تبعات {الربيع العربي}.. ميليشيات مسلحة وفوضى ودمار

نوعية جديدة من تنظيمات وإرهابيين استغلوا نتائجه وطمعوا في السلطة

صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
TT

تبعات {الربيع العربي}.. ميليشيات مسلحة وفوضى ودمار

صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)
صورة ارشيفية لعنصرين من إحدى الميليشيات في العاصمة الليبية طرابلس (أ.ب)

لم يكن متوقعا أن الدول التي احتفلت بإسقاط أنظمتها بثورات شعبية خلال ما عرف بـ«الربيع العربي»، تتحول خلال ثلاث سنوات من هذه التحولات الدراماتيكية، إلى ساحات للقتال والمعارك الطاحنة بين شعوبها والجماعات الإرهابية المختلفة، التي انتشرت بشكل مخيف على أراضيها، وتنتقل بؤر تمركز الإرهاب من أماكنها التقليدية في أعماق آسيا، إلى منطقة الشمال الأفريقي والجزيرة العربية.

عندما اندلعت الثورة التونسية وفتحت الباب أمام الثورة المصرية، ومن بعدها وصل «الربيع العربي» إلى كل من ليبيا واليمن وسوريا، تفاءل الكثيرون، وأطلق المحللون ذلك اللقب على ما كان يجري من ثورات، ظنا منهم أن رياح الثورة ستواصل هبوبها نحو مزيد من الدول. وسادت في حينها نظرة تفاؤلية مليئة بالأحلام التي توسم كثيرون أن يحملها الربيع العربي إلى شعوب المنطقة. لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفن المتفائلين. وبدلا من نسائم الحرية والديمقراطية، وبشائر الرخاء والاستقرار التي كانوا ينتظرونها، فجعت شعوب المنطقة نتيجة لانتشار الجماعات المسلحة والإرهابية بشكل سرطاني، مستغلة الفراغ السياسي والأمني الناشئ في تلك الدول.
وقد ظهرت على الساحة تنظيمات عدة مسلحة، أعلنت عن نفسها من خلال عمليات إرهابية، أو التهديد بتنفيذ عمليات عنفية، مثل جماعة «أنصار بيت المقدس»، و«جند الإسلام»، و«كتيبة النصرة»، و«التكفير والجهاد» في مصر، و«درع ليبيا»، و«ميليشيات الزنتان» القبلية، و«كتائب مصراتة»، و«لواء شهداء 17 فبراير» في ليبيا، بالإضافة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في ليبيا ومصر» (دالم).
ولم تسلم تونس صاحبة «ثورة الياسمين» من تمدد الجماعات المسلحة على أراضيها، وتنتمي إجمالا، للتيار السلفي الجهادي، ومنها تنظيم «أنصار الشريعة»، وبعض من جهاديي سوريا ومالي العائدين.
وفي اليمن انبثقت جماعة «أنصار الشريعة» فرعا لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بالإضافة إلى جماعة الحوثيين. ناهيك عن «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» اللذين ظهرا في سوريا، الأمر الذي يدعو للتساؤل عن علاقة ثورات الربيع العربي بظهور تلك التنظيمات، التي لم يكن لها وجود سابق من قبل.
وقد كشفت بيانات المكتب العربي للشرطة الجنائية، في السنوات الأخيرة، عن أنه جرى رصد 76 تنظيما وحركة إرهابية، منها 32 تنظيما عربيا صرفا. لكن حالة الانفلات الأمني التي أعقبت الثورات العربية جعلت الواقع أسوأ بكثير مما رسمته تلك الأرقام، في ظل الإعلان عن وجود ما يقرب من 1700 ميليشيا مسلحة في ليبيا وحدها. وفي هذا الإطار، يشير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى أن تفريغ السجون من السجناء في البلدان التي تأثرت بـ«الربيع العربي»، أدى إلى خروج الكثير من الجهاديين، وتكوينهم لتجمعات جديدة تمثل حركات إرهابية خطيرة.
حول ظاهرة التنظيمات الإرهابية المسلحة، قال اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق لـ«الشرق الأوسط»، إن كل التنظيمات الدينية المتطرفة والإرهابية، على اختلاف أسمائها، خرجت من عباءة الإخوان المسلمين، بمن فيها «القاعدة»، في إطار التنظيم الخاص الذي أنشأه حسن البنا. وأضاف نور الدين: «لقد رصدنا تنسيقا بين الظواهري والرئيس المعزول محمد مرسي، خلال فترة حكمه. وحتى تلك التنظيمات التي تتظاهر بتكفير مرسي الآن، إنما تفعل ذلك ذرا للرماد. وما يسمى بالربيع العربي لم يكن في حقيقته إلا خريفا ينطوي على مؤامرة ضد البلاد العربية، لأنه كان يرتبط بحلم الشرق الأوسط الجديد لتقسيم هذه الدول لدويلات عدة، حتى لا تكون إسرائيل وحدها الدولة الصغيرة في المنطقة. وعندما حاولوا عمل سايكس بيكو جديد للتقسيم، كان الإخوان هم العنصر الجاهز لتنفيذ هذه المهمة مقابل وصولهم إلى كرسي الحكم. وقد لعبوا جيدا على وتر شعار الثورة: (عيش، حرية، كرامة اجتماعية)، لاستقطاب الناس. لكن الخطة لم تنجح، وانكسرت شوكتهم في مصر. وقد بدأت باقي الدول تستفيق، ومنها ليبيا التي كانوا يجهزون لظهور ما يسمى الجيش الحر على أراضيها. وما كان لمصر أن تقف متفرجة وتترك هذا الاختراق لأمنها، فأصبح لنا آذان هناك، بل وأياد للدفاع عن أنفسنا، وستكون مصر هي الصخرة التي ينكسر عندها الإخوان. ولأن مصر هي دولة المنشأ ودولة المرشد، فإذا انحسر الإخوان فيها وهزموا بالضربة القاضية، فإنهم سينحسرون في ليبيا والسودان وباقي الدول».
وتعليقا على الأرقام المعلنة لأعداد التنظيمات الإرهابية في المنطقة العربية، قالت إيمان رجب، الخبيرة في الجماعات المسلحة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه من الصعب تقدير عدد التنظيمات الإرهابية على مستوى العالم، أو حتى على مستوى دول الربيع العربي، لأن الأرقام المعلنة في هذا الموضوع تعد بيانات مضللة، خاصة أن هناك نوعين من التنظيمات الإرهابية: الأول محدد القيادة والهيكل كتنظيم القاعدة، وداعش، والنصرة، والتنظيم المحلي للقاعدة في دول المغرب العربي. والثاني، عبارة عن تنظيمات بلا قيادة، وتشمل تنظيم إرهاب الفرد الواحد، أو قد يأخذ شكل الخلية التي لا يتجاوز عدد أعضائها ثلاثة أعضاء أو خمسة. وهي عادة بلا هيكل ولا قائد. وهذا النوع من التنظيمات يصعب تحديد ملامحه بدقة. ومن ثم فإن أي أرقام ترد بشأن التنظيمات الإرهابية إنما هي جزء من الصورة فقط ولا تعبر عن الظاهرة ككل.
وأضافت أن ثورات الربيع العربي ساهمت في ظهور تنظيمات إرهابية جديدة شديدة التعقيد ومتعددة الأبعاد، إلا أن بعضها كان موجودا قبل الثورات، كما في اليمن، لأسباب خاصة بالبلد نفسه، حيث ظهرت التنظيمات المحلية للقاعدة في اليمن، قبل أحداث الربيع العربي، بالإضافة إلى وجود الحوثيين. وهناك تنظيمات إرهابية ظهرت لأسباب خاصة بالإحباط من الواقع السياسي أو الاجتماعي، كما في مصر وتونس. ويعود ظهورها إلى تراجع هيبة الدولة، وضعف المؤسسات الأمنية، وخروج بعض المساجين الأمنيين أثناء الثورات.
أما في ليبيا، فالحالة ترتبط بحدوث انفلات أمني نتيجة لسقوط رأس النظام، وظهور حالة اللادولة.
وتحذر الباحثة إيمان رجب من الثورة الإلكترونية، ودور وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار المد الإرهابي الفردي بلا قيادة، بعد أن أصبح من السهل على أي مجموعة أو حتى فرد، أن يتعلم كيف يصنع قنبلة من خلال الإنترنت. وتقول: «لذلك نجد أن كثيرا من العمليات الإرهابية يجري بقنابل بدائية الصنع، مع استثناء الحالة الليبية التي تستخدم فيها أسلحة متقدمة. وتزداد خطورة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي مع تزايد جاذبية الأفكار الإرهابية للمتعلمين والمنتمين إلى الطبقات الوسطى، حيث لم تعد قاصرة على المهمشين والبسطاء». كما حذرت من تداخل الإرهاب مع الجريمة المنظمة بتعاون الإرهابيين مع تجار السلاح والمخدرات، في إطار تبادل المصالح. وهذا ما يزيد الظاهرة تعقيدا، ويجعل المعالجة الأمنية لانتشار التنظيمات المسلحة في العالم غير كافية وحدها.
وقال الدكتور حميد الهاشمي، الباحث العراقي في علم الاجتماع بالمركز الوطني للبحث الاجتماعي في لندن، لـ«الشرق الأوسط»، إن غياب الأمن وخاصة ذلك المرتبط بسلطة القانون، وانتشار السلاح يعدان أبرز سببين لانتشار الفوضى وما ينتج عنها من عنف؛ فغياب القانون يدفع الناس إلى الاحتكام إلى السلاح لحل خصوماتهم، فضلا عن اعتداء الذين لا يجدون رادعا لوقف تجاوزاتهم وأطماعهم في سلب غيرهم، أو البلطجة عليهم. وإن الطبيعة الديكتاتورية للأنظمة السابقة قد خلقت نوعا من انفصام العلاقة بين المواطن والدولة، على اعتبار أن ثمة ربطا تقليديا في الذهنية البسيطة، بين الحكومة والدولة. وبالتالي تجسد ذلك في الاعتداء على الممتلكات العامة، وفرض وجود تلك الجماعات بالقوة. وتبدى للمتابع أن هناك جماعات متعطشة للعنف وكأنها مارد خرج من قمقم. وقال: «لقد تجلى نوعان من الجماعات المسلحة التي ظهرت في أعقاب ثورات الربيع العربي، هما: الجماعات الدينية في كل حالات بلدان الربيع العربي، والميليشيات القبلية في النموذج الليبي خاصة، وأحيانا في اليمن. ووفقا لهذا التقسيم، فهناك نوعان من ادعاء الحق أو ادعاء الشرعية لدى هذين النوعين من الجماعات المسلحة (الدينية والقبلية)؛ فالدينية تدعي الشرعية الإلهية، في حين تدعي الجماعات القبلية (الشرعية الثورية). فهي التي قاتلت الديكتاتور وأسقطته، وبالتالي لا تتصور أن يجري التخلي عنها بهذه الكيفية. فهي لا ترضى الاندماج بالأجهزة الأمنية، ولا أن تحل نفسها وتعود إلى الحياة المدنية التي كانت عليها في السابق. أصبحت لديها حالة من التعايش مع السلاح، والشعور بالقوة المادية والمعنوية. إنه شعور بنشوة الانتصار الذي لا يريد أن يفارقهم». وأضاف أن هوية الجماعات الدينية وآيديولوجيتها واضحة. وهي السعي إلى مسك السلطة وفرض رؤيتها على المجتمع. في حين أن مطالب الجماعات أو الميليشيات القبلية قد تمتد إلى مديات أوسع، تحت لافتة الجهوية (المدينة أو البلدة التي تنحدر منها)، التي هي في واقع الحال قبلية، لأن المدن في هذا النموذج (الليبي خاصة)، تمثل بنى قبلية منسجمة، أي تجد مدينة تحمل اسم قبيلة معينة، ويحمل مسلحوها لافتة (ثوار تلك المدينة)، مثل ثوار الزنتان. إن هذه الصيغ من استمرار مسك السلاح والتمرد على سلطة الدولة، هي نوع من تشظي الهوية والانقسام المجتمعي. فالجماعات القبلية هذه تعبر عن هويات فرعية، وتسعى لفرض مكاسب أبعد من أن تفسر على أنها مغانم فردية يبحث عنها محاربون. وكذا الجماعات الإسلامية السلفية خاصة، تشعر باغتراب ونوع من العزلة المجتمعية إزاء منهجها العنفي، وتجد أن الحل في استمرار مسك السلاح وفرض الأمر الواقع.
بالمقابل، لا يمكننا أن نتجاوز عوامل قلة التعليم في مجتمعاتنا، والظروف الاقتصادية الصعبة في غالبية بلدان الربيع العربي، وضعف تقاليد الديمقراطية التي تحتاج إلى وقت ومراحل حتى يجري تعلمها والتدرب عليها، ومن ثم هضمها وتمثيلها، لنشهد ثمار التحول. كل هذا، إلى جانب ما سبق، يمكن أن يفسر لنا هذا الانفلات. وحسبنا أن نصف المرحلة بأنها «انتقالية»، وهي حتمية، سواء طالت أم قصرت. وكلاهما، طول أمدها وكذلك قصرها، يتناسب طرديا مع عوامل الانقسام المجتمعي، والمرحلة الديكتاتورية السابقة، وثمن التغيير، أي كلما كان باهظا، طال أمد المرحلة الانتقالية.
في تونس، قال الخبير الأمني والاستراتيجي الدكتور مازن الشريف لـ«الشرق الأوسط»، إن الربيع العربي - إن جازت العبارة بعد كل الموت الذي حط على المنطقة - كان فيه من باب التحقق، ملامسة لأحلام الشعوب العربية. بمعنى أن الثورة التونسية، كانت تحقق حلم الحرية والكرامة من منظور الشعوب العربية وحتى شعوب العالم. وهو بريق سرعان ما أرادت شعوب كثيرة النسج على منواله، لكن تداعي الأنظمة وقيام ثورات أخرى لم يكن عفويا ولا بريئا في معظمه. وكان هناك من استثمر في الثورات بشكل أو بآخر، كل في غاية يقصدها ومطلب يريده. والجماعات المسلحة والإرهابية طرف أساسي ضمن الأطراف المستفيدة من فوضى ما بعد الربيع، ليكونوا علامات على رياح الخريف العاتية. صحيح أن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، كان له نشاط من قبل، وسبقته جماعات مسلحة ضربت بقوة في الجزائر طيلة عقد من الزمن، وفي الصومال، وأرجاء من أفريقيا، وكذا في العراق وخاصة مجموعة الزرقاوي. لكن التطور الذي أعقب الثورات جاء تطورا نوعيا ملحوظا، ينقسم في اعتقادي إلى مناطق ذروة، هي سوريا والعراق، ممثلة بالأساس في «داعش» و«جبهة النصر»، وليبيا مع امتداد إلى مالي ونيجيريا وأفريقيا الوسطى، ثم تونس عبر تنظيم أنصار الشريعة، وتنسيق مع مختار بن مختار في الجزائر وتنظيم «المرابطون»، وتنظيم القاعدة في سيناء الذي تطور إلى «دالم»، أو دولة الإسلام في ليبيا ومصر. وأضاف الشريف أن تونس كانت بداية الربيع، لكن سرعان ما أدى الفشل السياسي للحكومات المتعاقبة، والعمى الاستراتيجي، وحالات الانفلات، إلى تطور المجموعات المسلحة وتهريب كميات كبيرة من الأسلحة من ليبيا، والقيام بعمليات نوعية غير مسبوقة، مثل اغتيال السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وذبح الجنود في الشعانبي، وعمليات الروحية وقبلاط وعلي بن عون وسوسة وغيرها. إن هذا الانتشار لم يكن عبثيا، بل رصدنا وجود تنسيق وتنظيم خاضع للجيوستراتيجيا. وكمختص في الاستشراف، أعتقد أنه سيزداد انتظاما وتنسيقا ويوسع من عملياته ومن تفاعله مع بعضه، وهو ينطوي على خطورة شديدة، ومثال ذلك، إعلان درنة الليبية إمارة إسلامية. وهنالك معلومات عن وجود كل من أبو عياض، زعيم تنظيم أنصار الشريعة في تونس، ومختار بن مختار زعيم تنظيم المرابطين، القادم من الجزائر بعد فشل عملية عين أميناس، أو الهارب من مالي بعد الضربات القوية ضد تنظيمه. وعن رأيه في الظاهرة في اليمن بوصفه من دول الربيع العربي، قال الكاتب السياسي اليمني محسن فضل، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن العنف موجود قبل الربيع العربي، إلا أنه زاد، بنسب كبيرة، بعد اندلاع ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011. وقد ظهر تحديدا علی الساحة العربية بشكل أقوی، مما كان عليه سابقا. وسبب ذلك هو أن الربيع العربي أوجد لدی جماعات العنف، منذ بدايته، حالة من الأريحية، فبدأت هذه الجماعات في تنظيم نفسها والعمل علی أن يكون لها دور في المستقبل. إضافة إلی طول عمر بعض ثورات الربيع العربي، وتحولها إلی حالة من حالات الحرب، الأمر الذي جعل جماعات العنف تنخرط فيه لعدد من الأسباب، إما باسم الجهاد والدفاع عن العقيدة أو من أجل التخلص من أنظمة موالية للغرب «الكافر»، حسب تلك الجماعات، أو للسببين معا، سوريا مثالا. كما أن التدخل الخارجي في التحولات الجارية في دول الربيع العربي لم يوجد بدوره نوعا من التوازن الحقيقي بين الأطراف المتصارعة في كل بلد منها، مما ولد العنف وزاد من حدته.
الأهم باعتقادي هو أن ثورات الربيع العربي لم تحقق لشعوبها، حتى اليوم، نوعا من الاستقرار السياسي الحقيقي، مما أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية بشكل عام، وساعد الجماعات المتطرفة على ممارسة أنشطتها بشكل طبيعي بعيدا عن الخوف والتستر.
وتعليقا على ذلك، قالت الدكتورة هناء عبد الرحمن البيضاني، أستاذ العلوم السياسية وابنة السياسي اليمني المعروف، في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إنه مع سوء الأحوال المعيشية، وضعف الإيرادات، وسوء الأوضاع عموما، انتشرت الاحتجاجات بهذه السرعة الكبيرة في أغلب البلدان العربية، وكانت نتيجة حتمية للضغوط التي يتعرض لها الأفراد. ومن ثم كانت بدايات الربيع العربي التي اشتعلت ولا تريد الانطفاء حتى الآن. لكن علينا أن ندرك جيدا أن ثمن زعزعة الاستقرار باهظ التكلفة. وقد دفعت الشعوب العربية هذه الضريبة القاسية، وما زالت تدفعها من لحمها الحي بعد الثورات المتعددة، وفي الحالات التي انتشر فيها استخدام العنف المسلح. لكن يبقى التساؤل مطروحا: ما الذي يمكن أن يحدث عقب هذه الثورات؟ غالبا ما سنجد شيئا طبيعيا من الفوضى الاجتماعية على نطاق واسع، يصعب التنبؤ بفترة بقائه؛ لأنه غالبا ما يعتمد على الظروف المحلية، جنبا إلى جنب مع الاعتبارات الإقليمية والدولية. وبهذا يكون ما يحدث من عنف الآن شيئا متوقعا؛ لأن ثورات الربيع العربي لا تختلف نتائجها الحتمية عن السياق الآيديولوجي لنتائج الثورات الأخرى في أدبيات العلوم السياسية؛ فإذا أضفنا إلى ذلك عدم وجود قائد أو زعيم، فسنجد عدم الاستقرار والاضطراب وإشاعة الفوضى والقلاقل.
وأضافت البيضاني أن الحالة اليمنية مختلفة شيئا ما عن غيرها، فكل ثورة مهما تشابهت بعض نتائجها وأحداثها مع غيرها، تبقى لها خصوصيتها لجهة مضمونها وشكلها. فلا يمكن أن نضع كل الثورات في قالب واحد؛ فاليمن دولة تعاني من مشكلات البطالة، كما ظهر فيها تصدع جديد، وتأزم الموقف بين السنة والشيعة حتى أوشك على الانفجار. فالحوثيون مثلا، أحد أبرز مشكلات اليمن الحقيقية، لأنهم يقومون بالتصعيد سياسيا وعسكريا، ولديهم مشروع مرسوم من إيران، يريدون تنفيذه من خلال استغلال الأزمة السياسية وضعف أجهزة الدولة. ولذلك يقومون بتصعيد الأوضاع الأمنية والسياسية بقرية دماج شمال اليمن، بمحاولة السيطرة عليها بشكل كامل، ومواجهة القوى الأخرى كقبائل حاشد، وإفشال أي محاولة للاتفاق على بسط سيطرة الدولة ووقف أعمال العنف. وامتلاك هذه الجماعة للأسلحة يساعدها على مواجهة جميع القوى في المنطقة، وهو أمر خطير جدا يظهر مدى الدعم الذي تتلقاه هذه الجماعة من إيران وحلفائها. وفي الجانب الآخر، هناك حراك جنوبي يحاول أن يستفيد من الأزمة السياسية والأمنية لإعادة توازن العلاقة مع الشمال. ومن ثم، فأنا أرى أن تهميش الجنوب وعدم المساواة بينه وبين أبناء الشمال، هو الأساس في المشكلة الجنوبية، مما أدي إلى ارتفاع أصوات متطرفة كثيرة - إن لم تكن غالبة - تنادي بالانفصال، علما بأن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وهو من محافظة أبين الجنوبية، كان قد حسم الجدل حول شكل الدولة الاتحادية المنتظرة، معلنا المضي نحو دولة اتحادية متعددة الأقاليم، والبعد عن المركزية، وطرحه الحوار الوطني.
من ناحية أخرى، نجد ضمن المشكلات الكبيرة في اليمن وجودا لـ«القاعدة»، إذ يبدو حضورها وقوتها في اليمن ظاهرين ومتبديين في هجماتها، حيث يعد اليمن بالنسبة لها من أكبر مراكز حضورها في المنطقة. وهي تتواجه مع الدولة اليمنية، التي تتلقى مساعدة لمواجهة هذه المنظمة الإرهابية من دول عدة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. ومن هنا فإن عدم الاستقرار السياسي والأمني في اليمن يساعد «القاعدة» على البقاء وجذب من يؤمن بفكرها، ولذلك أصبحت أحد عوامل عدم الاستقرار في اليمن. وحول الحالة الليبية قال المفكر الليبي الدكتور إبراهيم قويدر، خبير الاجتماع السياسي والرئيس الأسبق لمنظمة العمل العربية، لـ«الشرق الأوسط»: «إن تسمية الربيع العربي التي تطلق على انتفاضات الشعوب العربية ضد معاناتهم من الظلم والفقر والعوز وكرامة الإنسان وحقوقه، لم يطلقه أصحاب هذه الانتفاضات، بل سميت نيابة عنهم لتزيين فعلهم بأنه سيكون الربيع الذي سيسعد فيه الإنسان العربي في هذه الأقطار. وكما سمي لهم هذا الاسم، سعى من سموه أو ساهموا في تسميته للتدخل في هذه الانتفاضات الشعبية، وتحويل مسارها وفقا لما يرغبونه لها من توجهات تسهم في تحقيق أغراضهم هم أولا، ومن ثم تكييف ما تبقى لتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها هذه الانتفاضات. الثورات العربية، أو الانتفاضات، في بداياتها، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وكذلك في أيامها الأولى وأسابيعها، بل وحتى أشهرها الأولى، كانت، في بعض البلدان، صادقة المشاعر، وطنية التوجه، تسعى إلى الخير والإصلاح وتغيير مسار الحكم الظالم، إلى مسار يحقق للإنسان العربي ما سبق لي الإشارة إليه. لكن العنف المفرط الذي واجهت به الأنظمة هذه المظاهرات والانتفاضات السلمية، خاصة في ليبيا وسوريا، حولتها إلى حرب ما بين شباب هذه الثورات والأنظمة الحاكمة. هذه الحرب كانت فرصة سانحة وجيدة وأرضا خصبة لدخول التنظيمات المسلحة، بدعوى دعم الثوار ضد هذا الظلم والطاغوت القذافي في ليبيا والأسد في سوريا. ورحب الشباب الثوري وبحسن نية، في البداية، بهذا العون. وكان في ليبيا أن سقط النظام القمعي وانتصر الشباب، وشهد لهؤلاء المسلحين ببلائهم الجيد أثناء المعارك، وأنهم كانوا من الأسباب الرئيسة لانتصارهم ضد القذافي وكتائبه. لكن مع مرور الوقت، اتضح أن لهؤلاء أجندات أخرى مرتبطة بأجندات خارجية تدعمها دول وتنظيمات. أفاق الشباب والشعب الليبي، وبدأوا معركة أخرى لتحرير أنفسهم وبلادهم من مئات الطغاة الإرهابيين، وحتما سينتصرون في ذلك، رغم صعوبة العملية. بالتالي، لا يمكن لنا أن نقول إن الثورات العربية الشعبية هي التي صنعت هذه المجموعات الإرهابية المسلحة، ولكنهم هم الذين انتهزوا فرصة حاجة هذه الشعوب للتصدي للاستعمال المفرط للقوة من قبل الأنظمة السابقة، فدخلوا بثقلهم في صورة العون والمساعدة وتحولوا إلى أصحاب أطماع في التسلط والسيطرة».
وحول مستقبل هذه الحركات المسلحة داخل بلدان الربيع العربي، يقول مصطفى زهران، الباحث في شؤون حركات الإسلام السياسي والخبير بمركز «سيتا» للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن ثورات الربيع العربي كانت تمثل، بلا شك، أفولا قاعديا وانحسارا للقوى الراديكالية في المنطقة، خاصة بعد التحولات الكبيرة والعميقة في بنى قوى الإسلام السياسي وهياكلها، خاصة السلفية منها. ولا يعني ذلك أنه في مقابل تمدد قوى الإسلام السياسي وتصدرها للمشهد، أن القوى الراديكالية الأخرى اندثرت أو انتهت، أو في طريقها للزوال. إنما كانت تتحين الفرصة للانقضاض على مشروعيهما «المشروع الإسلامي الوليد»، و«مشروع الدولة والنظام القائم». بيد أن تعثر الإسلام السياسي، ومن ثم الإطاحة به في مصر على وجه الخصوص، كان عاملا رئيسا في بعث الحالة الراديكالية من جديد، في المشهدين السياسي والاجتماعي، خاصة بعد انضمام عناصر جديدة من داخل الحركة الإسلامية التقليدية، إلى الأخرى الراديكالية، نتيجة تصاعد روح المظلومية مجددا بين أبناء الحركة الإسلامية، لما باتوا ينظرون إليه من أحداث الثالث من يوليو (تموز) على أنه انقلاب على رئيس شرعي. تمخض المشهد عن جماعات عنف، مثل أنصار بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، وأنصار الشريعة، لتضعنا على بدايات مرحلة جديدة مع الحالة الراديكالية «قاعدية» برداء التسعينات. وعندما يتسع الطوق ويجري الحديث عن المشهد السوري، نجد أن المذهبية لعبت دورا رئيسا في تزكية الاقتتال الطائفي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال دور «حزب الله» وإيران في إشعال نار الفتنة.
كل هذه العوامل دفعت نحو مزيد من الوجوه الراديكالية في المنطقتين العربية والإسلامية. وفي ظني أن الحل الأمني وحده ليس كافيا، بل من الأهمية بمكان إعادة النظر في إقصاء تيارات الإسلام السياسي عن المشهد المصري، ولزوم دمجه مرة أخرى لكي تتوحد الرؤية في التعامل الاستئصالي مع جماعات العنف. ومطارحة الفكر ومجابهته بالفكر وليس من خلال القنوات الأمنية وحسب. ولا يعني هذا انتفاء التعامل الأمني، إنما تنظيمه ووضعه في إطار القانون بلا إفراط أو تفريط. ورغم كل هذه التحليلات، فإن رئيس هيئة البحوث العسكرية الأسبق اللواء محمود خلف، الخبير الاستراتيجي في أكاديمية ناصر العسكرية، يرى شيئا آخر؛ فقد أكد لـ«الشرق الأوسط» أن كل ما يتردد عن تلك التنظيمات الإرهابية لا وجود له على أرض الواقع، وأنه لا يوجد تنظيم إرهابي سوى الإخوان المسلمين، وفيما عدا ذلك توجد خلايا أو أفراد. وقال: «أراهن أن ما يطلق عليه (القاعدة) ليس له وجود، وكل ما يطرح من أسماء لتنظيمات إرهابية هي غير موجودة، وإنما يثار فقط للتخويف وإرهاب الناس. وحتى ما يثار على الحدود الليبية يرجع في حقيقته إلى ظاهرة تهريب السلاح، وهي عمليات يجري قصفها». وأضاف أن إطلاق «الربيع العربي» على ما حدث ليس صحيحا، لأنه لم يكن سوى مؤامرة كاملة الأوصاف في إطار نظرية الفوضى الخلاقة التي دعت إليها رايس باستغلال عدم ثبات بعض الأنظمة في المنطقة، ومنها مصر. ولكن في كل الأحوال، فإن الفوضى لا يمكن أن تخلق إلا الفوضى، والواقع في الدول العربية يؤكد ذلك. لكن وضع مصر مختلف، باعتبارها صاحبة أقدم نظام دولة وأقدم جيش، ولهذا كانت متفردة ومتميزة في مواجهة الأمر، بدليل مضيها قدما وعدم تعطلها في خطة الطريق، رغم كل محاولات الإخوان الإرهابيين. إن ما يفعلونه هو مجرد طبل أجوف.



«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.