شبان أوروبا يهاجرون بحثا عن العمل

ميليسا آباديا التي هاجرت من بلدها إسبانيا بسب البطالة تسير في أحد شوارع أمستردام غداة حصولها على عمل في متجر بالعاصمة الهولندية
ميليسا آباديا التي هاجرت من بلدها إسبانيا بسب البطالة تسير في أحد شوارع أمستردام غداة حصولها على عمل في متجر بالعاصمة الهولندية
TT

شبان أوروبا يهاجرون بحثا عن العمل

ميليسا آباديا التي هاجرت من بلدها إسبانيا بسب البطالة تسير في أحد شوارع أمستردام غداة حصولها على عمل في متجر بالعاصمة الهولندية
ميليسا آباديا التي هاجرت من بلدها إسبانيا بسب البطالة تسير في أحد شوارع أمستردام غداة حصولها على عمل في متجر بالعاصمة الهولندية

نهضت ألبا منديز، الحاصلة على درجة الماجستير في علم الاجتماع والبالغة من العمر 24 سنة، من سريرها سريعا، ووضعت مساحيق التجميل وصففت شعرها بعناية. كانت يداها الرقيقتان ترتجفان وهي تمسك بسيرتها الذاتية أثناء مغادرتها لغرفتها الصغيرة حيث سمحت لها صديقتها بالبقاء دون دفع الإيجار. أجرت في ذلك اليوم مقابلة للعمل في مركز للتسوق. لم يكن ذلك بالعمل الذي يتناسب مع مؤهلاتها العلمية، لكن تلك كانت فرصة نادرة بالنسبة لها بعد سلسلة من الوظائف المؤقتة، وطلبات العمل التي لم تجد صدى وأصحاب الأعمال الذين يطالبون الشبان بالعمل لساعات أطول دون أجر كي يفكروا في منحهم وظائف دائمة. كان والداها يرجوان عودتها إلى منزل العائلة في جزر الكناري لإدارة شركة الفاكهة التي يملكها والدها، لكن تلك كانت إشارة على الأوقات التي لن يستطيع فيها حتى والدها أن يدفع راتبها. وتقول منديز: «نحن في موقف يتخطى قدرتنا، لكن هذا لن يمنع الشعور بالذنب. في الأيام الصعبة، يصعب النهوض من السرير، وأسأل نفسي: ما ذنبي؟». هذا السؤال يطرحه ملايين الشبان الأوروبيين. فرغم مرور خمس سنوات على بداية الأزمة التي ضربت القارة، ارتفعت البطالة بين الشبان إلى مستويات قياسية في دول كثيرة. وتشير إحصاءات البطالة في سبتمبر (أيلول) إلى ارتفاع نسبة البطالة في إسبانيا 56 في المائة لمن هم في سن الرابعة والعشرين وما دونها، وإلى 57 في المائة في اليونان، و40 في المائة في إيطاليا، و37 في المائة في البرتغال و28 في المائة في آيرلندا، وبلغت النسبة في الشبان من سن 25 إلى 30 من النصف إلى الثلثين ولا تزال النسبة آخذة في التصاعد. في اليونان اضطر جورج سكيفالوس، 28 عاما، إلى العودة للإقامة مع والدته قبل عامين في أثينا. ويقول سكيفالوس: «حتى وإذا خرجنا من الأزمة، ربما خلال أربع سنوات، فسأكون في الثانية والثلاثين من عمري، ماذا سأفعل حينئذ؟ ستكون الفرص قد ضاعت لأن ألتحق بشركة أحظى بفرصة الترقي فيها». ومن ثم سعى الكثير من الشبان في الجنوب المتأزم إلى تقبل الواقع الأوروبي الجديد. كان عليهم أن يختاروا بين الإقامة مع العائلة وندرة فرص العمل، أو السفر إلى شمال أوروبا حيث توجد فرص أحسن للعمل، في ظل احتمالات بأن يعاملوا كدخلاء. ويقول الشبان إنهم يتنافسون هناك على رواتب أدنى ووظائف مؤقتة. صار التعامل مع هذه القضية تحديا سياسيا واقتصاديا بالنسبة للاتحاد الأوروبي في وقت تتصاعد فيه وتيرة الاستياء الشعبي تجاه القيادة في بروكسل والعواصم الوطنية. ووصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بطالة الشبان بأنها «ربما تكون المشكلة الأكثر إلحاحا التي تواجه أوروبا». وقد توجهت ميركل إلى باريس الثلاثاء الماضي للانضمام إلى باقي زعماء دول أوروبا لعقد قمة حول بطالة الشبان، دعا إليها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. وقد أعادت الحكومات التأكيد على تعهداتها بدعم برنامج البطالة الذي تصل قيمته إلى ستة مليارات يورو (نحو ثمانية مليارات دولار) بداية من العام المقبل. وقال ستيفانو سكاربيتا، مدير التوظيف والعمل والشؤون الاجتماعية في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية: «نتمنى أن يكون 2014 عام انتعاش، لكننا لا نزال نتطلع إلى عدد كبير من الشبان الذين تحملوا فترة طويلة بالغة الصعوبة. وهذا سيكون له تأثير طويل الأجل على جيل بأكمله». أما ميليسا آباديا، فقد اتخذت بعد عيد ميلادها الثالث والعشرين، قبل أربع سنوات، قرارا مؤلما بأن تترك منزل عائلتها المتماسكة في إسبانيا، حيث جعلت تداعيات الأزمة المالية لعام 2008 من الاستحالة بمكان الحصول على وظيفة جيدة، وانتقلت إلى هولندا التي لا تزال شركاتها تطلب عمالا. وقالت آباديا: «عندما صعدت على متن الطائرة بكيت، لكني كنت قد اتخذت القرار: هل سأناضل للحصول على شيء في بلدي لا معنى له، أم أخرج من هناك وأبني حياتي؟». وعلى الرغم من قضائها خمس سنوات في التدريب على التمريض في مدينة كاستيلون دي لا بلانا، مسقط رأسها، فإنها تعمل الآن في متجر من دون نوافذ في أمستردام يعنى بترتيب حقائب اليد والجوارب وأدوات الزينة الأخرى في متجر للملابس. إنها إشارة على مأزق يعيشها جيلها: فالحصول على عمل وقدر من الاستقلالية يجعلها فتاة محظوظة، بغض النظر عن الحنين إلى الوطن والأحلام المحطمة بقبول عمل مختلف للغاية والقبول التدريجي بأن حياتها قد لا تكون على الإطلاق الحياة التي توقعت أن تعيشها. لدى عثورها على زمالة في التمريض دون أجر وعمل مؤقت في ملهى ليلي فقط في إسبانيا، جابت آباديا الإنترنت بحثا عن عمل في دول أوروبا الأكثر رخاء، وسرعان ما وجدت عملا كحاضنة أطفال في أمستردام. وللمرة الأولى، عانت من صدمة كونها مهاجرة ولدى وصولها إلى أمستردام ضمن موجة من الشبان الأسباب واليونانيين والأتراك والإيطاليين والبرتغاليين بحثا عن عمل، تقول: «علمت الآن كيف يكون الحال عندما ينظر إليك على أنك جئت لتسرق وظيفة». وسرعان ما وجدت عملا براتب أفضل في متجر للملابس بالقرب من القصر الملكي، كان المتجر يستعين بعشرة شبان إسبان آخرين تركوا بلادهم أيضا بحثا عن فرصة عمل. قضت عامين تتنقل بين وظائف مؤقتة، سعى خلالها أصحاب العمل إلى زيادتها بشكل كبير لخفض النفقات وتجنب دفع تأمينات العمال المكلفة التي تمنح للموظفين الدائمين. لا تعد الوظائف قصيرة الأجل في بعض الدول، خاصة تلك التي تملك أكبر نسبة من البطالة بين الشبان، أكثر من كونها فرصة للشركات من أجل استغلال ميزة ضعف سوق العمل. لكنها عندما تستخدم من قبل أرباب العمل في الغرض التي أنشئت من أجله (أي منح الخبرة للشبان الذين لا يستطيعون البدء من دونها) فإنها يمكن أن تؤدي إلى عمل دائم. كانت تلك هي الحالة بالنسبة لآباديا التي حولها عملها الدائم من وظيفة مؤقتة إلى عمل دائم بمزايا الإشراف على مخزن المتجر الأضخم. ويعد الحصول على هذا النوع من الوظائف انتصارا في أوروبا اليوم، فراتبها الذي يقدر بـ1,200 يورو شهريا (نحو 1,600 دولار) يساوي ضعف ما كان يمكن أن تحصل عليه في إسبانيا. وقالت آباديا، بينما أضافت صديقاتها بالموافقة: «إذا لم تتبدل الأوضاع، فسوف يخسرون جيلين من الشبان الذكي، وعندئذ ماذا سيحدث للبلد التي تركوها وراءهم؟». هذه التساؤل يدور في أذهان القادة الأوروبيين، فقد غادر نحو 100,000 خريج جامعة إسبانيا وانتقل مئات الآلاف من دول أوروبا التي ضربتها الأزمة إلى ألمانيا وبريطانيا والدول الاسكندنافية للعمل في مهن الطب والهندسة والعلوم، فيما ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك إلى أستراليا وكندا والولايات المتحدة. * خدمة «نيويورك تايمز»



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟