«أتعهد بأن أكون خادماً، لشعب زيمبابوي، وتوحيد الجميع، وجعل البلاد أمة أفضل للاستثمارات والمستثمرين، وضمان تنميتها، وتحسين الشراكة مع الدول الأخرى، بارك الله زيمبابوي».
هكذا كتب، إيمرسون منانغاغوا، الذي أنهى قبل ساعات من حفل تنصيبه رئيساً جديداً لزيمبابوي بعد الإطاحة بالرئيس «التسعيني» روبرت موغابي على حسابه الرسمي على موقع «تويتر» للتواصل الاجتماعي.
«أنا الرئيس» عبارة كانت مكتوبة على كوب حمله إيمرسون دامبودزو منانغاغوا (75 سنة) في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي في مطلع العام الحالي، وظهرت في صورة.
تلك الصورة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، آنذاك، وتسببت في جدل بينه وبين وزراء حكوميين آخرين. لكنها كشفت في الأساس عن طموح لا يتوقف، لدى رجل اختبر تقريباً كل الوظائف الرسمية العليا في زيمبابوي، ما عدا منصب الرئيس...
حين التقى منانغاغوا الرئيس الاستقلالي روبرت موغابي، قبل أربعة عقود على الأقل، أصبح مساعده الشخصي وحارسه، وذلك بعدما نال ثقة الرئيس، وشقّ من ثم طريقه صعوداً في مواقع السلطة. وهكذا يشغل مناصب وزير العدل والدفاع، ووزير الإسكان، ورئيس البرلمان، ورئيس المخابرات من بين مناصب أخرى.
دهاليز السياسة
إلا أن منانغاغوا، الرجل المحنك في دهاليز السياسة، كان يعرف جيداً كيف يتلاعب بخصومه، فقلب المائدة على الجميع، بعدما اتهم أشخاصاً داخل حزب «زانو – بي إف» الحاكم بالسعي إلى «دق إسفين» وإحداث حالة من التوتر بينه وبين رئيسه. وقال متهماً خصومه إنه «يجري التعامل معهم وإدارتهم من أماكن أخرى من قِبل قوات معادية... هذه العناصر ضد الرئيس، ضد الحزب وقيادته، وفي حالات أخرى، لديهم تاريخ من انعدام الولاء للرئيس». واختار منانغاغوا، دائماً، كلماته بعناية وهو يقول: «من غير المعقول أن ندعم أو نتصرف باسم الحزب في حين نهاجم في الوقت نفسه الرئيس موغابي، زعيم حزبنا بلا منازع».
لكن الأمور تتبدل، على الدوام، وحقاً بعد عودته من منفاه الاختياري، قال منانغاغوا: إن «إرادة الشعب تنجح دائماً». وفي أول ظهور علني له منذ فراره من البلاد بعد فصله من منصبه، اعتبر أن زيمبابوي تشهد بداية ديمقراطية جديدة، وقال لمئات من المؤيدين: إن «صوت الشعب هو صوت الله».
سيرة ذاتية
ولد إيمرسون منانغاغوا في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) عام 1942 في مدينة زفيشافاني (شاباني سابقاً) الصغيرة بجنوب مستعمرة روديسيا الجنوبية، التي أصبحت زيمبابوي، لكن أسرته انتقلت عام 1955 إلى مستعمرة روديسيا الشمالية، جمهورية زامبيا الحالية، وفيها تلقى تعليمه، وساعد في قيادة حرب الاستقلال في زيمبابوي عام 1970.
أسرة منانغاغوا تنتمي إلى قبيلة الكارانغا، وهي إحدى قبائل شعب الشونا، التي يشكل الغالبية الكبرى من سكان زيمبابوي، ونشأ إيمرسون وسط أفرادها الستة في بيئة مسيسة. وباشر نشاطه السياسي باكراً، بعد انضمامه إلى حزب الاستقلال الوطني المتحد. وعام 1960 عرّضه نشاطه السياسي لطرده من الكلية التقنية التي التحق بها بعدما اتهم بحرق بعض الممتلكات. لكنه فيما بعد درس الحقوق للحصول على شهادة جامعية للدراسة عن بعد من جامعة لندن، لكنه بعدما تعطلت دراسته بسبب سجنه نال عام 1974 الإجازة في الحقوق من جامعة زامبيا في العاصمة الزامبية لوساكا، وبعد دراسات متقدمة تأهل للترافع في محكمة زامبيا العليا عام 1976.
أما على الصعيد الشخصي، فإنه متزوج من أوكسيليا، وهي نائب في البرلمان وخلفته لشغل مقعده النيابي. وهي زوجته الثالثة، لكنها لم تظهر إلا بعد وفاة زوجته الثانية جين. ولديه خمسة أبناء.
العسكر... والسياسة
في أعقاب تلقي منانغاغوا تدريبات عسكرية في مصر والصين، ساعد مباشرة في معارك حرب «التحرير» قبيل الاستقلال عام 1980، وأمضى وقتاً في السجن، حيث يُزعم أنه تعرض للتعذيب.
وما يذكر أنه قتل الآلاف في الصراعات الدامية وأثناء وبعد الاستقلال. وكان له دور بارز في تلك الصراعات عندما كان وزيراً للأمن القومي، إلا أنه ينفي تماماً ضلوعه في أي سفك للدماء.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قاد جهاز الأمن خلال الحرب الأهلية عام 1980، ثم عين وزيراً للأمن الوطني في بداية مسيرته في عالم السياسة. غير أن فيكتور ماتيماداندا، الأمين العام لجمعية قدامى حرب تحرير زيمبابوي، الذي عمل معه في الجيش، يصفه بعبارة موحية جدأ «لقد ولد في السياسة».
وبالفعل، بعدها تولى منانغاغوا حقيبة العدل عام 1988 وترأس البرلمان من 2000 حتى عام 2005، وما بين عامي 2005 و2009، تولى منصب وزير الإسكان، قبل أن يعهد إليه بمنصب وزير الدفاع بين عامي 2009 و2013 بعد فترة وجيزة أمضاها وزيراً للمالية. وبصفته وزير سابق للدفاع والأمن القومي، لعب منانغاغوا دور «حلقة وصل» رئيسية بين الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية ووكالات الاستخبارات في زيمبابوي، وكان أيضاً رئيس قيادة العمليات المشتركة المكلفة بحفظ الأمن في البلاد. كذلك، كان من المقربين لموغابي – الذي ينتمي مثله إلى غالبية الشونا – على مدى عقود؛ ولذا اتهم بالمشاركة في القمع الذي تعرض له كل من عارض الرئيس.
من ناحية أخرى، فإن التناوب على رأس السلطة «لا يعني بالضرورة مزيداً من الديمقراطية»، كما يقول المحلل رينالدو ديبانيو من «مجموعة الأزمات الدولية للدراسات والبحوث». بينما يعرب رجل الأعمال الزيمبابوي مونيإرادزي شيوتا (40 سنة) عن قلقه قائلاً: «أشكك في أن نحرز تقدماً، طالما أن عناصر من الحزب الحاكم، ما زالوا في السلطة».
ويتعين أن تجرى الانتخابات المقبلة في زيمبابوي قبل 22 أغسطس (آب) 2018 بفترة لا تزيد على 30 يوماً، إلا إذا قرر البرلمان حل نفسه وهو ما قد يؤدي إلى إجراء انتخابات مبكرة وفقاً للدستور. وفي شهر يوليو (تموز) الماضي، أعلنت هيئة الانتخابات في زيمبابوي أنها تحتاج إلى 274 مليون دولار لتمويل الانتخابات البرلمانية والرئاسية العام المقبل.
وراهناً، تعاني زيمبابوي نقصاً شديداً في السيولة، وبخاصة أن حكم موغابي واجه صعوبات في دفع أجور العاملين في مواعيدها في حين لا تجد الكثير من الشركات مالاً لتمويل ما تحتاج إليه من واردات. وبناءً عليه، سيكون على رأس مهام الرئيس الجديد إنعاش الاقتصاد المتدهور حيث يعاني 90 في المائة من الناس البطالة.
مسلسل الأحداث الأخيرة
قبل 16 يوماً بالضبط، هكذا قال منانغاغوا، تلقى رسالة تخبره بأنه عُزل من منصبه: «وفي غضون ساعتين أُبلغت عن خطط للقضاء عليّ». ومحاطاً بنحو عشرة من حراسه الشخصيين، ذكر أنه ما زال يجري تقييم سلامته وأمنه، مضيفاً: «نشهد اليوم بداية ديمقراطية جديدة تتكشف»، من دون أن ينسى توجيه الشكر للجيش لما قام به من عمل لمساعدة شعب زيمبابوي في التخلص من موغابي (93 سنة) بعد حكم استمر 37 بلا انقطاع، وقال إنه كان على اتصال دائم بالجنرالات العسكريين.
من جهة ثانية، تجنب منانغاغوا في كلمته الإشارة إلى الانتخابات المقرر إجراؤها في العام المقبل، لكن خطابه بدا كما لو أنه يدشن حملته الانتخابية بالفعل؛ إذ وعد بتحقيق الرخاء والاستقرار للبلد الفقير. وقال مخاطباً الشعب «أتعهد بأن أكون خادماً لبلدنا... نريد أن ينمو الاقتصاد. ونحن نريد السلام في بلادنا، نريد الوظائف»... وهي عبارة كررها ثلاث مرات وسط صيحات مؤيديه الذين رفع بعضهم صور تمساح، وهو لقبه.
بدأ العد العكسي لعملية التغيير في زيمبابوي في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، عندما أعلن وزير الإعلام الزيمبابوي عن إقصاء إيمرسون منانغاغوا من منصبه نائباً للرئيس؛ لأنه «أظهر صفات عدم الولاء والخداع وعدم الاحترام».
عند هذا المفصل أدرك المتابعون أن مَن كان يُنظَر إليه على أنه أحد أركان النظام، خسر أخيراً حظوته لدى موغابي؛ لأنه كان يقطع الطريق أمام زوجته لخلافته، مع أن الأخيرة لم تكن تحظى بشعبية تذكر. أما موغابي، المخطط البارع، فأخفق هذه المرة في احتساب خطوته، وبإقدامه على عزل نائبه تسبب في سقوط نظامه في نهاية المطاف.
لقد كان واضحاً قبل هذه التطورات الأخيرة، أن المنافسة على خلافة موغابي المحصورة بين غريس ماروفو (المولودة عام 1965) زوجة الرئيس ونائب الرئيس، قد وصلت إلى الذروة. ونجحت غريس مؤقتاً عندما تمكنت من إقناع زوجها بإقالة منانغاغوا... لكن كما سار مسلسل الأحداث، كلّف هذا القرار موغابي نظامه وحكمه، وأفقده السلطة إلى الأبد.
انقلاب ناعم
أغضبت هذه الخطوة قادة الجيش، الذين تدخلوا ووضعوا موغابي تحت الإقامة الجبرية، وسرعان ما تحرك الجيش على نحو مفاجئ في انقلاب عسكري ناعم، هو الأول من نوعه ضد موغابي منذ شارك في قيادة زيمبابوي (روديسيا الجنوبية سابقاً) نحو الاستقلال مع رفيقه السابق جوشوا نكومو.
المشهد بدا كما لو أنه كما لو كان انقلاباً قام به حلفاء نائب الرئيس من العسكريين، لكن الذين راقبوا حياة منانغاغوا السياسية وصعوده إلى السلطة يقولون إنه يتقاسم مع موغابي الكثير من الصفات، ومنها أنه متعطش للسلطة، وميال إلى القمع.
في صباح الخامس عشر من الشهر الحالي، حاصرت عربات مدرعة مقر إقامة الرئيس موغابي ومبنى البرلمان في العاصمة هراري، بينما حامت طائرات هليكوبتر فوق المدينة، بالتزامن مع إعلان الجيش سيطرته على جميع مؤسسات الحكومة واعتقال عدد من الوزراء وبعض مسؤولي الحزب الحاكم.
وفي حين اختفت الشرطة من الشوارع، بعد سيطرة الجنود على حركة المرور، وأحياناً كانوا يكتفون بسؤال العامة عن هويتهم، زاول المواطنون الزيمبابويون حياتهم العادية اليومية بصورة طبيعية... وكأن شيئاً لم يكن.
كان تدبير الأمر مُحكماً؛ إذ جرى عزل أفراد تابعين لإدارة الرئيس من مكتب المغادرة في مطار موغابي الدولي، الذي أطلق عليه هذا الاسم قبل فترة قصيرة، وعُيّن جنود آخرون بدلاً منهم. وبعدها، قبل أن يظهر سيبوسيسو مويو، رئيس هيئة أركان جيش زيمبابوي الوطني، على التلفزيون ليقول: «إننا نستهدف فقط المجرمين المحيطين بموغابي، والذين يرتكبون جرائم تسبب معاناة اجتماعية واقتصادية في البلاد من أجل تقديمهم للعدالة».
وحين سيطر الجيش على الأمور، وبدأت المطالب تتصاعد بضرورة تنحي الرئيس، خرج منانغاغوا عن صمته للمطالبة هو أيضاً بإقالة الرجل الذي حكم البلاد بقبضة من حديد قرابة أربعة عقود من الزمن.
لقد بدا أن ما حصل أُعِدّ له سلفاً وبعناية، وبخاصة بعدما أعلن جنرالات الجيش أن منانغاغوا، نائب الرئيس المعزول، وافق على العودة إلى البلاد كجزء من «خريطة طريق» انتقالية، علماً بأنه كان قد فرّ إلى خارج البلاد عندما علم بوجود مؤامرة لقتله، وقال إنه لن يعود حتى يتأكد من ضمان سلامته وأمنه. وحول هذا الجانب أضاف في بيان «قلت للرئيس إنني لن أعود إلى الوطن حتى أتأكد من ضمان أمني الشخصي، بسبب الأسلوب والمعاملة التي تعرضت لها عند إقالتي».
وفي هذا السياق، اتهم منانغاغوا موغابي بمحاولة قتله؛ إذ قال إن حراسه حذّروه من خطط «لتصفيته» في أعقاب إقالته في مطلع هذا الشهر؛ ولذا هرب فوراً إلى جنوب أفريقيا. كذلك، اتهم موغابي بالسماح لزوجته بـ«استلاب سلطات دستورية» منه، مشدداً على ضرورة أن يصغي إلى «نداء شعبه القوي» ويتنحى عن السلطة.
إقالة منانغاغوا، اعتبرها كثيرون تمهيداً للطريق أمام زوجة الرئيس لخلافته في قيادة البلاد، ولا سيما أنه كان يُنظر إليه لسنوات كثيرة قبل صعود نجم غريس، على أنه من سيخلف موغابي في سدة الحكم. ولكن، بتأثير من الضغط المشترك للجيش الذي سيطر على البلاد والشارع وحزب «زانو – بي إف» الحاكم، اضطر الرئيس العجوز المتشبث بالحكم، إلى الاستسلام والتخلي عن زمام الحكم؛ ما أثار فرحاً عارماً في أوساط الشعب ليحل محل الكآبة التي سببتها الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ سنوات، وتسلط النظام.
أخيراً، مما يستحق الذكر، أن روبرت موغابي، الذي كان يوم إزاحته أكبر زعماء العالم سناً، والذي حكم زيمبابوي منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1980، كان يسعى لفترة ولاية أخرى مدتها خمس سنوات.