«زبور»... الكتابة كحيلة وحيدة في مواجهة الموت

رواية ثانية لكمال داود الفائز بـ«غونكور» الفرنسية

كمال داود  -  غلاف الرواية
كمال داود - غلاف الرواية
TT

«زبور»... الكتابة كحيلة وحيدة في مواجهة الموت

كمال داود  -  غلاف الرواية
كمال داود - غلاف الرواية

افتتح الموسم الباريسي الأدبي الحالي بثماني روايات من القارة السمراء، منها الرواية الثانية للكاتب الجزائري كمال داود، التي اعتبرها بعض المعلقين في الصحافة الأدبية الحدث الأبرز في هذا الموسم المخصص للأدب الفرانكفوني. وقد حظيت هذه الرواية التي صدرت الشهر الماضي عن دار «أكت سود» في باريس، ودار «برزخ» في الجزائر، و«سيريس» في تونس، باهتمام إعلامي واسع، حتى قبل صدورها، خصوصاً أن الكاتب كان قد نال جائزة «غونكور» للرواية الأولى عن روايته: «مورسو: تحقيق مضاد» (وكنا قد كتبنا عنها في مقال سابق) التي واجه فيها كاتباً آخر، ألبير كامو، الذي نال جائزة نوبل للآداب عن روايته: «الغريب» (l'étranger)، ويتجاهل فيها هوية الضحية الجزائري الذي يقتله أحد المستوطنين الفرنسيين (مورسو) على شاطئ جزائري، ليأتي كمال داود ليعطيه اسماً، وهوية، وينسبه إلى عائلة ويعيد إلى ذهن القارئ الرواية الرائجة بعد أن أوقفها على قدميها. في حين اعتبر آخرون أنه لا يمكن أن نطلق عليها صفة رواية فهي أقرب إلى حكاية.
وجاءت روايته الثانية «زبور أو المزامير» (Zabor ou les psaumes) لتزيد من اهتمام بعض الأوساط الفرنسية بالكاتب الذي يتهم في بلده الجزائر بالإسلاموفوبيا، أو معاداته للدين، رغم أنه نشأ في بيئة دينية محافظة، وبانتقاده للغة العربية التي يعتبرها «حبيسة المقدس»، و«لا تعرف التطور». ولكن داود، وعلى الرغم من كل الانتقادات اللاذعة التي تلاحقه في بلده، من قبل الأوساط الدينية والثقافية، آثر أن يبقى في مدينة وهران ويكتب في صحيفتها «وهران»، بالإضافة إلى مراسلته مجلة «لوبوان» الفرنسية.
في روايته الثانية، بقي داود محافظاً على الأجواء الجزائرية منعكسة في الحياة اليومية لسكان القرى. فبطل الرواية الذي تدور كل الأحداث حوله، يعيش في قرية أبو قير (وهذه تسمية المستعمر الفرنسي السابق لهذه القرية تذكر بمعركة أبو قير في مصر بين البحرية البريطانية وأسطول نابليون، ووصفه لها يشابه القرية التي وُلِد فيها، قرية مسرا القريبة من مستغانم، حيث ولد في عام 1970، ثم انتقل بعدها إلى وهران) على أطراف الصحراء غرب الجزائر. زبور، بطل الرواية، يتيم الأم المنطوي على نفسه، كان على خلاف أقرانه مولعاً بالقراءة. وتعلم اللغة الفرنسية بجهده الشخصي من كتب أولاد المستعمر السابق التي تركوها خلفهم بعد رحيلهم من الجزائر. فالرواية كنصّ أدبي تبدو عادية، بأسلوب لغوي بسيط، سهل الهضم، لا يخلو من السلاسة، بلغة فرنسية متقنة، ومفردات منتقاة تتناسب والفكرة العامة التي تدور حول فكرة جديدة تجعل من الكتابة «تعويذة سحرية لإطالة أمد حياة المحتضرين، أو من شارف على الموت لمرض أو لعجز، أو لشيخوخة». هي فكرة تجعل الكتابة تواجه الموت، كدواء سحري، أو وسيلة تخلق معجزات، وتعاند قوانين الطبيعة، والقدر المحتوم.
وهنا القصة الطويلة التي تملأ كراساً بأكمله سرداً تبعد الموت عن المتلقي، حسب الكاتب. إنها على نقيض «ألف ليلة وليلة»، إذ إن القصة تأتي مسلسلاً ليليّاً متقطعاً يؤجل موت القاصة شهرزاد، وليس المتلقي شهريار الملك.
وفي صفحات أخرى من هذه القصة، يخبرنا داود أن القراءة وحدها لا تكفي. الكتابة هي الأساس، وهي التي تنقذ من الموت، في معنى مجازي... «أمة لا تقرأ ولا تكتب نهايتها الموت».
هي رواية بصوت واحد، صوت الكاتب، كتبت بصيغة المتكلم كمحرك رئيسي للأحداث، وكل الشخصيات حوله هي شبه ثانوية، شخصيات عابرة، تخدم الفكرة العامة في معجزة الكتابة، التي فيها الشفاء، ولكن ليس باللغة العربية، وإنما باللغة الفرنسية! لماذا بالفرنسية؟ ثم، لماذا اختيار هذا العنوان «زبور، أو المزامير» الذي يذكِّر بمزامير داود، مع أن الكاتب يشرح في روايته أن اسم «زبور» الأصلي كان إسماعيل، لكن اسم «زبور» جاءه بعد شجار مع أخيه غير الشقيق، عادل، راعي قطيع أغنام أمي حقد عليه، إثر حادث وقع بينهما عندما كانا طفلين، فصدم عادل رأس أخيه إسماعيل، وسقط عادل في جب جاف القعر. اتهم زبور بأنه هو من دفع أخاه ليسقط في الجب، ما جعل الأم أن تحكم على أبيه إبراهيم الذي تزوج منها بعد موت أم إسماعيل، بطرد ابنه من البيت، فيضعه مع عمته العزباء هاجر في منزل منفصل (وهنا لا بد للقارئ أن يلاحظ أوجه التشابه بين قصة إبراهيم الخليل مع زوجته سارة التي تجبره على طرد خليلته هاجر وطفلها إسماعيل كما جاءت في القرآن الكريم) هل هو تشابه في الأسماء مقصود لإسقاطات تاريخية ودينية؟
على أية حال، هذا الارتطام بالرأس جعله يسمع دويا يشبه صوتا يناديه «زااااا بووووور» فيتحول من إسماعيل (المسلم) إلى (زبور) اليهودي. وظل هذا الاسم هو الذي يطلق عليه فيما بعد. وبقي الأخوان متخاصمين طوال سنين طويلة، والأب لا يعير كبير اهتمام بالطفل إسماعيل (زبور) ولا بأبيه العليل الحاج حبيب. منذ دخول زبور المدرسة في قرية معظم قاطنيها أميون، أصابه في هوس القراءة والكتابة، فنراه منطوياً على نفسه لا يعرف من عالمه سوى الانكباب على القصص، وقراءة كل ما يقع تحت يديه، حتى إن أهالي قرية أبو قير كانوا يأتونه بكتب مُزِّقَت بعض صفحاتها، أو بعض المجلات، أو أي شيء يُقرأ، وكان يلتهمها جميعاً. وقد ذاع صيته في هذه القرية، بأن له مقدرة غير عادية على شفاء المرضى، وقهر الموت، عبر كتابة قصة حياتهم. هل هي هبة خارقة؟ أم مجرد شعوذة وتحدي الموت بالمتخيل؟
يقول: «يكفي أن نعطي للموت عظمة يقضقضها، أن نخدعه بقصة طويلة تنهكه حتى نراه ينأى بعيداً... الكتابة هي الحيلة الوحيدة الناجعة في مواجهة الموت... أعتقد أني الوحيد الذي وجد الحل: الكتابة... اخترعت الكتابة كي تحفظ الذاكرة... وإذا كنا لا نريد أن ننسى فهي بطريقة أو بأخرى، رفض للموت.. وإذا كانت الكتابة قد عمت هذا العالم ذلك لأنها وسيلة قوية لقهر الموت، وليس فقط وسيلة حسابية، أو سردية كما ولدت في حضارة ما بين النهرين».
هي مقولة مضادة لمعتقد سائد في قرية محافظة، فالموت حتمي مهما تحصنّا: «يأتيكم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة». لكن سكان أبو قير بدأوا يعتقدون به بعد تجارب مختلفة، فأعمار المسنين راحت تطول حتى تخطت المائة عام.
كتابات زبور التي تتحدى الموت (وكأن كمال داود يعتبر كتاباته كـ«المزامير» كما جاء في عنوان الرواية) اعتبرها «كأول تمرد للحبر ضد الموت... منذ زمن وقريتنا في صحة جيدة... لا قبور تُحفَر في مقابر بوغويلة في الهضبة منذ أن بدأت الكتابة، الناس يعيشون بفضل كتاباتي مائة سنة».
لكن زبور كان لديه تحدٍّ كبير، فكان إذا قابل أحدهم ولا يكتب عنه خلال أيام ثلاثة فإنه سيلاقي الموت، وكان عليه أن يشتري كراسات بعدد الأشخاص الذين يقابلهم خلال اليوم، وكان لديه مهلة ثلاثة أيام كي ينقذهم، فكان يشتري في اليوم عشراً أو اثنتي عشرة كراسة، وفي إحدى الأيام اشترى سبعين كراسة بعد أن شاهد عرساً. كان يعطي لحكاياته عناوين غريبة أيضاً، أو عناوين لروايات معروفة كـ«موسم الهجرة إلى الشمال»، و«رصيف الأزهار لم يعد يرد»، و«الطرقات الصاعدة»، و«أضواء آب»... وسواها، حتى إنه ملأ صفحات 5436 كراسة.
في الثامن من شهر أغسطس (آب) من عام 1984 جلس زابور البالغ من العمر أربع عشرة سنة، قبالة جده الحاج حبيب الذي يحتضر وهو يكتب له في كراسته: «الجد شبه جثة هامدة، والكتابة لا تتوقف والجد يردد أنفاسا ضعيفة وصفحات الكراسة كادت تنتهي، كل صفحة تزيد فيه أنفاساً إضافية».
وجاء دور الأب المريض إبراهيم الذي أسرع ابنه عادل الأخ غير الشقيق ليتوسل إلى زبور الذي عانى من ظلم أبيه وإهماله (وهنا الطفل إسماعيل هو الذي ينقذ الأب إبراهيم وليس العكس في القصة التوراتية: إبراهيم هم أن يضحي بابنه ثم أنقذه الملاك بكبش)... ليقع في حيرة تغذيها عمته التي احتضنته بعد موت أمه وهجر أبيه، لأنها تريد أن تنتقم، أسلوب آخر في توظيف عقدة أوديب في قتل الأب، أو عدم الرغبة بإحيائه، فالكتابة وإن أحيت فهي أيضاً تميت.
زبور أو المزامير رواية سيرة شبه ذاتية متخيلة، تخلط المقدس بالمتخيل، ونلمس فيها حنيناً للغة المستعمر وإضفاء صبغة قدسية عليها أعلى من المقدس الديني، ما دام زبور نجح في إطالة إعمار سكان القرية بالكتابة بهذه اللغة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!