صدر عن دار «المدى» كتاب جديد للناقد السينمائي علاء المفرجي يحمل عنوان «أفلام السيرة الذاتية: تصوير المشاهير من زوايا مختلفة». يشتمل الكتاب على ثلاثة فصول رئيسية حيث يركِّز الناقد في الفصل الأول على معنى أفلام السيرة، ونظرة عامة إلى أهمّ أفلام السيرة التي أنتجتها السينما العالمية بما فيها السينما العربية. أما الفصل الثاني فيتضمّن عدداً من أفلام السيرة الحديثة لـ19 مُخرِجاً سينمائياً من بينهم سودربيرغ، إيستوود، توم هوبر وآخرون. فيما يقتصر الفصل الثالث على أربعة مخرجين استهوتهم أفلام السيرة وهم سوكوروف، سكورسيزي، أوليفر ستون ويوسف شاهين.
ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب النقدي أن ثيمة «السيرة البَصَرية» حاضرة في كل صفحة من صفحاته وكأنّ الناقد يجترح بنية معمارية رصينة في نص روائي محبوك وهذا دليل حِرصٍ على متابعة الثيمة والإمساك بتلابيبها على مدار الفصول الثلاثة التي تؤسس متن الكتاب. وحتى الاقتباسين اللذين استلفهما من أندريه موروا وبورخيس يدخلان في صُلب الثيمة ولا يشذّان عنها أبداً، فالأول ليس مع قول الحقيقة كلها، وإنما مع الاكتفاء بجانبٍ منها، أما الثاني فينتصر إلى «حركيّة السينما» ولا يميل إلى السكونيّة في «ترجمة حياة شخص ما» أو الالتزام الحرْفي بسيرته الذاتية.
يُعرِّف المفرجي الـBiographical movie بأنه «فيلم يُصوِّر ويُمسرِح حياة شخصية تاريخية مهمة من الزمن الماضي أو الحاضر.... ويروي قصة حياة بدرجات متفاوتة من الدقة» (ص11)، ويمكن أن نضيف بأن هذه الشخصية تستعمل اسمها الحقيقي ولا تتوارى خلف اسم مُستعار. لا يشترط الناقد أن يكون هذا الشخص السيري مَلِكاً أو زعيماً أو عالما أو فناناً حسب، بل يمكن أن يكون مجرماً أو تاجر مخدرات أو شخصاً خارجاً على القانون لذلك تنوّعت أفلام السيرة الذاتية وجمعت بين الملحن، والطبيب، والمُخترع، والمُغامر، ورجل الدين، والبطل الرياضي وما إلى ذلك. جدير ذكره أن بعض هذه الأفلام يركّز على مراحل الطفولة والصبا والشباب، وبعضها الآخر يتناول إنجازات الشخصية السيرية بعد مرحلة النضج والبلوغ الذهني. أشار المفرجي إلى أن نابليون بونابرت هو الشخصية السيرية الأكثر تجسيداً على الشاشة الكبيرة دون أن يعزز هذه المعلومة بأدلة دامغة ثم يليها الرئيس لنكولن، والسيد المسيح، ولينين، وهتلر، وكليوباترا وبعض الملوك البريطانيين.
يتساءل المفرجي: لماذا تجذبنا السيرة؟ فيجيب لأنها «تُنقص من أسطورة الشخصية فتجعلك تراها على مستوى إنساني أكثر في ضعفها وأخطائها» (ص19) وحينما نرى فيلمَ سيرة ذاتية فكأننا نرى عصراً بأكمله، ونعيد اكتشاف التاريخ من جديد. ومع ذلك فثمة حياد غريب في بعض الأفلام مثل «المرأة الحديدية» لفيليدا لُويْد التي لم نتعرّف فيها على الطريقة التي تعاملت فيها ثاتشر مع الأزمة الاقتصادية و«صعود الشرّ» لكريستيان دُوغواي الذي تماهى الجمهور مع الجزء الأول من الفيلم لأنه يصور مرحلة الكفاح والإيمان الحقيقي لهتلر بقضيته، أما الجزء الثاني الذي ينصبّ على قسوة هتلر، وفظاظته، والبشاعات التي ارتكبها خلال فترة حكمه النازي فلم يتعاطف معه المشاهدون.
وفيما يتعلّق بأفلام السيرة العربية يتوقف المفرجي عند خمسة أفلام رئيسية أبرزها «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين ويعدّه من أهمّ أفلام السيرة التي قدّمتها السينما العربية، كما يعتبر «عمر المختار» لمصطفى العقّاد أنجح أفلام السيرة بعد فيلم شاهين المذكور سلفاً، أما بقية أفلام السيرة العربية فهي تُقدِّم شخصيات مكتملة، خارقة للعادة، ولا تعاني من أي نقص خلافاً لاشتراطات السيرة الحقيقية التي تنطوي على نجاحات وإخفاقات على حدٍ سواء.
يتضمّن الفصل الثاني نماذج من أفلام السيرة لـ19 مُخرجاً ناجحاً يتصف غالبيتهم بالصدقية كما هو الحال مع سودربيرغ الذي أنجز «تشي» وجاستن تشادويك الذي قدّم لنا تحفته السينمائية المعنونة «مانديلا طريق طويل نحو الحرية». وهناك مخرجون وقفوا على الحياد مثل كلينيت إيستوود في «جي إدغار» وفيليدا لُويْد في «المرأة الحديدية». وهناك مخرجون تعاطفوا مع أصحاب السير مثل أوليفر ستون في فيلميه عن «كاسترو» و«عرفات» اللذين نمّطتهم المؤسسة الأميركية وقدّمتهم للعالم كأشرار وقامعين. يمكن لأفلام السيرة أن تكون أداة كشف للحقائق المطمورة منذ عقود كما في فيلم «ساحة الأقمار الخمسة» لرينسو مارتينيللي أو «قضية ماتي» لفرانشيسكو روزي. ليس بالضرورة أن تتطابق القصة السينمائية مع حياة الكائن السيري فقد يأخذ السينارست فكرة ما ويعالجها بالطريقة التي يراها مناسبة كما فعل ديفيد سيدلر في «خطاب الملك» لتوم هوبر حينما ركّز على «التأتأة» ليجعل منها فكرة مهيمنة على مدار الفيلم، أو «فاليسا... رجل الأمل» لفايدا الذي أخذ منه حادثة معينة ثم بنى عليها السينارست تفاصيل أخرى مشوّقة، ولم يقدّمه كأسطورة خارقة وإنما كإنسان عادي مُحاطاً بأهله وذويه ورفاقه العمال.
يرصد المفرجي بعض أفلام السيرة التي أُسندت فيها الأدوار الرئيسية إلى ممثلين كبار من طراز كولن فيرث في «خطاب الملك» وميريل ستريب في «المرأة الحديدية»، وإيدي ريدماين في «الفتاة الدنماركية» و«نظرية كل شيء» وفوريست ويتكر في «آخر ملوك اسكوتلندا».
أما الفصل الثالث والأخير فيتمحور حول مُخرجين استهوتهم أفلام السيرة إلى درجة الشغف وأولهم المُخرج الروسي ألكسند سكوروف صاحب الرباعية المعروفة التي تتحدث عن أفول عصر الديكتاتوريات حيث أنجز فيلم «مولوك» عن هتلر و«العِجل» عن لينين وستالين، و«فاوست» و«الشمس» عن الإمبراطور الياباني هيروهيتو وقد أسهب المفرجي في حديثه عن فيلم «الشمس» الذي يركز فيه المخرج على بضعة أيام من حياة الإمبراطور قبيل استسلام اليابان في الحرب.
لا يقل سكورسيزي ولعاً بأفلام السيرة عن سوكوروف ويكفي أن نشير إلى «ذئب وول ستريت» الذي يعتبر أنموذجاً للصنعة السينمائية التي جسّد فيها كابريو شخصية جوردان بيلفورت وصعوده الخاطف ثم سقوطه المدوّي الذي أفضى به إلى السجن عن جرائم عديدة من بينها غسل الأموال، والاتجار بالمخدرات.
ربما يكون أوليفر ستون الأكثر شغفاً بهذا النمط من الأفلام السيرية فهو يسرد من خلالها تجاربه الشخصية، ففي فيلم «بلاتون» قال: «إنني أروي حربي والتجربة التي عشتها بنفسي» (ص124)، كما قدّم جورج بوش الابن في فيلم «دبليو» بأسلوب كوميدي لاذع يصل إلى حدّ السخرية. وفي فيلم JFK كان معنياً في البحث عن الحقيقة، ولم يطرح سؤال من اغتال كيندي؟ وإنما لماذا اغتيل كيندي؟ وتوصل إلى أن الاغتيال ليس فردياً وإنما هو نتيجة لمؤامرة كبرى تعود أسبابها إلى نيّة كيندي في الانسحاب من فيتنام، وتبرّمه من دور أميركا في كوبا إضافة إلى دوافع أخرى لا تزال مجهولة.
لا شك في أن يوسف شاهين هو المُخرج العربي الأكثر اهتماماً بأفلام السيرة فقد أنجز سيراً غيرية وهي «جميلة»، «بونابرت»، «المصير»، «الناصر صلاح الدين» و«المُهاجر» وكلها شخصيات معروفة ومكرّسة في الذاكرة الجمعية العربية. أما سيرته الذاتية فقد جسّدها في أربعة أفلام مهمة لما تزل صامدة أمام تقادم الأعوام وهي «إسكندرية... ليه»، «حدّوتة مصرية»، «إسكندرية كمان وكمان» و«إسكندرية...نيويورك» التي صبّ فيها جام غضبه على أميركا التي تتحامل على العرب، وأشاد بالإسكندرية بوصفها مدينة للتسامح والتعايش بين الأديان.
أفلام السيرة بين الالتزام الحرْفي والتعاطف المُعلن
علاء المفرجي يتناول أبرز الشخصيات التي جسدتها السينما
أفلام السيرة بين الالتزام الحرْفي والتعاطف المُعلن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة