تنتاب المتأمل، في العادة، مشاعر متضاربة تجاه العلم ومنجزاته، فتارة التفاؤل والإعجاب والفخر بقدرة الإنسان وشجاعته في كشف اللثام عن خبايا الطبيعة وأسرارها، بل إقدامه على مواجهة الحتميات وتعديلها وتصويبها (تسخير المادة، تصحيح النظر، تعديل وراثي، تجميل...)، وتارة أخرى يحس المرء بالتشاؤم، وأن الأمور تسير إلى الهاوية؛ إذ لم تعد مغامرة العلم مريحة كما الأول، بل أصبحت مثار نقد واتهام. فعموماً، هناك فريقان: واحد يرى في العلم الخلاص، على أساس أنه المنقذ الذي ينبغي التعويل عليه للتخفيف من معاناة البشر وقسوة الطبيعة؛ ففهم حركيتها وعللها القريبة يسمح بالتحكم فيها، ومن ثم التحرر من قبضتها وخطورتها علينا. أما الفريق الآخر فهو يلح على أن كثرة المعرفة كانت وبالاً علينا، فالإنسان عاش في الماضي في حضن الأسطورة والدين أقل تعاسة منا نحن الذين نحيا في قلب المنجزات العلمية، فملء الطبيعة بالقداسة والسحر لهو أهون من هتك أسرارها وجعلها فاترة باردة دون روح؛ فالتعامل العلمي «الموضوعي» والآلي مع الأشياء عن طريق حمى البحث في العلاقات السببية تقتل جماليتها وتجعلها صماء، باختصار يؤكد هذا الفريق ذو النزعة المتشائمة أن العلم قد خذلنا وزجّ بنا وما زال في الكارثة. إلى درجة أن البعض يطالب بترك العلم نهائياً.
ولتأكيد تنافس النظرتين، المتفائلة والمتشائمة، تجاه العلم، يكفي أن نتذكر جميعاً كيف أنه وبمجرد ظهور تكنولوجيا جديدة مثل «Les OGM» أي الأعضاء المعدلة وراثياً، فإن ذلك قد أفرز مباشرة منطقين متباينين، وهما: واحد يفكر فيما سيتم جنيه من أرباح، والآخر يخشى من الخسائر والتبعات المترتبة عن ذلك.
إن النظر إلى العلم بمخاوف، له في الحقيقة ما يبرره، فنعم كان هناك فزع من قنبلتي هيروشيما ونكازاكي، وهناك تغير في المناخ ينبئ بالخطر، وهناك ارتفاع في منسوب البحر، وأصبحت أبقارنا مجنونة، ونكاد نختنق بالتلوث. وهناك مسار تحديد للنسل والهندسات الوراثية المرعب الذي ينبئ بتغير في ملمح الإنسانية المعتاد... كل هذا خلق شكوكاً حول العلم؛ فهو مغامرة مخاطرها أكثر من مكاسبها. لكن هل يمكن أن نلقي كل هذا على عاتق العلم؟ أليس في ذلك نوع من المبالغة في تحميل كل ذلك للعلماء؟
يرفض إتيان كلان «Etienne Klein» المولود سنة 1958 والمتخصص في الفيزياء الدقيقة والمهتم بفلسفة العلوم في كتابه «غاليليو والهنود» Galilée et Les Indiens (طبعة فلاماريون لسنة 2013) النظرة المتشائمة تجاه العلم؛ إذ يقف موقف المدافع والرافض لأن تعلق على العلم كل مآسي البشرية، فهو يرى أن المشكلة لا تكمن في العلم أبداً؛ وذلك لسبب بسيط وهو أن العلم لا يقول لنا ماذا علينا أن نفعل؟ فهو يكتشف حقائق وكفى، فدور العالم هتك الخبايا وتقديم حقيقة، حول سير الطبيعة ومحاولة وضعها في قوانين ونظريات صارمة رياضياً، أما استغلال هذه الحقائق بطريقة مخلّة أو مضرّة، فهذا يعود لأمر غير علمي.
هذا الأمر جعل إتيان كلان يطرح السؤال التالي: ماذا علينا أن ننتظر من العلم؟ ليجيب عن ذلك: بالطبع ليس الخلاص. فالعلم يؤهلنا لمعرفة محدودة دون الدخول في تنافس مع الطرق الأخرى لرؤية العالم، وإذا كانت المعرفة العلمية كونية فهذا لا يعني أنها كاملة، بل هي معرفة تجيب فقط عن الأسئلة التي تدخل ضمن إطار اشتغاله، فالكثير من الأسئلة التي يطرحها البشر ليست علمية أصلاً من قبيل: كيف نعيش معاً؟ كيف نحقق العدالة؟ كيف نفكر في الحرية؟ ما الحق؟... هذه الأمور القيمية، كما يؤكد إتيان كلان، لا يمكن أن تكون ضمن حقل العلم. وإذا سلمنا بأن العلم لا يقول لنا ماذا سنفعل، فما منبع الخلاص إذن؟ يقول إتيان كلان: إذا ما أخذنا البيولوجيا بصفتها حقلاً علمياً، فهي تخبرنا - مثلاً - بكيفية صناعة كائن معدل وراثياً، لكن هي لا تقول لنا هل سنفعل ذلك أم لا؟ فمن سيقرر ذلك يا ترى؟ يؤمن إتيان كلان بأن الجواب يجب أن يكون بعد مشاورة جماعية تستدعي ما أمكن الذكاء الجماعي. فالعالم دوره محدود هو أن يقول منجزه وينسحب، ولكن أن يجيب عن سؤال الخلاص فهذا ليس مجاله أبداً.
إن الدعوة إلى التخلص من العلم بمبرر أنه كلما عرفنا قليلاً تصرفنا جيدا، هي دعوة بائسة من وجهة نظر إتيان كلان إلى درجة أنه قال: «وكأن الأخطاء المرتكبة باسم العلم تجعل من الجهل قيمة!».
كاتب مغربي