لويجي بيرانديللو... فناناً تشكيلياً

الكاتب المسرحي صاحب نوبل للآداب 1935 يجمع بين الزيت والمشهد

من المعرض
من المعرض
TT

لويجي بيرانديللو... فناناً تشكيلياً

من المعرض
من المعرض

في المسرح التابع لقصر «ترلونيا» في روما، يقام معرض لمجموعة مختارة من اللوحات التي رسمها الكاتب المسرحي الكبير لويجي بيرانديللو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1935، الذي ولد في مدينة اكريجينتو بجزيرة صقلية عام 1867 وتوفي في مدينة روما عام 1936.
14 عملاً فنياً بأحجام مختلفة رسمت بألوان الزيت وألوان الباستيل، تعد شهادة لتطور الذائقة الجمالية لدى هذا الكاتب من خلال ممارسته الرسم للتعرف على المفاهيم الحداثية المهنية لفنان سخّر كل إبداعه للمسرح، في الفراغ واللون والخط. بوعي منه اختار بيرانديللو أن يحقق قفزة نحو فن الرسم، غاية في البحث عن أراضٍ وعرة وحرة في الآن ذاته. ولأن هذا الكاتب المسرحي، كان على الدوام «كلمة الفصل» في جميع مسرحياته، وجزءاً مكوناً من أجزائها وتفاصيلها التي كان يمليها على المخرجين ومنفذي السينوغرافية، أصبح في الرسم مدعواً إلى الانخراط، إن لم نقل التورط الجمالي في العمل، ليقفز بعيداً بألوانه الكفيلة باصطناع الرفيف الضوئي في أكثر من التحديد الأكاديمي الذي رعاه في بناء كتله الجسدية في سطوح أعماله الفنية التي جاءت مترافقة مع الوجوه والأشكال الإنسانية المصورة بواقعية تعبيرية، التي حافظ فيها على إجادة التفاصيل، بل المبالغة بها أحياناً، حتى يخال للمشاهد أنه أمام أحد مشاهد أعماله المسرحية. ورغم كل تلك الخلطة التي اعتمدها الفنان في لوحاته، والمشاهد التي تبدو كأنها افتراضية لشدة انسجامها، يبقى القول حاضراً بقوة، بل إن معنى الافتراض يكمن في اجتماع المشهد المصور بألوان الزيت مع المشهد على خشبة المسرح. لقد اتجهت مجموعة من الكتاب والشعراء الإيطاليين في بدايات القرن العشرين هروباً من رتابة التعابير الفنية التي ارتبطت بأعمالهم، نحو تجريب أساليب فنية معاصرة، تفتح آفاق التجريب الفني أمام المبدع بشكل أوسع وأكثر حرية، تجعله غير منطوٍ ضمن أي توجه إبداعي محدد وغير تابع لأي منها، بل ملتزم بحريته الفنية فقط. ليدخل إلى عالم اللوحة وإرهاصاتها، نحو أسلوب واقعي تعبيري يحضر فيها الجسد طرياً كفاعل فني وأداة فنية في الوقت ذاته. وقد بنى بيرانديللو أعمالاً أدائية (استعراضية)، حيث قام بجعل الجسد وسيلة تعبيرية داخل الرؤية والعمل في آن نفسه، ملغياً المسافة الفاصلة بين الواقع وترجمته، ما سمح بمزيد من الإبداعية، إذ انتقل من العالم الواقعي إلى الافتراضي، باعتباره عالماً موازياً مكنه من استعمال أدوات ووسائل جديدة معاصرة، وقدم للمتلقي إمكانية السفر بين الأسندة المتنوعة المكونة للعمل ككل بعيداً عن سطوة المدرسة والأكاديمية ومحدداتها الحسابية، ما جعل هالة التقديس التي تغلف العمل الفني تنمحي وتزال.
تأتي اهتمامات بيرانديللو بالرسم متزامنة مع اهتماماته بالفنون الجسدية والجمالية المرتبطة بالمعاصرة جزءاً لا يتجزأ من تاريخ التطور الفكري الفني الإنساني، على ظاهرة «الأموريزم» (UMORISMO) التي قدمها الكاتب الكبير.
ففي عام 1907، شرع بيرانديللو بنشر سلسلة من الدراسات حول هذه الظاهرة، وقد جمعت تلك الدراسات في كتاب نشر عام 1908 وأعيد نشره عام 1920 بعد إجراء كثير من التنقيحات والإيضاحات. و«الأموريزم» حسب تعريف بيرانديللو هي «الطريقة الذكية الرقيقة في الرؤية، التي تسهم في تقديم وتفسير الواقع من خلال إظهار النواحي غير المعتادة والغريبة، والتي تتسم بالإمتاع»، و«الأموريزم» هي جزء من «الكوميك» وقد طبق هذا المفهوم في دراساته على الشعر الشعبي الإيطالي وطبقه أيضاً وبشكل أوسع على فنون المسرح والرسم بشقيهما القديم والحديث.
والفن من وجهة نظر بيرانديللو هو «تجاوز للقوانين، ينظر للأشياء بشكل غير متوقع، إذ إنه يرفع الأقنعة عن النماذج، وعن المنطق السائد، ويبيّن بوضوح ما يقبع تحت الأقنعة من تضاربات حياتية عاصفة»، كما أن الفن هو «الممارسة المستمرة لعدم التصديق» والفنان هو النموذج لظاهرة «الأموريزم»، فخياله يحطم كل التناسقات والتحديدات النابعة من التقاليد واللغة والثقافة بشكل عام، ليعيد إنتاجها بتدفق يصعب تحليله، فينشأ من ذلك كله شكل يتسم بالأصالة يشبه الكائن الحي.
إن هذه العملية تظل خاضعة حسب اعتقاد بيرانديللو للوعي الذاتي للفنان، أو ما يطلق عليه الضمير أو التفكير بالذات الذي يمثل مرآة تزود الخيال الإنساني بصورة نقدية لمسيرته ونموه، وتساعده في مراقبة حركاته. إن «الأموريزم» يحتل مكاناً أولياً من شأنه التدخل بشكل مباشر في العملية، فهو يراقب الخيال بشكل واضح ومتعالٍ، وهو أيضاً يجزئ الحركة إلى أجزاء مختلفة من خلال تحديده الدقيق. يقول بيرانديللو: «إن الأشياء ليست كما نتصورها، وهي ليست كاملة بهذا الشكل، إذ يمكن أن تكون على العكس من ذلك، فالخيال يضرب التفكير في كل خطوة وينحيه إلى الوراء ويظهر أن كل شيء يمكن أن يكون على العكس مما هو عليه الحال».



3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
TT

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)

كل 10 دقائق تُقتل امرأةٌ عمداً في هذا العالم، على يد شريكها أو أحد أفراد عائلتها. هذا ليس عنواناً جذّاباً لمسلسل جريمة على «نتفليكس»، بل هي أرقام عام 2023، التي نشرتها «هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة» عشيّة اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة، الذي يحلّ في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام.

ليس هذا تاريخاً للاحتفال، إنما للتذكير بأنّ ثلثَ نساء العالم يتعرّضن للعنف الجسدي، على الأقل مرة واحدة خلال حياتهنّ، وذلك دائماً وفق أرقام الهيئة الأمميّة. وفي 2023، قضت 51100 امرأة جرّاء التعنيف من قبل زوجٍ أو أبٍ أو شقيق.

كل 10 دقائق تُقتَل امرأة على يد شريكها أو فرد من عائلتها (الأمم المتحدة)

«نانسي» تخلّت عن كل شيء واختارت نفسها

من بين المعنَّفات مَن نجونَ ليشهدن الحياة وليروين الحكاية. من داخل الملجأ الخاص بمنظّمة «أبعاد» اللبنانية والحاملة لواء حماية النساء من العنف، تفتح كلٌ من «نانسي» و«سهى» و«هناء» قلوبهنّ المجروحة لـ«الشرق الأوسط». يُخفين وجوههنّ وأسماءهنّ الحقيقية، خوفاً من أن يسهل على أزواجهنّ المعنّفين العثور عليهنّ.

جسدُ «نانسي» الذي اعتادَ الضرب منذ الطفولة على يد الوالد، لم يُشفَ من الكدمات بعد الانتقال إلى البيت الزوجيّ في سن الـ17. «هذا التعنيف المزدوج من أبي ثم من زوجي سرق طفولتي وعُمري وصحّتي»، تقول الشابة التي أمضت 4 سنوات في علاقةٍ لم تَذُق منها أي عسل. «حصل الاعتداء الأول بعد أسبوع من الزواج، واستمرّ بشكلٍ شبه يوميّ ولأي سببٍ تافه»، تتابع «نانسي» التي أوت إلى «أبعاد» قبل سنتَين تقريباً.

تخبر أنّ ضرب زوجها لها تَركّزَ على رأسها ورجلَيها، وهي أُدخلت مرّتَين إلى المستشفى بسبب كثافة التعنيف. كما أنها أجهضت مراتٍ عدة جرّاء الضرب والتعب النفسي والحزن. إلا أن ذلك لم يردعه، بل واصل الاعتداء عليها جسدياً ولفظياً.

غالباً ما يبدأ التعنيف بعد فترة قصيرة من الزواج (أ.ف.ب)

«أريد أن أنجوَ بروحي... أريد أن أعيش»، تلك كانت العبارة التي همست بها «نانسي» لنفسها يوم قررت أن تخرج من البيت إلى غير رجعة. كانا قد تعاركا بشدّة وأعاد الكرّة بضربها وإيلامها، أما هي فكان فقد اختمر في ذهنها وجسدها رفضُ هذا العنف.

تروي كيف أنها في الليلة ذاتها، نظرت حولها إلى الأغراض التي ستتركها خلفها، وقررت أن تتخلّى عن كل شيء وتختار نفسها. «خرجتُ ليلاً هاربةً... ركضت بسرعة جنونيّة من دون أن آخذ معي حتى قطعة ملابس». لم تكن على لائحة مَعارفها في بيروت سوى سيدة مسنّة. اتّصلت بها وأخبرتها أنها هاربة في الشوارع، فوضعتها على اتصالٍ بالمؤسسة التي أوتها.

في ملجأ «أبعاد»، لم تعثر «نانسي» على الأمان فحسب، بل تعلّمت أن تتعامل مع الحياة وأن تضع خطة للمستقبل. هي تمضي أيامها في دراسة اللغة الإنجليزية والكومبيوتر وغير ذلك من مهارات، إلى جانب جلسات العلاج النفسي. أما الأهم، وفق ما تقول، فهو «أنني أحمي نفسي منه حتى وإن حاول العثور عليّ».

تقدّم «أبعاد» المأوى والعلاج النفسي ومجموعة من المهارات للنساء المعنّفات (منظمة أبعاد)

«سهى»... من عنف الأب إلى اعتداءات الزوج

تزوّجت «سهى» في سن الـ15. مثل «نانسي»، ظنّت أنها بذلك ستجد الخلاص من والدٍ معنّف، إلا أنها لاقت المصير ذاته في المنزل الزوجيّ. لم يكَدْ ينقضي بعض شهورٍ على ارتباطها به، حتى انهال زوجها عليها ضرباً. أما السبب فكان اكتشافها أنه يخونها واعتراضها على الأمر.

انضمّ إلى الزوج والدُه وشقيقه، فتناوبَ رجال العائلة على ضرب «سهى» وأولادها. نالت هي النصيب الأكبر من الاعتداءات وأُدخلت المستشفى مراتٍ عدة.

أصعبُ من الضرب والألم، كانت تلك اللحظة التي قررت فيها مغادرة البيت بعد 10 سنوات على زواجها. «كان من الصعب جداً أن أخرج وأترك أولادي خلفي وقد شعرت بالذنب تجاههم، لكنّي وصلت إلى مرحلةٍ لم أعد قادرة فيها على الاحتمال، لا جسدياً ولا نفسياً»، تبوح السيّدة العشرينيّة.

منذ شهرَين، وفي ليلةٍ كان قد خرج فيها الزوج من البيت، هربت «سهى» والدموع تنهمر من عينَيها على أطفالها الثلاثة، الذين تركتهم لمصيرٍ مجهول ولم تعرف عنهم شيئاً منذ ذلك الحين. اليوم، هي تحاول أن تجد طريقاً إليهم بمساعدة «أبعاد»، «الجمعيّة التي تمنحني الأمان والجهوزيّة النفسية كي أكون قوية عندما أخرج من هنا»، على ما تقول.

في اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة تحث الأمم المتحدة على التضامن النسائي لفضح المعنّفين (الأمم المتحدة)

«هناء» هربت مع طفلَيها

بين «هناء» ورفيقتَيها في الملجأ، «نانسي» و«سهى»، فرقٌ كبير؛ أولاً هي لم تتعرّض للعنف في بيت أبيها، ثم إنها تزوّجت في الـ26 وليس في سنٍ مبكرة. لكنّ المشترك بينهنّ، الزوج المعنّف الذي خانها وضربها على مدى 15 سنة. كما شاركت في الضرب ابنتاه من زواجه الأول، واللتان كانتا تعتديان على هناء وطفلَيها حتى في الأماكن العامة.

«اشتدّ عنفه في الفترة الأخيرة وهو كان يتركنا من دون طعام ويغادر البيت»، تروي «هناء». في تلك الآونة، كانت تتلقّى استشاراتٍ نفسية في أحد المستوصفات، وقد أرشدتها المعالجة إلى مؤسسة «أبعاد».

«بعد ليلة عنيفة تعرّضنا فيها للضرب المبرّح، تركت البيت مع ولديّ. لم أكن أريد أن أنقذ نفسي بقدر ما كنت أريد أن أنقذهما». لجأت السيّدة الأربعينية إلى «أبعاد»، وهي رغم تهديدات زوجها ومحاولاته الحثيثة للوصول إليها والطفلَين، تتماسك لتوجّه نصيحة إلى كل امرأة معنّفة: «امشي ولا تنظري خلفك. كلّما سكتّي عن الضرب، كلّما زاد الضرب».

باستطاعة النساء المعنّفات اللاجئات إلى «أبعاد» أن يجلبن أطفالهنّ معهنّ (منظمة أبعاد)

«حتى السلاح لا يعيدها إلى المعنّف»

لا توفّر «أبعاد» طريقةً لتقديم الحماية للنساء اللاجئات إليها. تؤكّد غيدا عناني، مؤسِسة المنظّمة ومديرتها، أن لا شيء يُرغم المرأة على العودة إلى الرجل المعنّف، بعد أن تكون قد أوت إلى «أبعاد». وتضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مهما تكن الضغوط، وحتى تهديد السلاح، لا يجعلنا نعيد السيّدة المعنّفة إلى بيتها رغم إرادتها. أما النزاعات الزوجيّة فتُحلّ لدى الجهات القضائية».

توضح عناني أنّ مراكز «أبعاد»، المفتوحة منها والمغلقة (الملاجئ)، تشرّع أبوابها لخدمة النساء المعنّفات وتقدّم حزمة رعاية شاملة لهنّ؛ من الإرشاد الاجتماعي، إلى الدعم النفسي، وتطوير المهارات من أجل تعزيز فرص العمل، وصولاً إلى خدمات الطب الشرعي، وليس انتهاءً بالإيواء.

كما تصبّ المنظمة تركيزها على ابتكار حلول طويلة الأمد، كالعثور على وظيفة، واستئجار منزل، أو تأسيس عملٍ خاص، وذلك بعد الخروج إلى الحياة من جديد، وفق ما تشرح عناني.

النساء المعنّفات بحاجة إلى خطط طويلة الأمد تساعدهنّ في العودة للحياة الطبيعية (رويترز)

أما أبرز التحديات التي تواجهها المنظّمة حالياً، ومن خلالها النساء عموماً، فهي انعكاسات الحرب الدائرة في لبنان. يحلّ اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في وقتٍ «تتضاعف فيه احتمالات تعرّض النساء للعنف بسبب الاكتظاظ في مراكز إيواء النازحين، وانهيار منظومة المساءلة». وتضيف عناني أنّ «المعتدي يشعر بأنه من الأسهل عليه الاعتداء لأن ما من محاسبة، كما أنه يصعب على النساء الوصول إلى الموارد التي تحميهنّ كالشرطة والجمعيات الأهليّة».

وممّا يزيد من هشاشة أوضاع النساء كذلك، أن الأولويّة لديهنّ تصبح لتخطّي الحرب وليس لتخطّي العنف الذي تتعرّضن له، على غرار ما حصل مع إحدى النازحات من الجنوب اللبناني؛ التي لم تمُت جرّاء غارة إسرائيلية، بل قضت برصاصة في الرأس وجّهها إليها زوجها.