هل شائعات الموت تعبير أسود عن حب مجنون؟

شادية أكثر من واجهها وعادل إمام سخر منها

شادية - عادل إمام
شادية - عادل إمام
TT

هل شائعات الموت تعبير أسود عن حب مجنون؟

شادية - عادل إمام
شادية - عادل إمام

أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من أهم العوامل في هذا الزمن لشيوع الأخبار وانتشارها. وقد ظهر كم الأخطاء والمبالغات التي باتت لصيقة الأخبار، وعلى الرغم من ذلك، فإن البعض، صار لا يكتفي فقط بالقراءة، لكنه يسارع بوضع الخبر على صفحته، لينتقل في لحظات من دائرة إلى أخرى، وليتحوّل بسرعة البرق إلى حديث الناس، بعد أن يتردّد أيضاً في العديد من الفضائيات «العشوائية» التي باتت تشكل حالياً - ومع الآسف - أهم ملامح الفضاء العربي، الذي يستحق منّا أن نُطلق عليه الفراغ العربي.
أول مبدأ يجب مراعاته في كتابة الخبر هو الصدق، الخبر ليس رأياً يحتمل أن تتعدد فيه زوايا الرؤية وتتباين خلاله وجهات النظر، لكنه يستند إلى حقيقة، مع الأسف كانت وتظل كلمة الحقيقة في هذا الزمن «التيك أواي»، هي المستحيل الرابع بعد «الغول والعنقاء والخل الوفي».
وهكذا مثلاً تتعدّد أخبار رحيل الفنانين على «السوشيال ميديا»، والغريب أن بعض الزملاء الصحافيين في عدد من المواقع الإخبارية، باتوا يسارعون بالنشر من دون التحقق من توفر عامل الصدق، ولا يعنيهم ما الذي من الممكن أن يُحدثه خبر الرحيل في دائرة العائلة أو الأصدقاء أو الجمهور العادي، مع الأسف صرت أشعر في هذا الزمن بأن المشاعر صارت غليظة لا تأبه أبداً بالآخرين، لا يعني ذلك بالمناسبة، أن الجيل الماضي لم يكن يتورط في نشر أخبار كاذبة، نعم بين الحين والآخر حدث ذلك، وكان بعضهم أيضاً يتعمد إيذاء الآخرين، أو ينال من فنان أدبي لحساب آخر، مؤكد لم يكونوا ملائكة، إلا أن تلك الألاعيب كانت تُشكل هامش الصورة، الآن صارت هي مع الأسف الجانب الأكثر بروزاً في الصورة.
قبل نحو 19 عاماً أذاع التلفزيون المصري خبر رحيل الفنان الكبير فريد شوقي، وفي ذلك الزمن قبل الانتشار الفضائي، فإن هذا يعني أن الكل في اللحظة نفسها قد تلقى الخبر نفسه، كان فريد شوقي أو كما كانوا يطلقون عليه «ملك الترسو» و«البريمو» قد انتقل إلى المستشفى، وقد كان يعاني ضعفاً في عضلة القلب، واعتقد التلفزيون المصري الرسمي وقتها لسبب أو لآخر، أن القلب قد توقف تماماً وفريد قد مات، لم تمض سوى ساعتين وعلى أكثر تقدير، إلا وكانت كاميرات التلفزيون وبناءً على تعليمات من وزير الإعلام الأسبق صفوت لشريف، تنتقل إلى المستشفى لتبثّ مباشرة على الهواء أن فريد شوقي لم يمت، وليسمع الناس ويرون نجمهم المحبوب، يُطلّ عليهم ضاحكاً مبتسماً ساخراً وهو يقول إنها مجرد بروفة لما سيحدث، وشكر الناس على مشاعرهم وحبهم له، وبالفعل لم يمض سوى 40 يوماً ليذيع التلفزيون مجدداً، خبر رحيل فريد شوقي وتمنّى الناس وقتها أن تصبح إشاعة ويخرج فريد ليؤكد أن البروفة لا تزال ممتدة. بالطبع كان العقاب قاسياً، فقد أُبعدت رئيسة التلفزيون من موقعها بسبب تسريب ونشر خبر غير صحيح.
كثيراً ما واجه الراحل عبد الرحمن الأبنودي مثل هذه السخافات. لكنه لطالما اعتبرها «لعب عيال» من عدد من الشباب. في حين كانت الفنانة الكبيرة شادية، من أكثر الفنانات اللواتي تعرضن بالفعل لشائعات متعدّدة على مدى يتجاوز 30 عاماً. بداية كانت شادية تحرص على تسجيل حوار لنفي الشائعة، لكن مع كثرة تكرارها، لم يعد يعنيها ذلك.
تؤدي مثل هذه الشائعات إلى الكثير من الإحباط لدى الفنانين، خصوصاً عندما تمتزج بإحساس بعضهم، بأن هناك من يقصد أن يذاع الخبر بسبب الغيرة المهنية أو الكراهية الشخصية. على المستوى الشخصي كثيراُ ما أتلقى مكالمات من بعض الزملاء الصحافيين والمذيعين في مصر والعالم العربي، وهم يقولون لي سمعت شائعة موت فلان، فأقول لهم هل تأكدتم؟ تأتي الإجابة نريد أن نتأكد منك والخبر تتداوله مواقع التواصل الاجتماعي.
في هذه الحال يصبح الأمر في غاية الحساسية، فهل أتصل مثلاً ببيت الفنان؟ فإذا ردّ على أحد أفرد أسرته أسألهم هل الفقيد لا يزال على قيد الحياة؟ وفي حال سماعي لصوت الفنان هل أقول له أخبار صحتك إيه؟ غالباً ما يكون الفنان في هذه الحال قد تلقى عشرات المكالمات المماثلة التي لا تفصح مباشرة عن هدفها، ولكنها تثير الريبة لديه والشك، وتنتهي عادة بتلك العبارة «الحمد لله أنا اطمنت عليك». سينتاب الفنان الشك، وربما يعتقد أنه انتقل فعلاً إلى الأعلى وهو آخر من يعلم.
والغريب أن العمر الزمني لا يلعب دوراً أساسياً في انتشار الخبر، ولا حتى الإصابة بمرض، بدليل أن الشائعات طالت أيضاً أحمد السقا وعمرو دياب وكبار الفنانين، مثل جورج وسوف، ونادية لطفي، وسمير غانم، ورجاء الجداوي، كما أن جورج سيدهم في شهر رمضان الماضي، واجه الشائعة نفسها واضطرت زوجته الدكتورة ليندا إلى الاتصال ببعض الأصدقاء، بينهم كاتب هذه السطور نافية الخبر، ومن أطرف المواجهات للخبر ما فعله عادل إمام حين أطلق سخرية لاذعة، خصوصاً أنه قبل تلك الشائعة بأسابيع قليلة، كان قد واجه واحدة مماثلة، وهكذا قبل نحو ثلاث سنوات، سخر من الموت وحرص على أن يلتمس الأعذار لمن لم يستطع المجيء إليه في لحظة وداعه، مؤكداً أنه تسامح معهم لأن هناك من انشغل في الاستوديو للتصوير لملاحقة العرض الرمضاني، وهو لا يستطيع أن يلوم أحداً منهم، فهو أيضاً لم يعزّ نفسه بنفسه، إذ إنه لا يزال يصور مسلسله.
شائعة الموت تنتهي فور تكذيبها، بينما الشائعات الأخرى تنمو وتكبر، مثلاً لو أن هناك من يطلق على فنان شائعة إصابته بمرض خطير مثل «الإيدز»، ويظهر الفنان عبر أجهزة الإعلام مكذباً الخبر، إلا أن الناس أو بعضهم على الأقل لن يصدقه، يظل هناك احتمال لتصديق الشائعة، كما أن هناك شائعات تتعلق بالسمعة الشخصية، لا يتورع من في قلوبهم مرض، عن ترديدها.
من شائعات الموت التي ملأت الصحف والإذاعة والتلفزيون منذ منتصف الخمسينات، مع بداية نجاحه، هو عبد الحليم حافظ، وكانت كثيراً ما تلاحقه نظراً لحالته الصحية الصعبة، وإصابته بدوالي في المريء، وكثرة تعرضه للنزيف، كان البعض كثيراً ما يشكك في أن عبد الحليم هو الذي يروّج للمرض حتى يزداد تعاطف الجمهور معه، ولم يكن ذلك صحيحاً، فلقد تفاقمت عليه الأمراض، وعندما كانت تتردّد شائعة الرحيل، يقولون إنه هو الذي أطلقها على نفسه، ورحل يوم 30 مارس (آذار) 1977، في أحد المستشفيات بلندن، وتمنى الجميع التكذيب باعتباره شائعة، ولكن مع الأسف جاء التأكيد، وعند إذاعة خبر الرحيل في التلفزيون المصري، أكثر من فتاة أقدمت على الانتحار حزناً على رحيله.
أكثر خبر يهز مصداقية الصحافي والصحيفة هو خبر الموت الكاذب عندما يستند إلى شائعة، ولقد حيكت بالفعل، تلك المؤامرة ليتورط صحافي كبير في نشر الخبر.
هذا مثلاً ما حدث مع ممثل ومطرب قدير هو عبد العظيم عبد الحق، حين سُرّب خبر للصفحة الأخيرة في جريدة «الأهرام» عن موته، وكان يشرف على الصفحة الكاتب الكبير كمال الملاخ، وذلك مطلع السبعينات من القرن الماضي، والمكيدة تمت على النحو التالي، إذاعي كبير كان يثق فيه كمال الملاخ قال له الخبر، وسارع الملاخ ثقة في مصدره بالنشر، وتورطت الجريدة الرسمية الأولى في النشر، ليأتي التكذيب بعد ذلك قاسياً جداً، حيث عُرض في برنامج من أشهر البرامج التلفزيونية في ذلك الزمن «النادي الدولي»، وكان يقدمه سمير صبري، ليشاهد الناس الجريدة في لقطة مكبرة تخفي وجه من يحملها وهي تُشير للخبر وبه صورة عبد العظيم عبد الحق، باعتباره قد غادر الدنيا، وشيئاً فشيئاً، تنخفض الصفحة ليطل على الناس وجه عبد العظيم عبد الحق.
أما أكثر الشائعات جنوحاً، فلقد كانت عكسية تماماً وهي أن يعود الفنان الراحل مجدداً إلى الحياة، حدث ذلك منذ أكثر من ربع قرن، عندما انتشرت في مصر والعالم العربي - على الرغم من أننا لم نكن قد وصلنا بعد لعصر النت - شائعة تؤكد أن الفنان صلاح قابيل عاد للحياة وخرج من مقبرته وهو يرتدى بيجامة، واكتشفنا بعد ذلك أن سر الشائعة هو أن إحدى المجلات المصرية، نشرت بعد رحيل صلاح حواراً مختلقاً معه، وكانت على الغلاف صورته بالبيجامة أخذوها من مسلسل قديم له.
لا أتصور أن شائعات الموت قابلة للحياة أكثر من دقائق معدودة، في ظل الانتشار الفضائي، ولهذا فلم تعد سلاحاً من الممكن استخدامه للنيل من أحد، كما أنها تبدو في جانب منها نوعاً من الحب الذي قال عنه الشاعر الكبير بشارة الخوري «ومن الحب ما قتل»، ومن الشائعات المغرضة أيضاً ما قتل.
يظل الأمر في حاجة إلى دراسة اجتماعية ونفسية، لماذا صارت تنتشر عبر «الميديا» وبكثافة شائعات موت المشاهير؟ بينما بات من السهل جداً تكذيبها في ثوان وعبر «الميديا» أيضا، فهل هو نوع آخر من جنون الحب؟



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)