حين تراجع ذاكرتنا الحياة

حين تراجع ذاكرتنا الحياة
TT

حين تراجع ذاكرتنا الحياة

حين تراجع ذاكرتنا الحياة

يقال إن الذاكرة لحظة الموت تراجع الحياة. ماذا ستراجع ذاكرة إنساننا المسكين حين تحين تلك اللحظة الرهيبة؟ أية محطة يمكن أن يتوقف عندها وهو يواجه تلك اللحظة، آخر ما تبقى له من تلك النعمة الكبرى: الحياة؟ كان الشاعر الفرنسي لويس أراغون قد كتب مرة مستنجداً بالسماء أن تريحه من هذه المهمة الصعبة: مراجعة الحياة في لحظة الموت. ماذا سيقول إنساننا المسكين؟ أية مهمة مستحيلة!
محطات حياتية مجرد التوقف عندها مميت بحد ذاته، ولو في الذاكرة: قمع، وذل، وسجن، وقتل، وحروب داخلية وخارجية، و«داعش»، ومنفى. مرحلة تمضي لترثها مرحلة أشقى. جنون يولّد جنونا، وعنف يحبل بالعنف، ووحوش تختال على الأرض، طاردة إيانا إلى الغابات. أوطان تقسّم نفسها أقساماً، ونصف يقسم نصفاً، وأرض تلفظ أبناءها كما يلفظ المرء سناً نازفاً. ما الذي هناك في الذاكرة المثقوبة منذ ولدنا؟ العنف السيّد في أعلى درجات عنفوانه، الهجرة التي اختزلت تاريخ الهجرات، بيع النساء كما تباع الخضراوات في السوق، احتلال أنفار مجانين لمدن كبرى قاومت التاريخ قروناً، نازعت الحر والقرّ، ورماد الدنيا وغبارها، لكنها سقطت في إغماضة عين. زمن الفيل. زمن غامض كمصائرنا، لا يعرف فيه القتيل من قتله. براميل متفجرة تنهال كالحجر السجيل. مقابر جماعية فاتحة أفواهها. فساد لا يعرف التاريخ له مثيلاً منذ زمن نبوخذ نصر. زمن الدب القطبي، والقيصر الأخير على الأرض، وهو يلكأ جراحه في المكان الخطأ والزمان الخطأ. زمن رجال ألسنتهم تحكم العالم. ألسنة تسبق العقول.
كانت لإنساننا المسكين أوطان ولا أجمل. كانت يوماً ماء ومزرعة وقمحاً وخبزاً للجميع. لكنها صارت اليوم أحياء تحارب أحياء، وشوارع تحارب شوارع، وبيوتاً تحارب بيوتاً. وجدت نفسها فجأة تدور عكس دواليب الزمن. قبل أفضل من الآن. أولها أشرف من آخرها. الأوطان الوحيدة في التاريخ التي تلتفت للماضي، تعشقه كأنه الزمن الوحيد في الحياة، وتمعن في طرد أهلها وكأنهم أولاد حرام.
ماذا ستراجع الذاكرة؟ لحظات مشرقة هنا وهناك كادت أن تنير الحياة، وتبدأ بنا من جديد، تعيد لنا بعضاً من وهجنا المفقود، لكنها انطفأت.. انطفأت سريعاً، أسرع من لهيب شمعة في الريح، فهبط الظلام مرة أخرى، ومع الظلام عاد الوحوش، الذين كمنوا طويلاً في الغابات بانتظار الإشارة. أم أنهم كانوا كامنين بيننا، ونحن لا نرى؟ عاد أولئك الذين تواروا خلف ظهورنا، وتصورنا أنهم اختفوا للأبد. عادوا بديكورات أخرى، أكثر تزويقاً ولمعاناً وبريقاً يعمي العيون، وألسنة قادرة على النفاذ إلى العقول. إنهم، كما يبدو، باقون وكأنهم أقدارنا في هذه الحياة التي تصورناها نعمة كبرى، وعطية مقدسة لا يحق لأحد مهما كان أن ينتهكها. لكنهم فعلوا، ولا عقاب هناك. فلتوا من العقاب مرة أخرى، وتماهوا حتى معنا، فلم نعد نراهم، أو نميز أثوابهم وروائحهم. صاروا نحن.
اختلط القاتل والقتيل، والجرح والسكين، والحبل والرقبة، والليل والشبح. ما عدنا نرى شيئاً. ولكن ألم نكن دائماً هكذا؟ لا نرى إلا حين تهبط فوق رؤوسنا المطارق، وتلدغ جحورنا أفاعي الصحراء السامة. ما الذي ستراجعه ذاكرتنا غير ذلك حين تحل تلك اللحظة الرهيبة؟



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.