الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

التعصب إشكالية حاضنة يولد من رحمها العنف

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
TT

الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)

من جديد يستهدف الإرهاب والإرهابيون بعض المواقع والمواضع في أوروبا، وهذا ما رأيناه الأسبوع الماضي في فرنسا، وزعم «داعش» أنه كان وراء إصابة ستة جنود فرنسيين في حادثة «دهس» بإحدى الضواحي الباريسية... عطفاً على ذلك انطلق حوار واسع حول علاقة الإرهاب والتطرف بالأمراض النفسية والعقلية، وفي ألمانيا تحديداً بدا وكأن هناك جدلاً كبيراً يسود الأجواء حول كارثية استخدام الإرهابيين والقيادات المتقدمة في صفوفهم للمضطربين عقليّاً، والمتعصبين آيديولوجيّاً في عملياتهم الانتحارية لـ«سهولة غسل أدمغتهم»، وهي أزمة لا تتصل بأوروبا فقط، بل تمتد حول قرارات القارات الست، فالمتعصب سلس الانقياد، لا سيما إزاء الإشكاليات الدوغمائية المطلَقَة، بخلاف المتسامح الذي يقبل بالآخر وبآرائه دونما أدنى شوفينية.
هذا السياق الفكري قد يُحتِّم علينا أن نتوقف ونتساءل: هل هزيمة «داعش» في العراق وسوريا وتضييق الخناق على الفارين من معارك التنظيم الخاسرة، هي نهاية المد الأصولي لهذه الجماعة الإرهابية أم أن الإشكالية أوسع وأعقد، وتتصل بالطب النفسي أكثر مما تتصل بتحليلات رجالات الأمن والاستخبارات، على أهمية هذه الأخيرة؟
السؤال المتقدم يقودنا إلى قراءتين؛ الأولى عن إشكالية التعصب الحاضنة التي من رَحِمها يُولَد الإرهاب، والثانية العدد المقبل بإذن الله، حول التعاطي مع يتامى «داعش» العائدين من ميادين الحرب الظلامية إلى بقية دول العالم، وكيفية التعامل معهم وأي سبيل أنجح؛ الاحتواء أم الردع؟ ثم ما هي أفعل الآليات لمقابلة الخطر الآيديولوجي الكامن تحت جلد البشرية في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
يعد كتاب «المتعصبون جنون الإيمان» الصادر حديثاً عن «دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع» في دمشق، أحدث الأعمال الفكرية والنفسية التي تعالج الأزمة التي نحن بصدد تشريحها.
الكتاب من تأليف البروفسور برنار شوفييه الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، ومن ترجمة د. قاسم المقداد، أستاذ السيميائية والترجمة في قسم اللغة الفرنسية (كلية الآداب - جامعة دمشق).
يتساءل المرء: ما حاجتنا اليوم للحديث عن التعصب؛ الخلية الأولى للأصولية وللإرهاب؟
الجواب باختصار غير مخلٍّ: لأن التعصب ينحو نحو الاتساع والراديكالية في أيامنا هذه، وكأنه ينبعث من رماده بأشكال متنوعة ومتعددة، كالعنقاء المتوحشة التي لا يتوقف سعيها وراء طرائد جديدة.
يفتح البروفسور شوفييه عيون قلوبنا على أنه خلف هذه الأعمال الإرهابية وهذا العنف رجال ونساء يناضلون من أجل قيم عالية إلى حد ما (بالنسبة لهم على الأقل كمسألة الخلافة في حالة «داعش») ويعبرون عنها، لكنهم يضعون دائما فكرة معينة عن الإنسانية في مقدمة مطالباتهم.
السؤال الذي ينبغي لدول العالم (إذا أرادت أن تكافح الإرهاب بطريقة جذرية) أن تطرحه على موائد النقاش: كيف لنا أن نفهم أن أشخاصاً يؤمنون بقضية ينتقلون بقوة إلى ممارسة العمل التدميري؟
مؤلف الكتاب يجزم بأن رَسْمَ لوحة للمتعصب هو أمر يعني أن نضع له وجهاً، ونتعرف على الشخص الذي يتخفى خلف القناع، ومقاربة الأفكار التي يجسدها أناس ويبعثون الحياة فيها.
كارثة التعصب أنه قد يكون في بعض المرات جنوناً عابراً، لكن في كثير من الأحايين يضحي طريقة في التفكير وطريقة في الفعل بشكل منهجي، فأن يعيش المرء متعصباً، فهذا لا يعني أن التعصب يصبح وسيلة فحسب، بل يصبح هدفاً أيضاً وغاية أخيرة.
يقدم لنا الكاتبُ المتعصِّبَ بوصفه «إنسان المقدس»، لكنه ليس أي إنسان، ولا المقدس أي المقدس، فهذا الإنسان يهب نفسه جسداً وروحاً فيغالي في افتداء قضيته، بل يستبدّ به، وله جنون بما يؤمن به، وعليه، فالمقدس المعنيّ هنا يتقمص المثال والمطلق، لدرجة يغطي معها حتى ذلك المجال الذي يفترض به أن يكون بعيداً عنه، أي مجال المدنس، فلا يعود المتعصب يفرق بينهما، لأنه تحول إلى كتلة كيانية واحدة.
كما يبين البروفسور شوفييه كيف أن مشكلة المغالاة لدى المتعصب فيما يترتب على فعله من نتائج مأساوية يخلقها تصرفه، وقد لا يكون الأمر بهذه الخطورة إذا توقفت النتائج عنده، لكن هيهات، إذ تتوالد آثار أفعاله فتدمر الآخرين أيضاً.
هل «داعش» وقبله «القاعدة» وما سبقهما من حاضنة أكبر للإخوان المسلمين كجماعات متعصبة هي نتاج طبيعي لـ«سلطان التعصب»؟
الشاهد أن المتعصب يتصف بقراءته للقيم بشكل معكوس، ما يفقد الحياة بالنسبة له قيمتها، ويصبح للسلبية عنده معنى، إن لم تكن غاية، فهي وسيلة على الأقل، والتدمير ضرورة لانبعاث الصحوة.
ويفرد المؤلف الفصل الخامس من مؤلفه لمناقشة إشكالية «الإرهابي ومتاهات النزعة التدميرية»، وفيه يعتبر أن الإرهاب شكل خاص من التعصب حيث لم تعد القناعة الخاصة للعارف مقتصرة عليه، فصار بحاجة إلى تقاسم أفكاره مع آخرين، والتقاسم هنا بحجم القناعة، أي بلا حدود، فإما أن يخضع الآخر لأفكار المتمسك بالآيديولوجيا، أو يتم إخضاعه هو نفسه.
تفيدنا سطور هذا الفصل تحديداً في إسقاط ما بها على الواقع الإرهابي العالمي؛ فالإرهابي بالمعنى المحدد للبروفسور شوفييه يعني المتعصب المقتنع جدّاً بصدق أفكاره والمستعد لاستخدام العنف من أجل نقل تلك الأفكار للآخرين أو فرضها عليهم.
والشاهد أننا حال طبقنا الرؤية النفسية لسطور الكتاب على «داعش»، نعرف كيف ظهرت «إدارة التوحش» والأخطر كيف يمكن أن تطفو على السطح جماعات أخرى مشابهة، فالإرهابي يرى أن قيمة النظرية تجعل هذه الطرق مشروعة وللإرهابي تصور للإرهاب حتى على مستوى الملموس للحياة الجماعية: اللجوء إلى التدمير، والتحطيم، والإلغاء، السجن، وبتر الأعضاء، والقتل لتشييد نظام الحرية.
كثيراً ما نتساءل: كيف لـ«داعش» وبقية الجماعات الأصولية والإرهابية أن تجد معيناً بشريّاً تستجلب منه عناصرها؟
خطورة علامة الاستفهام المتقدمة أنها ماضية في الزمن، بمعنى أنها لم تتوقف عند لحظة بعينها، بل تستمر ويمكن أن تنتج لنا طبعات جديدة من «داعش» بأسماء مختلفة، لا سيما إذا لم يتم التعامل مع «منكسري داعش» بطريقة عقلانية وعلمية.
يقدم لنا أستاذ علم النفس المرضي الفرنسي مصطلحاً جديداً يساعدنا على فهم أسطورة التجنيد عند كل الجماعات الأصولية وهو «التعصيب»، أي الدفع إلى (وفي) طريق التعصب، وهي عملية نفسية قد تطول أو تقصر.
ولعل الفخ الأكبر الذي ينبه إليه الكتاب هو فخ «التضليل الإعلامي»، فالمهمة الأولى التي يفرضها مجندو الجماعات المتعصبة على أنفسهم تقوم على خلخلة المعتقدات العادية لدى تابعهم المستقبلي، فحينما يستندون إلى الثغرات والتناقضات الخاصة بالأزمات الحياتية، كالمراهقة أو التهميش الاجتماعي أو صعوبات الحياة تراهم يدخلون في علاقة مع الأشخاص الباحثين عن أجوبة على دوافع ضيقهم الوجودي. ولتحقيق هذه الغايات يبثون اليوم على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بنحو خاص، رسائل وإشارات ومعلومات مجتزأة أو مغيرة، هدفها الزرع البطيء للشك في الوعي، لا سيما أن وسائل الإعلام العادية لا تقول كل شيء.
الذين حاولوا تفكيك إشكالية الانتحاريين من الإرهابيين تساءلوا عن القناعات التي تلبَّسَت القائمين بها، والتي أدت بهم إلى إنهاء حياتهم بأيديهم، بل وحياة أقرب المقربين إليهم، فقد شهدنا كيف يقوم الأب بلف حزام ناسف حول وسط ابنه وأحياناً ابنته ليفجره وسط من يراهم الأعداء.
يقدم لنا المنظر الفرنسي رؤيته للمتعصب، بوصفه الساعي لتطبيق الألم والتدمير على نفسه، في محاولة منه لتأكيد عمق تعلقه بالمعتقد، ويظهر علامات ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن فهمه في إطار تعزيز معتقدات الجماعة كلها.
والتحليل النفسي العميق لمشهد تحريف المقدس عند المتعصب يجدر أن يكون أداة مستقبلية للتعاطي الأمني والاستخباراتي مع الأصوليين من الإرهابيين، إذ يبين لنا كيف تنتظم تصرفات هذا النمط من التعصب وتتخذ معناها، حيث يصبح المجند شبه مضطر للقيام بفعل يجنبه الانفجار الداخلي، الذي من شأنه توليد فائض من اليقين، ويكون عنف الفعل المرتكب بمقدر التشبع بالتصورات المدخلة، وكلما كان المتعصب خاضعاً لقانون المعبود الذي يسكنه تزداد حاجته إلى المطابقة بين الواقع الخارجي وإيمانه أو معتقده، فسفك الدماء، وبتر الأعضاء فعلان يبينان للآخرين مقدار قناعة الشخص بإيمانه.
يقدم لنا المؤلف نوعاً مثيراً عن أنواع التعصب، وإن كان التاريخ مليئاً بنماذجه، غير أنه لم يعد الآن يشغل حيزاً كبيراً، ضمن سلسلة الإرهاب المعاصر؛ إنه التعصب الناشئ عن الالتزام العاطفي والإلهامي، وهو نوع من أنواع التعصب التي لا تحتاج إلى ما يطلق عليه البروفسور شوفييه الإرشاد العقدي المعمق، ولا يحتاج إلى هرمية جماعية متطورة هذا النوع من أنواع التعصب يكاد يكون الأخطر في أيامنا الحالية، ومرد ذلك أن الإرهاب بات ينتشر انتشاراً غير عنقودياً، إذ يكفي أن تؤمن بالفكرة، والآن بالقائد... هنا يبذل المريدون قوتهم الضاربة لخدمة القائد ويتفانون في سبيله جسداً وروحاً. في هذه الحالة يكون تنظيم الجماعة ذا طابع عسكري أكثر منه عقدياً.
يقترب المتعصب هنا من حدود الشخص الساخط الذي هو مقاتل من أجل القائد في المقام الأول وشخصية هذا القائد أكثر تأثيراً من أفكاره على الحياة والعالم، والعقيدة هنا ليست سوى غطاء مؤقت ولازم لضبط التلاميذ.
كارثة هذا النوع من التعصب أن القائد فيه يضحي بطلاً جذاباً يعرف كيف يبني مدرسة تأهيلية يمكن لأي عضو فيها أن يتحول إلى آلة للقتل يستخدمها كما يشاء، ولا وجود عنده لقضية كبرى، أو قيم مطلقة، وليس ثمة غير العمل، ولا شيء غير العمل، وينبغي أن يكون هذا العمل فعالاً لا مجال للفشل فيه.
المتعصب الساخط، قد يقودنا إلى الحديث الدائر في ألمانيا أخيراً؛ فهو مضطرب العقل سيكوباتي الشخصية مبرمج وفق مشروع رسمته سلطة عليا، وغالباً ما يكون قد فقد ضميره بسبب استخدام مواد مهيجة ومثيرة للنشوة والغبطة.
يفك لنا صاحب الكتاب الذي يقع في نحو ثلاثمائة صفحة شفرة ما عُرِف بـ«الذئاب المنفردة»، التي أرجعها إلى نوع من أنواع «التعصب الخاص»، المغاير للتعصب العام أو التعصب الجمعي إن جاز التعبير.
ويؤكد أن هذا النوع من التعصب له علاقة بالمجال الفردي فقط، وفيه يقوم الفرد بحل مشكلاته النفسية من خلال بث الرعب في محيطه. هذا المتعصب الخاص الجديد رأيناه في شوارع فرنسا وألمانيا وبروكسل، وهو يتمركز كلياً حول ذاته، ويسقط عنفه الداخلي الذي يعجز عن معالجته وضبطه بنفسه على القريبين منه، وحجته في هذا تتلخص على النحو الآتي: «بما أن الآخرين لا يفهمونني، وبما أنهم يضطهدونني ويدفعونني إلى أقصى الحدود، فسأحقق رغبتهم بشطب نفسي من هذا الكوكب، لكن عليهم أيضاً أن يدفعوا ثمن ذلك دماً ودموعاً». يطلق شوفييه على المتعصب الخاص لفظه «كاميكاز»، ونحن نطلق عليه «ذئباً منفرداً»، وفي كل الأحوال هو شخص لا ينتمي لأي مجموعة إلا إلى نفسه، فهو مجموعة بمفرده، والقضية التي يدافع عنها هي قضية شهرته المستقبلية بوصفه فرداً، لكن إذا تعمقنا في الآليات النفسية الكامنة خلف البواعث الواعية، نجد هذه التصرفات تعبيراً عن ضيق حقيقي، ونتيجة إهمال إنساني متعمد، وحصاد رفض اجتماعي، وقع ضحيته هذا النمط من المنحرفين المتعصبين. خلاصة هذا العمل الفكري الذي يستحق مؤلفه البروفسور شوفييه ومترجمه القدير د. قاسم المقداد كل الشكر والتقدير هي أن معرفتنا بالطريقة التي يعمل التعصب من خلالها، والأسباب الكامنة وراء نشأته في عقل الإنسان، هي الطريقة الوحيدة الممكنة للقضاء على الإرهاب والأصولية بشكل فعال لاجتثاث جذوره من دون انتظار المصائب التي يمكن أن تترتب عليه.
يقدم لنا المؤلف قبل الرحيل صيغتين للعمل على مجابهة الإرهاب: «الوقاية والقمع»، ويؤكد على أن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً دولياً أسوأ بكثير - كما بين لنا التاريخ من حيث شراسته واتساعه من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية.
التعصب كذلك في الخلاصات «مرض يصيب النفس» التي يجب دراستها منذ نشوئها، وقد تكون التربية وإقامة المؤسسات المرنة والتشاركية أفضل اللقاحات لاتقاء الفيروس التعصبي.
ومن التوهم أو الخطر السعي إلى اجتثاث العنصرية، لأنها أولاً موقف الآخر الذي ننظر إليه بوصفه متعصباً، والاضطلاع بمهمة القضاء على التعصب يعني خلق تعصبات جديدة، قد تكون مثار قلق أكبر من الأولى لأنها تزعم تبني مبادئ العقل.
السور الأوحد في وجه التعصب والأصولية هو غياب السور، لأن المتعصب لا يحلم إلا بالهجوم والغزو.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».