«السيرك السياسي» للتصفيق والانشراح... وممنوع التحليل

يمزج بين الفنون في توليفة تجريبية جريئة

مشاهد من عرض «السيرك السياسي» ضمن مهرجانات بيت الدين
مشاهد من عرض «السيرك السياسي» ضمن مهرجانات بيت الدين
TT

«السيرك السياسي» للتصفيق والانشراح... وممنوع التحليل

مشاهد من عرض «السيرك السياسي» ضمن مهرجانات بيت الدين
مشاهد من عرض «السيرك السياسي» ضمن مهرجانات بيت الدين

من أجواء الانتخابات التي يتحضّر لها لبنان، والأوضاع العبثية التي يعيشها المواطنون، وهزلية المرشحين واستحقاقهم لأقصى درجات السخرية، استوحى عرض «السيرك السياسي» في «مهرجانات بيت الدين» أجواءه. والعمل الذي يقدم لثلاث ليال بدأت مساء الأربعاء، يجمع بين الفكاهة والبهلوانية، والموسيقى الحية، والغناء والرقص وفنون الأداء الصامت. خلطة فنية تستوحي الواقع، لكنها تخبر متفرجها قبل بدء العرض بأنها لا تستطيع أن تكون أكثر جنوناً مما يعيشونه في يومياتهم.
على الشاشة تستقبلك، بمجرد دخولك الباحة التاريخية الصغيرة لقصر بيت الدين، عبارات: «الشخصيات والأحداث الواردة في هذا العرض من صنع الخيال ولا تمت إلى الواقع بصلة، حتى وإن تشابهت مع هذا الواقع فهذا يعني أنّ هذا الأخير قد أصبح أقرب إلى الخيال. فلا تحللوا أو تُدللوا انبسطوا زقفوا وتسلو».
وهذا تماماً ما عليك أن تفعله مع عرض يستمر لما يقارب الساعتين، يبدأ مع المهرجين الذين يعتلون الخشبة بأنوفهم الحمراء، وملابسهم الفضفاضة المزركشة، والفرقة الموسيقية الحية التي اتخذت ركناً جانبيا أمام المسرح، بقيادة لبنان بعلبكي، ويبدأ المرح والغناء «السيرك السياسي، مسرح دبلوماسي، في لحظة براءة والباقي خباثة». و«في مهرج بيشرشر دم، وفي مهرج بينقّط سمّ، وفي لحظة حقيقة والباقي طناشة».
إننا في بلد اسمه «خربة الأحلام» الذي يكتشف المتفرج من شخصياته ومشاكله وعثراته أنه يعرفه جيداً: «بلد أهله زهقانين وولادن مهاجرين والكل مشتاقين». بلد تظهر عليه عوارض القلق والكآبة والتململ، لذا قرر سياسيوه أن ينظموا انتخابات.
التنظيم لحملة المرشح الوحيد للانتخابات أبو فاس النسناس (نعيم الأسمر)، الرجل الفحل الذي لا يظهر إلا في اللحظات الأخيرة، يحتل جزءاً رئيسياً من المشاهد، تشرف على الأمر فيكتوريا (ياسمينا فايد) بحيويتها وألقها، وإدارتها للمحتفين من مهرجين ومصفقين ومطبلين. البروفات التحضيرية تتكرر والراوي العبثي (هشام جابر كاتب ومخرج العمل أيضاً) يخرج علينا بعينيه شبه الثملتين ليحكي قصة «خربة الأحلام»، ويحدثنا عن أحوال أهلها. فرقة السيرك البهلوانية الأجنبية التي تشارك في هذا العمل، تقدم أحياناً وصلات منفردة. نشاهد بهلوانية ماهرة تسير على حبل رفيع ثبت على طول الخشبة تقطعه ذهاباً وإياباً، ترافقها أغنية «خليك متوازن خليك موزون ببلد ركّبوا الطبلة مطرح القانون» و«كله كرمال الوطن بيهون». وفي مشهد آخر لاعبة سيرك أخرى تتسلق طرحة قماش علقت عمودياً صعوداً وهبوطاً لترافق أغنية أخرى «هذا البلد هوه المرض وهوه الدوا. ما بعرف ليش بضل معلقة فيه بحبال الهوا». وفي مقطع آخر من تمثيل القدير فائق حميصي نشاهده ساحراً مع فتاة الصندوق التي تخترقها آلات حادة دون أن تقطع جسدها، وتظهر للجمهور معافاة في النهاية.
عمل تجريبي بامتياز، يكتب إنتاجه لـ«مهرجانات بيت الدين» التي تحاول جاهدة كل سنة، رغم الأوضاع المادية الصعبة، أن تشجع الفنانين اللبنانيين المهرة، وفرقة «مترو المدينة» التي سبق لها أن قدمت عرضي «هشك بشك» و«بار فاروق» بنجاح باهر - وأحدهما كان من إنتاج «بيت الدين» أيضا - تستحق المغامرة لجديتها أولاً وحرفيتها، ورغبتها في الذهاب إلى الصعب بدل الاستسهال، واحترامها لجمهورها. غير أن العرض الجديد رغم كل ما سخر له من إمكانيات احترافية بقي بحاجة إلى ما يشد مشاهده إلى بعضها البعض ويربط أطرافه المشتتة، وحواراته واسكتشاته التي تحاول أن لا تكون مباشرة وفجة، تذهب أحياناً إلى نتائج عكسية حتى ليشعر المتفرج أنها تخرج عن السياق. يحتاج العرض إلى إعادة توليف وحبك حكاية، فهو كوميدي وحزين وأحياناً يقترب من النواح، موزيكال وغنائي مع اعتماد بعض مشاهده على الأداء الصامت، بهلواني مع إشراك الحكواتي التقليدي وإن لم تكن إطلالته كلاسيكية. يريد أن يتحدث عن واقع معروف بأسلوب خارج عن المألوف. ثم يأتي غناء الهوارة الطالعة من الفلكلور اللبناني لتختلط بأصوات أوبرالية. توليفة غير تقليدية، تحاول أن تصالح وتمزج وتبتكر وتقدم جديداً، يأتي أحياناً مرتبكاً.
وفي النهاية، تنتهي البروفات، يبدأ الحفل الانتخابي بالفعل ويخرج علينا أبو فاس النسناس بملابسه الإفرنجية (وهذا ليس مصادفة) ويقف على المنصة ليلقي خطابه الذي يستحق التهليل والتصفيق والطبل والزعيق من جمهور تدرب على التفخيم والتدليس. ورغم أن المرشح لا يقول سوى أحرف وعبارات مكرورة غير مفهومة يغنيها حيناً ويجودها أوبرالية حيناً آخر، ويصير الجمهور ومثلهم الصحافة يتعثرون بنفس الحروف فإن الرقص والتصفيق والابتهاج بالمرشح يبقى متواصلاً.
وتستمر حفلات «مهرجانات بيت الدين» في موسمها الصيفي لهذا العام، لتقدم حفلها الأخير يوم 12 من الجاري بصوت ماجدة الرومي معلنة ختام الدورة الحالية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)