بقايا «داعش» وتجاهل حيثيات الواقع

أهم ركائز التنظيم تعتمد على الحرب النفسية جذباً وتهويلاً بالترويج والتواصل عبر العالم الافتراضي

شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)
شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)
TT

بقايا «داعش» وتجاهل حيثيات الواقع

شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)
شرطة مكافحة الإرهاب الإسبانية تعتقل شاباً مغربياً من قيادات «داعش» مسؤول عن الإعلام الإلكتروني خارج مدريد الشهر الماضي (إ.ب.أ)

في كتابه التاريخي: «فن الحرب»، يختصر المفكر العسكري الصيني سن تزو كل فلسفته حول فنون واستراتيجيات القتال أثناء الحروب في عبارة واحدة: «التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو دون أي قتال». وهنا تكمن معضلة استمرارية تنظيم داعش، فعلى الرغم من أن غالبية الظروف المحيطة تشي بانهيار كيانه، فإن مقاتليه يظهرون إصراراً على المقاومة ومواصلة الصراع دون اكتراث بمحاصرتهم في مناطق كانت تحت سيطرتهم، وبرفض للاستسلام نتيجة مقتل أعداد كبيرة منهم تحت غارات أثقلت كاهلهم، وفرار آخرين، وعودة جزء منهم إلى أوطانهم.
وعلى الرغم من سقوط أهم معاقل «داعش»، بدءاً بالموصل، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عقب استعادة مسجد النوري ومنارة الحدباء انتهاء سيطرة التنظيم فيها، وهو المكان ذاته الذي أعلن فيه أبو بكر البغدادي عن قيام «دولة الخلافة المزعومة» في العراق وسوريا قبل ثلاثة أعوام، وتبعها فيما بعد استعادة الرقة في سوريا. يشكل كل ذلك تحولاً مفصلياً للتنظيم يشي بتدهور أوضاعه وتخبّط استراتيجياته، فبعد أن نقل ساحة أعماله من منطقة شاسعة يسود فيها الحكم الداعشي، تبرز عملياته عبر هجمات مبعثرة في مناطق مختلفة ينفذها أعضاء متناثرون وذئاب منفردة، باستهداف للأقباط تارة والشيعة تارة أخرى، ومن ثم الالتفات إلى الغربيين بشكل عام وإدراج المسلمين معهم بعد تكفيرهم، لتتم بذلك شيطنة كل من ليس جزءاً من المنظومة الداعشية.
يتجلّى القلق الوجودي لـ«داعش» من خلال رسائله الإعلامية، إذ انتهج في الآونة الأخيرة أسلوباً دفاعياً مستميتاً ينم عن توجس من اعتقاد العالم أجمع بأفول وهج التنظيم وانحسار المناصرين له، من بعد فقدانه لكمّ ضخم من مقاتليه وأراضيه. وظهرت عدة تسجيلات تحاول تأكيد استمرار التنظيم في استراتيجيته القائمة على إنشاء خلافة إسلامية «داعشية» مع التشديد على كونها لا تحدد عبر منطقة معينة.
المتحدث الرسمي السابق للتنظيم أبو محمد العدناني، الذي قتل في غارة جوية في شهر أغسطس (آب) من عام 2016، تحدث في تسجيل صوتي له في العام ذاته مخاطبا الأميركيين، متسائلاً باستنكار إن كانوا يحسبون أن «الهزيمة خسارة مدينة أو خسارة أرض؟». تحور الهدف الاستراتيجي المحوري لـ«داعش» وإن كان يسعى لإخفاء إخفاقاته، إلا أنه يسبغ على التنظيم طابعاً براغماتياً تتلوّن عبره أهدافه وخططه، حسب حيثيات الوضع العام للتنظيم. ذلك الطابع يمد الداعشيين بطاقة تمكنهم من استغلال النجاح الذي تم تحقيقه في السابق في كل من الموصل والرقة، ليستحيل من مجرد بكاء على الأطلال، إلى التباهي والظهور بمظهر التنظيم الأقوى في الآونة الأخيرة، إذ تمكن وإن لفترة زمنية قصيرة، من إقامة خلافته المزعومة التي شكّلت ملاذاً يستقطب المقاتلين المتطرفين من كل العالم. فبتلك السمعة من الممكن أن يسعى إلى الاستمرار في جذب تنظيمات أخرى للتحالف معه، وتجنيد المتعاطفين مع أهدافهم وآيديولوجيتهم، في بقاع تشهد ضعفاً أمنياً وتطرفاً دينياً، كما حدث مؤخراً في أفغانستان ونيجيريا. وتظهر عشوائية الهجمات الداعشية المباغتة ومحاولة الاستفادة من كل الفرص من أجل إعمال الرعب والتخريب.
يواجه تنظيم داعش من جهة أخرى معضلة أخرى أهم؛ إذ إن إحدى أهم ركائزه تعتمد على الحرب النفسية جذباً وتهويلاً عبر الوسائل الإعلامية والترويج للتنظيم، والتواصل عبر العالم الافتراضي الإلكتروني. وقد تميز التنظيم عن غيره بقدرته على التغلغل في عقول الآخرين عن بعد واستدراجهم. واعتمد على تقنيات من أجل تجنيد الآخرين من خلال استلهام عاطفتهم، أو التأثير على حس المغامرة لديهم، ليصبح ذلك معرضاً للانقراض، لا سيما أنه أصبح من السهل ترصد المتطرفين إلكترونياً ومعرفة مواقع تواجدهم. تبدّى خفوت نشاط التنظيم في الفضاء الإلكتروني، بشح التسجيلات الصوتية والمرئية، وقلة الحراك الداعشي الإلكتروني بعد تكثيف الجهات الأمنية الحملات المناوئة لها. ويتجلى ذلك عبر تعميم للتنظيم صدر في الآونة الأخيرة لحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على مقاتليه، واستخدام لهجة الوعيد لمن يخالف التعليمات؛ إذ إن الجهات الأمنية تجاوزت القدرة على ترصد الأنشطة الإلكترونية المتطرفة، عبر اتفاقيات دولية لمحاربة أجندة التنظيمات الإرهابية، ومهاجمة منصات التواصل الاجتماعي الداعشية وحظر حساباتها، وتمكنت الجهات الأمنية من إنشاء تطبيقات إلكترونية موازية لتطبيقات أنشأها التنظيم من أجل التمكن من أجل اختراقهم وجمع معلوماتهم. وقد نتج عن مثل هذه الهجمات ظهور وعي نوعي ما بين المقاتلين حول ماهية محاولات ترصدهم، لا سيما أن عدداً منهم تميز بحيازته قدرات تقنية متطورة تمكنه من تفاصيل الهجمات الأمنية الموجهة لهم. وقد عزز من ذلك استهداف وقتل عدد من مقاتليهم في معاقلهم، وقد تمكنوا من معرفة مواقع وجودهم، وتوجيه غارات جوية مصوبة ناحيتهم، نتيجة تعقبهم، إثر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن المحاولات المناوئة للحملات الأمنية لا تزال مستمرة من قبل «داعش»، وقد برزت على الساحة الإلكترونية نقاشات حوت مناصرين للتنظيم لدراسة سبل الاستمرار في استخدام المنصات الاجتماعية الإلكترونية في ظل الترصد العالمي لهم. وإن لم تختف الأنشطة الإلكترونية، إذ لا تزال هناك صحف ومنشورات إلكترونية تنقل أخبار وكالة أعماق للتنظيم. ويتصدر «التيليغرام» التطبيقات الأخرى في استخدام الداعشيين له كوسيلة للتواصل عبر الرسائل المشفرة. في ظل شح الرسائل المتطرفة للتنظيم عبر المنصات، تظهر الاستعاضة عنها ببيانات داخلية تهم شؤون أماكن تمركزهم، كما حدث مؤخرا في دير الزور، حيث أعلن التنظيم افتتاح «مكتب المستنفرين»، من خلال بيان رسمي لما أطلق عليه مسمى «النفير العام»، الذي يجبر فيه جميع الشبان في أحياء دير الزور من الفئة العمرية الممتدة التي تشمل العشرين والثلاثين عاماً، لا سيما أن البيان حمل لهجة وعيدية، بإشارته إلى تعرض من لا يعلن انضمامه خلال أسبوع للمساءلة والتعزير. وعلى خلاف المعتاد من اشتراط إنجاز المقاتلين تدريباً مكثفاً عبر تدريبات شرعية وعسكرية ونفسية قاسية، اقتصر التدريب الحالي في دير الزور على دورة شرعية وعسكرية قصيرة، ليؤكد ذلك محاولة التنظيم المستميتة الحفاظ على وجوده.
,يعكس لجوء تنظيم داعش إلى التجنيد الإجباري حالة انهياره وتغاضيه عن الكثير من الشروط والطرق التي ينضم فيها المقاتلون الجدد إليه. كما يشي إلى ازدياد أعداد المقاتلين الجدد في صفوفه ممن يفتقرون إلى الولاء للتنظيم والاقتناع بمبادئه، وهو مؤشر خطير يحمل في طياته محاولات للانقلاب عليه، والبحث عن منقذ لهم من الوضع الراهن.
ومع فقدان «داعش» لبريقه في الآونة الأخيرة، فلا بد من أن موارده وقدراته قد تضاءلت، مما يشير إلى أن التنظيم سيلجأ إلى النهب والتقتير في الموارد على الأهالي من أجل السيطرة على المنطقة. أضف إلى ذلك النجاح الأخير المتمثل في تحرير الموصل من «داعش»، مما يشكل أملاً لسكان دير الزور يدفعهم لتأمل الخلاص من السيطرة الداعشية. هذه النظرة السلبية تأتي مغايرة لتوجه سكان المناطق التي كانت تحت براثن تنظيم القاعدة من قبل. إذ في تلك الفترة ظهر حرص القاعدة الظفر بـ«قلوب وأفئدة» سكان المنطقة التي يمتد فيها نفوذهم، مما أدى إلى حيازة القاعدة على شعبية كبيرة أدت إلى استقبال الأهالي لهم بحفاوة وصلت إلى السعي في إخفائهم عن السلطات، كما حدث في العراق من قبل في الفترة التي وصل فيها نفوذ القاعدة أوّجه نتيجة استخدامه شعارات محاربة قوات الاحتلال الأميركية، وحرصهم ليس فقط على إمداد الأهالي بالمؤن والذخائر والأموال، بل إعادة بناء المدن والبنى الهيكلية لها. من جهته فإن تنظيم داعش لم يتكبد مشقة اكتساب تعاطف الآخرين معهم، بل اكتفى باستغلال العامل النفسي عبر إثارة الرعب والبطش والتهديد وتأجيج الغضب والطائفية، بالأخص وأن سمعة الداعشيين قائمة على توحشهم وسعيهم لإبادة أعدائهم.
على الرغم من أن المؤشرات تشير إلى أن تضاؤل التنظيم ونهايته شبه محتمة، فإن إصرار المقاتلين على الاستمرار في القتال يبدو أشبه بمحاولة لإطالة المدة الزمنية، والعودة إلى نطاق أصغر، من خلال استخدام تقنيات أشبه بحرب العصابات، بهدف استكمال القتال، ومحاولة استنزاف الطرف الآخر، حتى وإن كان احتمال الوصول إلى ذلك واهياً. وهو الأمر الذي حذر المفكر الصيني سن تزو من الوصول إليه، إذ تطرق في شرحه لمبادئ الحرب إلى أن «الهم الأكبر في الحرب هو تحقيق النصر، لا إطالة أمد الحملات العسكرية».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.