التنين الصيني يحدد مستقبل العالم

كتاب فرنسي يطرح أسئلة عن مساراته سياسياً واقتصادياً وثقافياً

التنين الصيني يحدد مستقبل العالم
TT

التنين الصيني يحدد مستقبل العالم

التنين الصيني يحدد مستقبل العالم

فرضت الصين نفسها بقوة على منظومة السباق العالمي، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وأصبح «التنين الصيني» واحداً من الدول الأقوى التي تحكم مؤشرات الصراع فوق ظهر هذا الكوكب.
حول هذا الموضوع، صدر أخيراً بالعاصمة الفرنسية كتاب بعنوان «القدرة الصينية في مائة سؤال» للكاتبة الفرنسية فاليري نيكويت «Valérie Niquet» عن دار النشر الفرنسية «تالاندير Tallandier». يقع الكتاب في 304 صفحات من القطع المتوسط، وعبر هذه الصفحات طرحت الكاتبة مائة سؤال، تشكل فيما بينها لوحة كاملة للصين اليوم بصفتها قوة اقتصادية وثقافية وديموغرافية ونووية وعسكرية، مؤكدة في الوقت ذاته أسباب بلوغ الصين هذه المكانة المهمة دولياً خلال بضعة حقب زمنية لتتبوأ اليوم المرتبة الثانية عالمياً على المسار الاقتصادي والأولى على مسار الصادرات والواردات، وبخاصة فيما يتعلق بواردات النفط والمواد الأولية، وكذلك مكانتها الثانية على المسار العسكري عالمياً بعد الولايات المتحدة الأميركية؛ إذ تقدر ميزانيتها في مجال الدفاع بـ144 مليار دولار وفقاً لإحصائيات 2017. بل، أصبح يحدد سوقها وتبادلاتها وخياراتها الاستراتيجية مستقبل العالم. ورغم التباطؤ النوعي للنمو الاقتصادي على مستوى العالم في 2015 وما أحدثه من تراجع حاد وواضح في الميزان التجاري، فإنه ما زال ينظر للصين بصفتها رائداً للنمو العالمي ومُنقذاً للاقتصاديات التي تعاني من أزمات اقتصادية.
أضفت الأسئلة المائة المطروحة من قبل المؤلفة على الكتاب طابعاً معلوماتياً شيقاً لما ينطوي عليه من حجم معلومات كبير يساعد على فهم واستيعاب ما توصلت إليه الصين اليوم، فبحسب الكتاب أنتجت واستخدمت الصين خلال الفترة من 2011 إلى 2013 كميات من الإسمنت أكثر من تلك التي أنتجتها واستخدمتها الولايات المتحدة الأميركية طوال القرن العشرين كاملاً.
ويلفت الكتاب إلى أن الصين حققت نجاحات حقيقية مذهلة على أرض الواقع تتمثل في خروج 500 مليون نسمة من مواطنيها من عباءة الفقر منذ 1980 حتى الآن، وهو رقم مذهل في الواقع؛ لأنه يمثل تخفيض معدل الفقر عالمياً بنسبة 75 في المائة عن الفترة نفسها. ولذلك؛ يسعى قادة الصين ليس فقط نحو الحفاظ على ما حققوه من نجاحات ملموسة، لكنهم أيضاً يعملون جاهدين على تطوير هذه النجاحات؛ خشية عليها من تعرضها لأي تهديدات، أو أن يضربها الضعف؛ لأن نموذج انهيار الاتحاد السوفياتي ليس ببعيد عن أعينهم؛ فهو حاضر وبقوة في أذهانهم.
ورغم ذلك، تنتقد المؤلفة الوضع الاقتصادي للمواطن الصيني، مؤكدة أنه على الرغم من قوتها الاقتصادية العاتية، فإن هذا لم ينعكس إيجاباً على المواطن الصيني؛ إذ تشير الأرقام إلى أن الصين تحتل المرتبة الـ74 عالمياً فيما يتعلق بنصيب الفرد من الثروة القومية، وهي مرتبة متواضعة للغاية، حيث تأتي الصين بعد روسيا وفنزويلا والمكسيك، وبالتالي فإن تطلعات الشعب وآماله لا تزال كبيرة وأحلامه في الثراء لا تزال صعبة المنال، وبخاصة لدى الأجيال الجديدة التي لم تعرف الخصخصة. ولذلك؛ فمنذ تعيينه رئيساً للبلاد في 2012، أنعش شي جينبنغ الآمال بتعميق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية من خلال تعزيز التوجهات الوطنية والقومية، وبخاصة أن منطقته تشهد تحولات عميقة وجوهرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

عباءة الثقافة والاقتصاد سياسياً
وفي حديثها عن البعد الثقافي والمجتمعي، تناولت المؤلفة أوجهاً كثيرة، منها دور الأديان وثقلها في قلب المجتمع الصيني الذي شهد تغيراً كبيراً في تركيبته الديموغرافية جراء سياسة الطفل الواحد، وهي السياسة التي انتهجتها الإدارة الصينية لموجهة زيادتها السكانية، إلا أن مردودها السلبي كان كبيراً على المجتمع الصيني داخلياً وخارجياً؛ إذ تشير الإحصائيات إلى تراجع السكان في سن العمل خلال عام 2015 بمقدار 4.87 مليون نسمة، وهو ما يعد تغيراً جوهرياً في تركيبة المجتمع الصيني الذي ظلت تمثل الأيدي العاملة ولسنوات طويلة إحدى أدواته المميزة وقوته الناعمة المهمة، إضافة إلى ذلك، فإن 1 في المائة فقط من السكان يمتلكون 33 في المائة من إجمالي ثروات البلاد. وتناولت المؤلفة أيضاً مسألة شبكات التواصل الاجتماعي، مؤكدة على أن شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت لا تزال تخضع لرقابة صارمة من قبل النظام وحزبه، ورغم ذلك، فإن موقع (Alibaba) الاقتصادي الصيني له أكثر من 400 مليون مستخدم. كما أن الحزب الشيوعي الصيني يسيطر على شبكة الإنترنت، وأن 80 في المائة من الـ34 مدينة صينية تعاني من معدل تلوث أعلى بكثير من المعدلات العالمية، حيث شهد عام 2015 انفجاراً غير قانوني لـ700 طن من المواد الكيميائية.
لا ينفصل هذا عن السياسة الصينية التي يناقشها الكتاب في فصله الثالث لمعرفة من يحكم ويدير الصين، مؤكداً أن «التوترات تزداد رويداً رويداً، وبقوة كبيرة بين المبادئ التسلطية»، كما أن حالة التضييق والرقابة الصارمة المفروضة على شبكة الإنترنت جعل منظمة «مراسلون بلا حدود» تصنف الصين في المرتبة الخامسة عالمياً للدول التي لا تحترم حرية الصحافة. كما تناولت المؤلفة كذلك حالات الانشقاق التي طالت المجتمع الصيني، فهناك منشقون عدة لجأوا إلى خيار المنفى في الخارج في مواجهة صرامة النظام الصيني.
خصصت المؤلفة في الكتاب فصلاً كاملاً حول الاقتصاد الصيني لمعرفة ماهيته وتوجهاته، وهل هو اقتصاد سوق أم اقتصاد اشتراكي؟ وتوصلت إلى أنه من الصعب تحديد ذلك الآن؛ فهناك 103 شركات صينية مملوكة للدولة الصينية، وتعد من بين أكبر وأهم 500 شركة عالمياً. كما أن الاستثمارات الأجنبية تمثل أهمية للصين، سواء من وجهة النظر الاقتصادية أو من وجهة نظر صورة الصين خارجياً.
وعلى الرغم من أن العملة الصينية «اليوان» لا تعد عملة دولية إلا بنسبة 2 في المائة فقط من حجم التعاملات، وعلى الرغم كذلك من أن الصين وأميركا يمثلان 40 في المائة من الاقتصاد العالمي، فإن الصين تحتل، منذ 2013، المرتبة الأولى عالمياً في حيازة العملة الأجنبية.
وتؤكد المؤلفة أن الشواهد تشير إلى صعوبات تجابه النظام الصيني اليوم، وتتساءل عما إذا كان ذلك يمثل ضعفاً عابراً أم طويل الأمد؟ وهل يستطيع النظام الصيني الخروج من عباءة الطاغية على المدى القصير؟ وهنا تشير المؤلفة إلى أن هذا الوضع يتطلب إحداث نمو قوي بأي ثمن لحفظ وصيانة شرعية النظام؛ ولذلك فقد وعد الرئيس الصيني بأن تصبح بلاده قوة معتدلة تنموياً في 2020 لإحداث تطور ملحوظ في متوسط دخل الفرد وتقليل الفروق الشاسعة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
- الجغرافيا والاستراتيجية الخارجية
في الفصل الأخير من كتابها، تتناول المؤلفة أوجهاً كثيرة للصين الساعية نحو البناء كقوة عظمى، مشيرة إلى أن الرئيس الصيني يسعى نحو صياغة ما يسمى بـ«الحلم الصيني» لترسيخ مكانة الصين عالمياً من جانب، وأن تصبح الصين مستقلة من كل النواحي من جانب آخر. إلا أن التاريخ لا يزال متوقفاً اليوم عند نقطة غريبة تكمن في أن أكثر من نصف المسلسلات في الصين اليوم تتناول الحرب الصينية اليابانية، هذا رغم العلاقات الجديدة التي ترتسم الآن بين الصين وروسيا والتي تغير من شأنها الكثير من المعطيات الإقليمية والدولية.
كما تناولت المؤلفة خلال هذا الفصل محاور أخرى، مثل التواجد الصيني في آسيا الوسطى والهند وأفريقيا لتخلص في النهاية إلى التأكيد على قوة الصين الناعمة خارج نطاقها الجغرافي، وبخاصة في المناطق سالفة الذكر، حيث فتحت الصين أكثر من 500 معهد في 125 دولة منذ عام 2004.
يشار إلى أن مؤلفة الكتاب متخصصة في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية في آسيا ومسؤولة مهمة في مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية بفرنسا؛ ما جعلنا أمام عمل مميز يجمع بين الأبعاد النظرية والحقائق المعلوماتية المأخوذة من الميدان الواقعي.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم