شركة فرنسية تخفف احتقان زبائنها بطريقتها الخاصة

بتحطيم أطباق وتكسير براد أو فرن مايكروويف بعصا للبيسبول

إحدى غرف تنفيس الضغوط اليومية
إحدى غرف تنفيس الضغوط اليومية
TT

شركة فرنسية تخفف احتقان زبائنها بطريقتها الخاصة

إحدى غرف تنفيس الضغوط اليومية
إحدى غرف تنفيس الضغوط اليومية

تتيح شركة فرنسية متخصصة في خدمات تغيير السكن لعملائها التنفيس عن الاحتقان والضغط النفسي في الحياة اليومية في مواقع مخصصة لتحطيم أطباق وتكسير براد أو فرن مايكروويف بعصا للبيسبول للشعور بالراحة.
وتقول إيلورا تولسون: «المرة الوحيدة التي حطمت فيها غرضا، كان ذلك عبارة عن صحن كسرته من دون قصد».
وتتجه هذه الشابة بخطوات مترددة معتمرة خوذة وواضعة قفازين في اتجاه «منطقة الرمي» الواقعة في حجرة داخل شركة لخدمات تغيير السكن في منطقة نويال شاتيون سور سيش قرب مدينة رين في بريتانيه (غرب).
وتوضح هذه الشابة البالغة من العمر 20 عاما: «أتيت إلى هنا لرؤية ما إذا كنت قادرة على تخطي خجلي ومخاوفي والتجرؤ أمام الناس على القيام بمثل هذه الأمور»، حسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية. وبتشجيع من المشاركين الستة الآخرين، تقوم إيلورا بتحطيم زجاجات بمساعدة عصا للغولف.
وتؤكد جنيفر لو غوين وهي منشطة هذا المحترف، واستوردت فكرته من اليابان أن هذا المكان «يوفر التسلية والعلاج في آن معا، الناس يمكنهم المجيء فقط للتسلية أو لكسر المحظور. هذا المحترف يشكل متنفسا، نسعى للتنفيس عن كل توتراتنا التي تتراكم تدريجاً. بعد تحطيم الأغراض، يشعر الناس بأنهم أفرغوا مكنوناتهم وروّحوا حقا عن أنفسهم».
وحققت هذه الفكرة نجاحا في الولايات المتحدة (عبر ما يسمى «ريدج روم» أو «أنغر روم»)، كما أن مواقع أخرى لهذه الغاية موجودة في فرنسا في مدينتي باريس وليون (وسط شرق) إضافة إلى رين.
ومع التقدم في الحصة التي تستمر ما بين 90 دقيقة و120 تنشأ روح عمل جماعي وتصبح الضربات أقوى والصراخ أوضح كما أن الحطام من الأنواع كلها ينتشر في الحجرة التي تبث فيها بلا توقف موسيقى روك صاخبة.
وتقول لو غوين المتخصصة في أصول التحكم بالضغط النفسي: «الأمور تتصاعد تدريجا: في البداية نكسر عبوات زجاجية ثم ننتقل لتحطيم الأطباق ثم الأدوات الكهربائية المنزلية».
وفي الجزء الثاني من ورشة العمل هذه، على كل مشارك اختيار 15 غرضا من قطع استغنى عنها أصحابها وباتت مخصصة للكسر بعدما جمعتها شركة «ديميناج موا» الفرنسية. وقبل رمي أمور شتى على الجدار من أطباق ومنافض سجائر وأباريق شاي، يدوّن المشاركون عليها «مواضع الانزعاج» لديهم.
وترمي جاني تولسون والدة إيلورا من دون تردد طبقها الذي دونت عليه عبارتي «تقاعد» و«فاتورة» فيما يكتب آخرون بتكتم أسماء عشاقهم السابقين.
وتشير هذه الفرنسية البالغة 56 عاما: «نشعر بالارتياح من دون أي تشنج لدى رمينا الأغراض. إنه شعور جميل، ليس ذلك رضا ناجما عن عنف الحركة بل تنفيس للاحتقان».
وتترك مكانها في الحجرة لإليز التي تبدي شعورها بـ«الهدوء» رغم «الغليان الداخلي» خصوصا خلال الرحلات بالسيارة.
وبدل صب جام غضبها على «كومبيوتر العمل أو من خلال ركل أحدهم»، تنفّس هذه الموظفة الرسمية احتقانها على الأثاث الموضوع في تصرفها خلال الجلسة العلاجية.
كليمانس، 26 عاما، أتت برفقة حبيبها غاييل، 29 عاما، لاختبار هذا المتنفس الذي تراوح تكلفة الجلسة الواحدة منه بين 50 يورو و70. ويؤكد الحبيبان أنهما في حالة «ضغط».
وتقول كليمانس المتحدرة من رين: «الضغط النفسي يغمرني ويفسد حياتي، لا أستطيع التحكم بنفسي بقدر غاييل».
ويوضح غاييل من ناحيته «لم أكن أفكر بشيء معين، بل أتيتنا فقط لتنفيس الغضب بكل قوانا...هذا الأمر يسمح رغم كل شيء بإخراج أمر ما. هذا مصدر ارتياح».
وتنهي إيلورا الجلسة منهكة: «كان الأمر ممتعا لكنه منهك. تمر أمور في ذهننا خلال التحطيم. ما كنت لأتصور أني سأكسر برادا عند وصولي إلى هنا... وإلا أن أشعر بالرغبة في إعادة الكرة!»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)