في أحد مشاهد «لا تلمسني» (Touch Me Not) يحاول رجل بدين كث شعر الرأس والوجه استخراج الغضب الكامن في ذات لورا بنسون. يحاورها ويستمع لها ثم يحاورها ويستمع لها من جديد، وبصبر حيناً، وبضيق صدر حيناً آخر. هو ليس طبيباً ولا يمثل جمعية إغاثة بل «شافٍ جنسي» (Sexual Healer). مهمته، كما يقترح لقبه، مساعدة الناس على الشفاء من مشاكلهم الجنسية. شيء كان الطبيب يقوم به سابقاً إما بعلاج بدني أو نفسي، والآن هناك هذا الرجل الذي هو لا ريب من نتاج عالمنا اليوم. وما يأتي به من تشخيص لا قيمة له على الشاشة، لكنه، والمشهد بذاته، محتفى به في فيلم أنيدا بنتليلي هذا الذي يحمل هوية رومانية مع مساهمات تشيكية وألمانية.
لورا بنسون، بدورها، امرأة في نحو الخمسين من العمر ما زال لديها ريب في قدراتها العاطفية، وتعاني من أن لا تفهم إشارات جسدها الآن، لكنها تكتشف أنها كانت دوماً على غير قدرة فهم ما تريده وكيف تحصل عليه في إطار علاقاتها العاطفية. من خلال هاتين الشخصيتين وشخصيات أخرى ملازمة تتوزع في أدوار قريبة وأخرى بعيدة، توحي المخرجة الرومانية بعالم من العلاقات الاجتماعية التي تتشابك خطوطها من دون فعل عاطفي فعال. الحاجة الجنسية هي التي تقرر وهذه الحاجة بدورها غير واضحة، وبالتالي لا ندري ما قيمتها ولا أهمية ما تقرره.
على ذلك، وبصرف النظر عن مستواه المتوسط كعمل متسابق، هذا الفيلم الموصوف بالجريء هو من قبض على تمثال الدب الذهبي في نهاية حفل توزيع الجوائز يوم أول من أمس (السبت). أمر أثار استغراب عديدين كانوا ما زالوا يأملون أن تعدل لجنة التحكيم عن منح جوائزها لأفضل فيلم تقوم على العمق وليس الظواهر.
هذا لم يحدث، ولجنة التحكيم برئاسة المخرج الألماني توم تيكفر، قررت أن العري لنصف مشاهد الفيلم، والحديث عن الأمور الجنسية بأسلوب عمل محتار في انتمائه بين ما هو درامي وما هو تسجيلي، ثم ما هو مفتوح على الاحتمالين، كافٍ لمنحه التقدير الأعلى. وهكذا كان والمخرجة أدينا بنتيلي كانت أول المتفاجئين. الثاني هو كاتب هذه السطور الذي كان يعتقد أن الفيلمين الوحيدين اللذين يستحقان الدب الذهبي هما الأميركي «جزيرة الكلاب» (الذي لم نتوقع له الفوز على أي حال كونه فيلم أنيميشن أساساً) والفيلم الروسي «دوفالاتوف» الجيد والرصين تقنياً وفنياً. هذا مع قبول احتمال وصول الفيلم الآتي من باراغواي بعنوان «الوريثتان» إلى تلك الجائزة كونه عملاً جيداً مصنوعاً بتمعن وبذل في المعالجة الطبيعية وشبه الواقعية لحياة بطلته.
لكن ما حدث هو أن هذه الأفلام قدّر لها أن تكتفي بجوائز خلفية: «دوفالاتوف» فاز بجائزة التصاميم الإنتاجية والديكوراتية. وخرجت آنا برون، بطلة «الوريثتان» بجائزة تستحقها كأفضل ممثلة، بينما خرج الفيلم ذاته بجائزة تُمنح كل سنة باسم مؤسس المهرجان ألفرد باور. أما فيلم «جزيرة الكلاب» فوصل إلى مستوى جائزة أفضل مخرج التي لم يستطع المخرج وس أندسون تسلمها فناب عنه الممثل بل موراي الذي له دور صوتي في هذا الفيلم الأنيميشن الطويل.
بذلك، توزيع هذه الجوائز على ما تقدم ذكره لم يكن، في الواقع، سوى تمهيد لوصول فيلم «لا تلمسني» إلى خطف الجائزة الأولى عنوة عن أفلام أخرى أفضل منه.
عملياً، ليس هناك ما يمكن إضافته فوق ما سبق لنا أن كتبناه حول معظم هذه الأفلام في تقارير سابقة. لكن ما يمكن تداوله هو أن الأفلام التسعة عشر التي دخلت السباق (من أصل 25 فيلماً تم تقديمها رسمياً) شكلت الوجه الأمامي لدورة غير متميّزة بفيلم واحد، بل بتيار من الأعمال التي اكتسبت جاذبيتها من خلال طرحها غير الكلاسيكي لما تقدّمه. في ذلك الشأن فإن تدخل المخرج الألماني تيكفر لتحبيذ فوز «وجه» و«لا تلمسني» يمكن أن يُترجم إلى نوع من الفرض كونه يميل إلى النوع غير الكلاسيكي من الأعمال.
لا علم لأحد كيف وجّه أعضاء لجنته لقبول آرائه (ربما مستفيداً بأنه المخرج السينمائي الوحيد في اللجنة) لكن عندما يقف رئيس المهرجان على منصة الحفل الختامي ليقول: إن دور المهرجان يكمن في اكتشاف سينما المستقبل، فإن التوقع الوحيد هو مثل هذه النتائج الخفيفة.
تيكفر، في الحقيقة، أقدم على هذا النحو من المعالجات المتجددة في أفلامه الأولى، خصوصاً في «اركضي لولا، اركضي» قبل عشرين سنة، الفيلم الذي شارك في مسابقة مهرجان فنيسيا آنذاك من دون نجاح، لكنه التقط سبع جوائز من جوائز «الفيلم الألماني» (الجوائز السنوية الوطنية) والعديد من جوائز شعبية ونقدية. هذا قبل أن يفقد المخرج بريقه ويمضي صوب وضع غير مكتمل في أي اتجاه. فيلمه الأخير مع توم هانكس «صورة ثلاثية للملك» (A Hologram for the King)، كان تعبيراً عن خطوة تراجع صوب سرد تقليدي في فيلم مر من دون أن يثير اهتمام أحد. سرد لم يقدم لمخرجه الألماني أي خدمة، لا على جانب السينما الجديدة التي بدأ بها تيكفر مسيرته، ولا على صعيد السينما التقليدية التي آل المخرج إليها في هذا العمل.
إذ قام تيكفر باستبعاد أي فيلم يحمل جينات السينما الرصينة والمصنوعة بإشراك عناصر الفيلم الأولى في تأليف نتيجته، كما الحال مع أفضل هذه الأفلام وهي «جزيرة الكلاب» و«دوفالاتوف» و«الوريثتان» حتى خلا الجو لأفلام تبحث عن الصدمة عبر الكاميرا وليس عبر فنها، وهذا ما أوصل فيلمين واهنين إلى سدة النجاح.
الفائزون بدبب الدورة الـ68
> الدب الذهبي: Touch Me Not
إخراج: أدينا بنتيلي (رومانيا)
> الدب الفضي (جائزة لجنة التحكيم الخاصة): Mug
إخراج: مالغورشاتا سيموفسكا (بولندا)
> الدب الفضي (جائزة ألفرد باور): The Heiresses
إخراج: مارسيلو مارتنيزي (باراغواي).
> الدب الفضي لأفضل مخرج: وس أندرسن
عن فيلمه «Isle of Dogs» (الولايات المتحدة).
> الدب الفضي لأفضل ممثلة: آنا برون
عن دورها في «The Heiresses» (باراغواي).
> الدب الفضي لأفضل ممثل: أنطوني باجون
عن دوره في The Prayer»» (فرنسا)
> أفضل سيناريو: مانويل ألكالا وألونسو رويزبالسيوس
عن Museum»» (المكسيك).
> أفضل إسهام فني مميز: إلينا أوكوبنايا
عن «Dovlatov» (روسيا)