هل إكمال كورس المضاد الحيوي ضروري؟

المراجعات الطبية المبنية على الأدلة والبراهين تتعرّض بشكل مستمر للموروثات التي تتعارف عليها الأوساط الطبية والتي تقولها للناس كمُسلّمات لا تحتاج إلى نقاش. ولمنْ ينظرون بإيجابية ويدعمون التطور الحقيقي للطب، تمثل هذه المراجعات الطبية أحد الجوانب المهمة والمفيدة للتطور الطبي بما يخدم فعلياً تحسين صحة الناس. والواقع أن عدداً من تلك الموروثات الطبية التي تُصنّف كمُسلّمات لدى الوسط الطبي هي في حقيقة الأمر عبء على الوسط الطبي في تواصلهم مع عموم المرضى والأصحاء لأن ثمة شواهد واقعية يُعايشها المرضى والأصحاء تتعارض مع تلك الموروثات والمُسلّمات ولا تُوجد أدلة علمية تدعمها.
على سبيل المثال دعونا نراجع الدراسة الطبية المنشورة ضمن عدد 26 يوليو (تموز) للمجلة الطبية البريطانية BMJ، للباحثين من كلية برايتون وسوسكس للطب وجامعتي أكسفورد وساوثامبتون ومراكز طبية أخرى حول تناول المضادات الحيوية، وتحديداً لمناقشة الإجابة عن السؤال التالي: هل يتعين على المريض إكمال فترة كورس تناول المضاد الحيوي Antibiotic Course الذي يطلبه منه الطبيب؟ وهل عدم إكمال المريض للكورس هذا يعني ارتفاع وانتشار حالات نشوء مقاومة الميكروبات للمضادات الحيوية المعروفة Antibiotic Resistance؟
المضادات الحيوية هي أحد الأعمدة الأساسية للمعالجات في الطب الحديث، وهي أهم وسائل خفض معدل الوفيات العالمية خلال القرن المنصرم مقارنة بما كانت تُعاني منه البشرية قبل ذلك عند الإصابة بعدوى أحد أنواع البكتيريا على مستوى الأوبئة الجائحة أو المستوى الشخصي للمرضى. وثمة حالياً تهديد صحي عالمي سببه نشوء قدرات لدى البكتيريا لمقاومة تأثيرات المضادات الحيوية المتوافرة للاستخدام الطبي، وهو ما يدفع الأوساط الطبية للعمل على جانبين، الجانب الأول: إنتاج أنواع جديد من المضادات الحيوية التي لم يسبق للبكتيريا التعرض لها وبالتالي لا تتوافر لديها أي قدرات على مقاومتها، والجانب الثاني: خفض احتمالات تكوين البكتيريا للقدرات التي تُمكنها من مقاومة المضادات الحيوية وذلك عبر اتخاذ عدة تدابير عملية ثبت علمياً أنها مفيدة بالفعل في تخفيف وطأة حالة النشاط المُقاوم الذي تمتلكه البكتيريا ضد المضادات الحيوية.
ووفق ما ذكره الباحثون في مقدمة الدراسة، فإن قدرات البكتيريا على مقاومة المضادات الحيوية هو «تهديد صحي عالمي مُلحّ»، وأن العلاقة بين التعرض للمضادات الحيوية Antibiotic Exposure بتناولها أو تلقيها عبر الوريد وبين نشوء مقاومة للمضادات الحيوية من قبل البكتيريا هو حقيقة لا لبس فيها على المستوى السكاني العام وعلى المستوى الشخصي للمريض، ومن ثمّ فإن الحدّ من الاستخدام غير الضروري للمضادات الحيوية هو تدبير ضروري جداً للتخفيف من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية المتوافرة عالمياً اليوم.
وأضافوا أن هذا، أي تجنب الإفراط في تناول الناس للمضادات الحيوية، يتطلب من المتخصصين الطبيين ومن عموم المرضى أن يكونوا على دراية جيدة بكيفية تلقي المعالجة بتناول المضاد الحيوي، وهو ما تجعله منظمة الصحة العالمية الهدف الأول لخطة العمل العالمية لمواجهة مشكلة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. واستطرد الباحثون بالقول: إن مما يُقال للناس في هذا الشأن من قبل الأوساط الطبية أن عدم إكمال المريض تناول كورس المضاد الحيوي يضعه ويضع غيره من الناس في خطر المعاناة من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وأن عدم إكمال كورس المضاد الحيوي هو ما سيجعل معالجتهم بالمضادات الحيوية مستقبلاً صعبة لو احتاجوا إليها.
وأعطى الباحثون أمثلة على هذا الكلام، منها العبارات الواردة في نشرات «أسبوع التوعية بالمضادات الحيوية لمنظمة الصحة العالمية 2016» والتي تضمنت عبارة: «دائماً أكمل فترة تناول وصفة المضاد الحيوي، حتى لو شعرت بتحسّن، لأن التوقف عن تناول المضاد الحيوي بشكل مبكّر سيُسهم في نشوء قدرات مقاومة المضادات الحيوية لدى البكتيريا»، وكذلك العبارات المماثلة للحملة الوطنية الأسترالية لمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية في كل من أستراليا وكندا والولايات المتحدة وعدد آخر من الدول الأوروبية، كما ذكر الباحثون أن في بريطانيا تُضمن هذه المعلومة في المنهج الدراسي لطلاب المرحلة الثانوية. وإزاء كل هذا الانتشار لهذه المعلومة في الأوساط الطبية وفي حديثها مع عموم الناس، قال الباحثون: «ومع ذلك، فإن فكرة وقف العلاج بالمضادات الحيوية في وقت مبكر ستشجع المقاومة للمضادات الحيوية هي فكرة لا تدعمها الأدلة، في حين أن أخذ المضادات الحيوية لفترة أطول من اللازم يزيد من خطر المقاومة. ومن دون التناقض الصريح مع النصائح السابقة، فإن المواد الإعلامية الحالية الصادرة عن المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها CDC والصحة العامة بإنجلترا PHA وضعت محل عبارة إكمال الكورس بعبارة تناول المضادات الحيوية بالضبط كما هو محدد». أي ثمة مراكز طبية عالمية تعرف أن ثمة خلل في العبارة التي تطلب من عموم الناس الالتزام بإكمال كورس المضاد الحيوي وتضع عوضاً عن ذلك عبارة أكثر دقة وأكثر مرونة للطبيب في توصيته للمريض تناول المضاد الحيوي لعدد من الأيام التي يرى الطبيب أن حالة المريض تتطلبها لإكمال فترة المعالجة. وأضاف الباحثون: «في دراستنا هذه أجرينا بحثاً استكشافياً حول الأدلة العلمية لمدة تناول المضاد الحيوي والفاعلية الإكلينيكية ومقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية ونحث الأوساط الطبية على الكف عن النصح بإكمال كورس المضاد الحيوي عند الحديث إلى الناس. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن تصرح الأوساط الطبية علنا وبصورة نشطة أن القول بضرورة إكمال كورس المضاد الحيوي لم يكن قائما على الأدلة العلمية وأنه غير صحيح».
وهذا الطرح الجريء والمثير للجدل بين الباحثين الطبيين والعاملين في الوسط الطبي يُعيد التفكير إلى ضرورة النظر إلى المضادات الحيوية بأنها أدوية للتغلب على البكتيريا، وليس الفيروسات أو غيرها من الميكروبات التي تتوافر لها أدوية أخرى غير المضادات الحيوية، وأنه حينما لا يكون ثمة التهاب عدوى بكتيرية فإن وصفها هو بلا حاجة ويتسبب بالضرر المحتمل على المريض ويتسبب بالهدر الأكيد لهذه الأدوية المُكلفة ماديا. كما يُعيد ضرورة أن تضع الأوساط الطبية ضوابط لتقييم الطبيب عدد أيام تناول المريض للمضاد الحيوي وليس كما تتضمنه عبوة المضاد الحيوي. هذا من جانب، ومن جانب آخر على الأوساط الطبية إدراك أن مشكلة نشوء مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية هي مشكلة مهمة، ولذا فإن وسائل التغلب عليها يجب أن تكون وسائل صحيحة ويكون هناك ما يدعم جدواها من الأدلة العلمية كي يتم تحقيق نجاح طبي في التغلب على هذه المشكلة.
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
h.sandokji@asharqalawsat.com