايته «الجهل» عن مأساة المهاجرين التشيك الذين غادروا إلى فرنسا وإيطاليا ودول أوروبا الغربية هرباً من النظام الشمولي، ولكنهم حين عادوا كهولاً إلى وطنهم الأم لم يستطيعوا البقاء طويلاً، حيث لم يتعرف إليهم أحد، ولم يجدوا مواطئ لأرواحهم وأقدامهم على الأرض التي نسيتهم تماماً. وهذه الفجوة الاجتماعية والوجدانية المتولدة عن «جهلهم» المطبق بدورة الزمن الأول، ما لبثت أن دفعت كثرتهم الكاثرة إلى الانكفاء ثانية باتجاه المهاجر البديلة.
على أن صورة الأماكن والأرياف التي غادرناها في مطالع الصبا لنعود إليها كهولاً ومسنين لا تملك بعداً واحداً، بل تنفتح على مفارقات متغايرة الدلالات. فالأماكن تلك تقع على الحدود الفاصلة بين الطمأنينة والقلق، وبين السعادة والشقاء. صحيح أننا من بعض الجوانب لا نكاد نتعرف في كنفها على ذواتنا القديمة، لكن الصحيح أيضاً أن بيوت المقلب الآخر من الأعمار تبدو شبيهة بمحطات أخيرة لضغضغة حلوى الزمن وفتاته المتبقي. ولعل بعض علماء النفس والاجتماع الذين ذهبوا إلى القول بأن السعادة الحقيقية تبدأ بعد الستين أو السبعين ليسوا مخطئين تماماً، باعتبار أن سقف الآمال والتطلعات في هذا العمر يصبح منخفضاً إلى حد بعيد، بما يقلص المسافة بين المتاح والمحلوم به، أو بين المتخيل والمتحقق. فالسعادة هنا ليست ناجمة عن كسب الرهان في اللعب مع الأعاصير، بل في التلذذ بالنسيم الخفيف الذي يهب على الحياة الكسلى. وهي ليست متأتية من جموح الدم واندفاعاته الضارية، بل من متعة الخدر الجسدي وسريان الدماء البطيء في العروق. والناس في ما تسمى حقبة العمر الثالثة يتحولون إلى عمال مياومين عند الحياة، ويحوّلون بيوتهم الجديدة إلى أماكن لتصريف الأعمار وتزجية «فائض» الوقت عبر مشاهدة التلفاز أو القراءة أو لعب الورق أو التنزه في الحدائق ورعاية ورودها ونباتاتها. وإذا كنا نأخذ وقتاً طويلاً في بناء تلك البيوت فربما يعود السبب، عن قصد أو غير قصد، إلى رغبتنا في تشتيت انتباهنا عن فكرة الموت أو في إقناعه بأن يعطينا الوقت الذي نحتاج إليه للانتهاء من تشييدها. ولأن الشيخوخة هي بمثابة طفولة ثانية، على ما يرى البعض، فنحن نحاول أن نوفر لأنفسنا المسرح ذاته الذي وفّرته لنا أزمنة الطفولة الغابرة، فنجعل من حدائق بيوتنا صوراً أخرى عن فراديس الطفولة التي خسرناها، ونستعيد ما أمكننا فضاء الماضي وأشجاره وأراجيحه المشرعة على النعاس.
ليس صدفة إذن أن يعمد الكثير من الذين غادروا مساقط رؤوسهم في سنوات الطفولة والصبا، وبينهم بالطبع كتاب ومبدعون، إلى الانكفاء ثانيةً نحو القرى والبلدات التي حسبوا ذات يوم أنهم غادروها إلى غير رجعة. وهم لا يفعلون ذلك إلا لكي يستعيدوا الظهير الأكثر صلابة لأقدامهم ومواطئ أرواحهم ومخيلاتهم الفائرة، ويتلمسوا بالحواس المجردة جغرافيا البدايات التي كان لا بد لهم من مغادرتها لكي يُكسبها الفقدان طابعها الأسطوري. ورغم إدراك العائدين، مسنين وكهولاً، أن البيوت التي تأخروا في بنائها لن تظللهم سقوفها إلى زمن طويل، فهم يشيّدونها بحماس ونشوة بالغين لأنهم يطلون من خلالها على ما كانوه من جهة، وعلى ما سيؤولون إليه من جهة أخرى. كأن بيوت الكهولة هي بمثابة تمرين يومي على فكرة الموت، أو هي شكلٌ من أشكال المقابر العلوية التي لا يفصلها عن مثيلاتها السفلية سوى أمتار قليلة من التراب. وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن يختار البعض بأنفسهم الأماكن التي يودون أن يُدفنوا تحتها. وهم حين ينتقونها ظليلة ومغطاة بالأشجار عند أطراف حدائقهم المنزلية، فلكي يخففوا من وحشة الرحيل ووطأة العدم، ولكي يتصلوا بنسغ النبات الحي الذي يمكّنهم بشكل أو بآخر من العودة إلى ضوء الشمس.



مصر: إعلان جوائز الدولة لرموز الفكر والإبداع محلياً وعربياً    

أعضاء المجلس الأعلى للثقافة في اجتماعهم لإقرار الجوائز (وزارة الثقافة المصرية)
أعضاء المجلس الأعلى للثقافة في اجتماعهم لإقرار الجوائز (وزارة الثقافة المصرية)
TT

مصر: إعلان جوائز الدولة لرموز الفكر والإبداع محلياً وعربياً    

أعضاء المجلس الأعلى للثقافة في اجتماعهم لإقرار الجوائز (وزارة الثقافة المصرية)
أعضاء المجلس الأعلى للثقافة في اجتماعهم لإقرار الجوائز (وزارة الثقافة المصرية)

أعلنت وزارة الثقافة المصرية، الثلاثاء، أسماء الفائزين بجوائز الدولة «النيل والتقديرية والتفوق والتشجيعية» التي تُمنح للمبدعين في مجالات الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، بحضور وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة الدكتور هشام عزمي، وأغلبية أعضاء المجلس الذي يضم كبار المثقفين والمبدعين وأساتذة الجامعات، الذين قاموا بالتصويت الإلكتروني لاختيار الفائزين من القائمة القصيرة التي أُعلنت الأسبوع الماضي.

وهنأت وزيرة الثقافة في كلمتها الفائزين بجوائز الدولة، مؤكدةً أن إنجازاتهم تعد مصدر إلهام للأجيال القادمة وحافزاً لهم على بذل مزيد من الجهد.

د.نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة المصرية خلال إعلان جوائز الدولة (وزارة الثقافة)

وفاز بجائزة النيل الكبرى للفنون المخرج محمد فاضل صاحب المشوار الطويل في الدراما التلفزيونية، ومن أبرز أعماله «الراية البيضا، ما زال النيل يجري، عصفور النار، رحلة أبو العلا البشري، أحلام الفتى الطائر»، وقال المخرج الكبير في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن الجائزة تستدعي النظر إلى رحلته التي انطوت على الاجتهاد والإحساس بمسؤولية العمل الفني تجاه المجتمع، مؤكداً أن «الفن لابد أن يحقق تغييراً في حياة الناس وفي أفكارهم». وقال إن «الدراما التلفزيونية تدخل البيوت دون استئذان، لذا لا بد لمن يتصدى لها أن يعي خطورة دورها».

المخرج محمد فاضل الفائز بـ«جائزة النيل في الفنون» (صفحته على «فيسبوك»)

فيما فاز بجائزة النيل في الآداب الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة، وحصل عليها في مجال العلوم الاجتماعية الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق.

وحاز الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة جائزة النيل للمبدعين العرب، كشاعر وأديب ومؤرخ قدم مؤلفات عديدة للثقافة العربية وسعى لإعادة الروح بقوة للشعر والأدب العربي.

كما أعلنت جوائز الدولة التقديرية لكبار المبدعين وفاز بها في مجال الفنون مدير التصوير سعيد شيمي، وفنان الديكور أنسي أبو سيف، والدكتور رضا بدر، بينما حصل عليها في الآداب الناقد الدكتور حسين حمودة، والدكتورة غراء مهنا، والدكتور سامي سليمان، وفي مجال العلوم الاجتماعية فاز بها الدكتور أحمد مجدي حجازي، والدكتور ممدوح الدماطي، والدكتور حسن عماد مكاوي، والدكتور ماجد عثمان.

وحاز جوائز التفوق في الفنون الدكتور وليد سيف، الناقد السينمائي وأستاذ النقد بأكاديمية الفنون، الذي قال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن فوزه بالجائزة «بمثابة عودة الروح»، كاشفاً أنه كان يمر بحالة من الملل والتقاعس والضيق، لافتاً إلى إصداره أحدث كتبه «رواد الواقعية في السينما المصرية» قبل يومين.

وفي مجال الآداب، فاز الكاتب عبد الرحيم كمال مؤلف مسلسل «الحشاشين». وفي تصريحات لـ«الشرق الأوسط» قال الكاتب إنه ممتن للدولة المصرية التي منحته الجائزة، كما عبر عن سعادته البالغة بحصوله عليها في الآداب، مؤكداً أنها تأتي بعد مشوار طويل قطعه في الكتابة الأدبية تجاوز ربع قرن أصدر خلاله 11 كتاباً و4 روايات، و8 مجموعات قصصية، إلى جانب عدد من المسرحيات.

الكاتب عبد الرحيم كمال حاز جائزة التفوق (الشرق الأوسط)

وفاز بالجوائز التشجيعية في مجال الفنون المخرج محي الدين يحيى في مجال الفيلم القصير عن فيلمه «شقة المبتديان»، فيما فاز في فرع الفنون الجدارية مها جميل وعلي عبد الفتاح مناصفة عن عملهما الجداري «الأمل والتفاؤل»، كما فاز الدكتور فادي عبد الفتاح بالجائزة في مجال الجرافيك عن عمله «إنزوائيات» المكون من 14 قطعة.

وفي مجال الآداب، فازت رواية «القبودان» لمارك أمجد، والمجموعة القصصية «حين يغيب العالم» لفاطمة محمد أحمد، وفاز في مجال الشعر محمد عرب صالح بجائزة شعر الفصحى عن ديوانه «دائرة حمراء حول رأسي»، والشاعرة ريم أحمد المنجي بجائزة شعر العامية عن ديوانها «روايح زين».

وعدّ الناقد محمد بهجت: «أغلب الجوائز ذهبت لمن يستحقها»، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إن «محمد فاضل رمز من رموز الدراما المصرية و أعماله تمثل تاريخاً حافلاً ومؤثراً في حياتنا»، وأشار إلى أن «فوز الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة بجائزة النيل للمبدعين العرب جاء عن استحقاق لأنه صاحب أيادٍ بيضاء على الثقافة العربية بأسرها، وهو مؤسس أهم مهرجان مسرحي في الوطن العربي حالياً وهو (أيام الشارقة المسرحية)»، كما أعرب بهجت عن سعادته بفوز الدكتور حسين حمودة كناقد له تاريخ طويل وحافل، وعبد الرحيم كمال ككاتب مبدع، بخلاف تفوقه في الأعمال الدرامية وأحدثها مسلسل «الحشاشين».