شكسبير يدق «جرس الإنذار» في بيروت عشية الانتخابات

«فرقة زقاق» في مسرحيتها «راسين بالإيد»

«فرقة زقاق» في مشهد من مسرحية «راسين بالإيد»
«فرقة زقاق» في مشهد من مسرحية «راسين بالإيد»
TT

شكسبير يدق «جرس الإنذار» في بيروت عشية الانتخابات

«فرقة زقاق» في مشهد من مسرحية «راسين بالإيد»
«فرقة زقاق» في مشهد من مسرحية «راسين بالإيد»

لا توجد مسرحية لشكسبير، أكثر دموية وثأرية من «تيتوس أندرونيكوس» التي كتبها في وقت مبكر من حياته، وهي التراجيديا الأولى التي سطرها، ولم يسجل لها الكثير من الشهرة بسبب عنفها الشديد ووحشية أحداثها التي تتجاوز الاحتمال. وخيار «فرقة زقاق» اجتزاء مقاطع من هذا العمل بشكل رئيسي مع أخرى من مسرحيات غيرها للعبقري الإنجليزي مثل «الملك لير» و«ماكبث» و«يوليوس قيصر» له دلالته، مع كل ما يحيط بلبنان من مجازر وأنهار دماء.
العمل المسرحي «راسين بالإيد» فيه إيهام ولعب وتجريب، ومحاولة التحام مع الجمهور. وبينما يتوافد الحضور لأخذ مقاعده، يكون العرض قد بدأ. وهو على أي حال ليس عرضاً كلاسيكياً، إنه نوع من التماهي بين الأرض بكل ما تتفتق عنه مسالك البشر من فجور وتفنن في الشر، وخشبة فنية تحاول أن تقوله على طريقتها المخففة، كي تجعل الفرجة محتملة.
الممثلون الثلاثة مايا زبيب وجنيد سري الدين ولميا أبي عازر (وهم أيضاً معدو النص والمخرجون) يقفون معاً في إحدى زوايا الخشبة والناس تأخذ أماكنها تدريجياً، لنرى أنهم انتقلوا بشكل عفوي، وهم مستمرون في حوارهم الصامت، إلى وسط المسرح، ونفاجأ بأن اثنين منهما ينقضّان دون مقدمات على الثالثة، ويرتكبان جريمتهما بخنقها، حتى تلفظ تدريجياً أنفاسها الأخيرة. بداية صادمة، لكن الجثة سرعان ما تنهض واقفة بينما تسألها لميا إن كانت قد أخافتها وهي تقتلها، فتجيب: «مشي الحال لميا. هذا مسرح! هذا مجرد مسرح!».
بداية قصيرة، يذهب بعدها الممثلون للجلوس أمام الطاولة الكبيرة التي تتوسط الخشبة. نقاشات حول النص، كيفية تركيب المشاهد. ما يتوجب تقديمه، وما يجدر التخفيف من حدته. هل يصح الوصول بالعنف حد الوحشية. كيف أن الممثل يحمل سكينه ويري الجمهور أنه يرتكب جريمته لكنه لا يغرس نصلها في جسد الضحية كي لا يذهب الأداء إلى جرح مشاعر المتفرج. تقطع الحوارات في كل مرة ما يشبه اسكتشات قوية وعنيفة. الكثير من الواقعية حول الطاولة، وكأننا في ندوة حقيقية، وانتقال فجائي إلى التمثيل عند تقديم الاسكتشات. أربعون جريمة قتل، حالات اغتصاب، جثث، تقطيع أيد والسن. الجميع ينتقم من الجميع، نفوس جائعة للسفك ودماء لا تتوقف عن الجريان، في مسرحية شكسبير، التي تستعار أجزاؤها لأدائها حية. مشاهد تستدعي من الممثلين تخبئة عيونهم إما بأيديهم أو نظارات سوداء. فالنظر في وجه الضحية بحسب ما تشرح إحدى الممثلات هو تحميل له قدراً من المسؤولية عما يحدث.
مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» تعود إلى العام (1592) ويعتقد أن شكسبير ألفها مع آخر هو جورج بيل. أحداثها تقع في القرن الرابع قبل الميلاد ولشدة شراستها من المستبعد أن تكون حقيقية. قصة استثنائية في عنفها حيث تنتقم تامورا ملكة القوط بعد أن تؤخذ أسيرة ويقتل ابنها أمام عينيها، من جلادها تيتوس ويتمكن أبناؤها انتقاماً لها من اغتصاب ابنة تيتوس وتشويهها بشكل مفزع. ويتمكن تيتوس بعد ذلك من الثار لنفسه بأفظع مما فعلت تامورا وسلالتها.
ومن بين ما يقوم به هو قتل أبنائها وطحن عظامهم وعجنها بدمهم وتقديم كل ذلك لها على مائدة السم كي تتجرعها، ثم يعمد إلى قتلها وقتل ابنته، وهو يستسلم للجنون.
هذا المشهد الأخير تبدع الفرقة في تقديمه حيث، وكما في كل المشاهد، تستخدم الإضاءة بحرفية عالية. لنرى الثلاثة على المائدة ويقدم تيتوس أوعية الطعام الأحمر القاني بنفسه وأكواب شراب الدم لغريمته بأناقة بالغة، ثم تسلط الإضاءة على وجهه حيث يتحول إلى ما يشبه الوحش، وينسكب السائل ليغسل ملامحه المرعبة التي بقيت وحدها تلتمع في ظلمة الغرفة.
بقيت مسرحية شكسبير «تيتوس أندرونيكوس» تقرأ ويخفت نجمها، لتعود إلى السطح في العصر الحديث. واختيار «فرقة زقاق» لهذا العمل بالذات، وفي هذه المرحلة من عمر لبنان والمنطقة له دلالاته. وهذه المرة عرضت نسخة مطورة من «راسين بالإيد» عن تلك التي قدمت سابقاً عام 2016 حيث تستكمل فرقة «زقاق» المسرحية اللبنانية تجاريبها الجريئة، وربطها بين الخشبة والواقع، بعد انتقالها إلى مقرها الجديد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فاتحة أبوابها للمدارس والجامعات والجمهور العريض.
وأتت النسخة الجديدة من هذا العمل الدرامي بسوداوية حالكة، قبيل الانتخابات النيابية في عروض عدة ثلاثة مسائية، وأخرى خلال النهار للمدارس التي توافدت للفرجة.
وان كانت الفرقة تعتبر أن العرض جاء ليواكب الأجواء الانتخابية النيابية الشرسة، والمزاحمات العنيفة، ويقدم مسرحياً الديكتاتورية ببشاعتها ووحشيتها، فهو بمثابة جرس إنذار إلى ما يمكن أن ينجرّ إليه لبنان في ظل المجازر المحيطة به والجنون الهادر حوله. فالموت لا ينجب غير الموت، والانتقام ليس له سوى نتيجة واحدة هو: ابتلاع الجميع.


مقالات ذات صلة

بنغازي الليبية تبحث عن الضحكة الغائبة منذ 12 عاماً

يوميات الشرق أبطال أحد العروض المسرحية ضمن فعاليات مهرجان المسرح الكوميدي في بنغازي (وال)

بنغازي الليبية تبحث عن الضحكة الغائبة منذ 12 عاماً

بعد انقطاع 12 عاماً، عادت مدينة بنغازي (شرق ليبيا) للبحث عن الضحكة، عبر احتضان دورة جديدة من مهرجان المسرح الكوميدي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.