محرقة نفايات في فيينا تتحوّل إلى مَعلم سياحي

تجذب السياح بهندستها المعمارية المميّزة وألوانها الصارخة

محرقة نفايات في فيينا تتحوّل إلى مَعلم سياحي
TT

محرقة نفايات في فيينا تتحوّل إلى مَعلم سياحي

محرقة نفايات في فيينا تتحوّل إلى مَعلم سياحي

يمكن للسائح في العاصمة النمساوية فيينا أن يزور أكثر من 107 متاحف، تتنوّع بين الفخامة كمتحف تاريخ الفنون، والغرابة في متحف وسائل منع الحمل، والخوف في متحف التعذيب، ومتحف الشوكولا وما يتميّز به من حلاوة. ناهيك عن متعة الفسحة في جزيرة الدانوب، وما تزخر به فيينا من حدائق وقصور ومسارح ومقاهٍ. وعلى الرغم من كثرة الأماكن السياحية وتنوّعها، فإنّ أهل المدينة ينصحون سياحها بزيارة محرقة النفايات التي تقبع في شرق المدينة بالمنطقة التاسعة قرب محطة قطارات.
تجذب المحرقة بهندستها المعمارية المميزة وألوانها الصارخة انتباه السياح من مسافة بعيدة، فيأتونها للزيارة والاطلاع على هذا المبنى الجميل، ليعرّفهم بالتفصيل على أهميته في الحفاظ على البيئة والفوائد التي تعود بها المحرقة على فيينا من خلال تغذيتها محطتها الكهربائية ومدّها بالتدفئة.
يصف أهل النمسا عموما وليس سكان فيينا فقط، تلك المحرقة بأنّها تناغم مذهل بين التقنية الصناعية والحرص البيئي وفن المعمار والتشكيل. صممها عام 1984 هندرت فاسر (1928 وتوفي عام 2000)، وهو من أشهر الفنانين المعماريين في أواخر القرن العشرين. عُرف بكراهيته الشديدة للخطوط المستقيمة، لذا فقد صمم جميع مبانيه بخطوط متعرجة وأشكال مختلفة ومنها مستدير. كان عاشقا لمختلف الألوان الصارخة، وقد نجح وأبدع في التنسيق فيما بينها، ويظهر الأمر بوضوح في تصميمه للمحرقة التي زخرفها بأقرب ما يكون لحجارة نادرة تتلألأ.
كما يعرف عن هندرت فاسر اهتمامه البالغ بالبيئة وضرورة الحرص عليها بمختلف الطرق والوسائل، لدرجة أنه تحول إلى ناشط بيئي سياسي.
وعموما فإنّ الاهتمام بالبيئة والحفاظ عليها سلوك نمساوي متوارث، يتربون عليه منذ الصغر، وتساعدهم السلطات بالإمكانات والوسائل التي تسهل ذلك.
يفهم المواطن النمساوي ما يطلقون عليه دولاب الحياة ويستمتعون بفصول السنة الأربعة ولهم إدراك أخضر بتأثير سلوك كل منهم شخصيا على صحة البيئة، ومن ذلك الاهتمام البالغ بفرز النفايات عند التخلص منها يوميا، مساعدة في تدوير ما يمكن تدويره.
من جانبها، تفرض الدولة قوانين صارمة في مجال التخلص من النفايات، وتحدّد رسوماً وتساعد بنشر حاويات خاصة لكل نوع منها في مختلف الأحياء والأماكن والطرقات.
من الأمور العادية جدا، أن تشاهد المواطنين بمختلف الأنواع والمستويات والأعمار وهم يفرغون أكياس نفاياتهم حسب مواقعها المحددة. فهذه حاوية للزجاج وتلك للبلاستيك وثالثة لبقايا الطعام ورابعة للورق. وللأجهزة والأثاثات غير المرغوب فيها مواقع بعينها.
هذا وتعتمد النمسا على إعادة تدوير ما يتراوح بين 63 و70 في المائة من نفاياتها وحرقها داخل منشآت خاصة حفاظا على البيئة واستغلالا للطاقة التي تنتجها في توليد الكهرباء، كما تُحوّل النفايات العضوية إلى أسمدة.
وحسب ما أوردته مصادر فإنّ فيينا منذ عام 1971 أوقفت طمر النفايات الخطرة باستثناء النفايات غير العضوية التي تدفن في تكوينات ملحية مقفلة. وبحلول عام 2004 منع طمر أي نفايات يزيد إجمالي الكربون العضوي فيها على 5 في المائة.
هذا وتستفيد النمسا من خبراتها العالية في التدوير أوروبيا بحرق نفايات تصلها مدفوعة الثمن من العاصمة الإيطالية روما. وللنمسا اتفاقات مع المجر وسلوفينيا لطمر بعض النفايات النمساوية.
تعمل في العاصمة فيينا 7 محارق أشهرها وأجملها محرقة «هندرت فاسر» التي تنظم يوميا جولات سياحية تستمر لثلاث ساعات للاستمتاع بها كمبنى معماري جميل ومميز، وفي الوقت ذاته للتعرف على طرق عملها البالغة الأهمية كمحطة تدوير خضراء.
في سياق موازٍ، يمكن لمحبي هندرت فاسر، زيارة منزله في المنطقة الثالثة وقد شُيّد بدوره بتصميم معماري مميز بالغ الروعة، ليس من حيث تعرجاته وجدرانه الملتوية وألوانه القوية فحسب، بل وللحرية الواسعة التي منحها للأشجار الباسقة والنباتات لتنمو كما تشاء، وتترعرع وهي تشق النوافذ وتنفذ عبرها، مما جعل منطقته أشبه بحديقة ظليلة غنّاء.
يقف قبالة المنزل متحف ومعرض خاص برسومات ولوحات هندرت فاسر، الفنان التشكيلي المبدع.
مما يجدر ذكره أنّ هندرت فاسر كان قد زار في أوائل سبعينات القرن الماضي، إقليم دارفور السوداني، مستقلا حافلة نقل عام في رحلته المباشرة من العاصمة الخرطوم حتى مدينة الفاشر التي تقع في غرب السودان وكانت عاصمة عموم الإقليم آذاك، بحثاً عن آثار وتاريخ ابن بلاده الضابط النمساوي سلاطين، الذي عينه الجنرال البريطاني غردون حاكماً على إقليم دارفور في عام 1878، ثم أسرته بعد ذلك قوات المهدي المنتصرة التي طردت المستعمر وحرّرت السودان ووحدته.
ويظهر الأثر السوداني الأفريقي في أعمال هندرت فاسر في ميله الواضح للألوان الصارخة المشرقة، كما يبرز ذلك في اختياراته المعمارية التشكيلية وتزيين بعض المباني بأشكال أسطوانية حمراء وسوداء وصفراء، بما في ذلك محرقة النفايات التي زيّنها بما يشبه حبيبات الخرز والعقيق، وجميعها يدخل في صناعة إكسسوارات الزينة الأفريقية الجميلة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».