كتاب لمراسلة «نيوزويك» عن تجربتها في حلب

جانين جيوفاني حازت جائزة الصحافية الأشجع في العام الماضي

جانين جيوفاني مراسلة حربية
جانين جيوفاني مراسلة حربية
TT

كتاب لمراسلة «نيوزويك» عن تجربتها في حلب

جانين جيوفاني مراسلة حربية
جانين جيوفاني مراسلة حربية

حازت الأميركية جانيت جيوفاني في العام الماضي على جائزة الشجاعة في الصحافة التي تمنحها المؤسسة العالمية للمرأة والإعلام. لكنّ الشجاعة مفهوم فضفاض، وهي قد تختلط بالخوف وبالإحباط والشعور بالعجز. هذا ما نفهمه من الكتاب الذي أصدرته جيوفاني عن تجربتها في تغطية النزاعات في سوريا كمراسلة حربية لـ«نيوزويك». إنّها رئيسة تحرير شؤون الشرق الأوسط في موقع المجلة الأميركية منذ ست سنوات. وقد اشتهرت بالتقارير التي كانت ترسلها من حلب، وهو موضوع كتابها المعنون: «في اليوم الذي قرعوا فيه على أبوابنا».
حظيت جيوفاني بمكانة في المهنة بفضل تنقلاتها لأكثر من ربع قرن في مناطق الحروب والنزاعات. ولأنّها امرأة، فقد عرفت بأنّها تركز على معاناة المدنيين، الأمر الذي يبدو ثانوياً لطائفة من المراسلين الحربيين الذين يهتمون بسير المعارك. وهي قد كتبت عدة تحقيقات من داخل مدينة حلب منذ اندلاع الصراع في سوريا عام 2011، ولهذا فإنّها تأسف لما آلت إليه المدينة من مأساة وتعتبره خسارة شخصية لها. وقد قرّرت أن تنشر في كتاب يومياتها التي عاشتها هناك، لتكون شهادة على أحوال الناس العاديين، أي الرجال والنساء الذين لم يحملوا السلاح، وكذلك الأطفال الذين مزقت القنابل أجسادهم الطرية. كما تحكي عن الأطباء والممرضات الذين قاموا بجهود جبارة تحت القصف، أو عن الخبّازين الذين كانوا يواجهون الموت لكي يحفظوا للأهالي لقمتهم، وعن ربات البيوت اللواتي رأين سقوفها تنهار على رؤوسهن ورؤوس أبنائهن. إنّه كتاب إنساني يمكن أن يُقرأ مثل رواية، عن شخصيات قابلتها المؤلفة خلال رحلاتها المتتالية إلى حلب. وهي تقول: «لقد غطّيت طوال 25 عاماً الكثير من جرائم الحروب ضد السكان المدنيين، من سيراليون إلى البوسنة، مروراً بالشيشان والعراق. وكان هدفي لفت أنظار الرأي العام وإيقاظ الضمائر لكي لا تتكرر تلك المآسي مرة أخرى. لكن كل ذلك الجهد لم ينفع في شيء. أشعر بأنّني عاجزة، وفي الوقت نفسه أرغب في العودة إلى هناك لكي أواصل شهادتي على ما يجري وأنقل عذابات الأبرياء. وكذلك أنقل هذه اللامبالاة الإنسانية المخجلة إزاء سحق كبرياء البشر».
تعرف جانيت جيوفاني أنّها تشهد خراب مدينة عمرها 7 آلاف سنة. وهي قد جمعت أحاديث الأطباء والطّلاب وربّات البيوت الذين كانوا يحكون لها عن السرعة التي انهارت فيها الحياة اليومية في المدينة. وتكتب: «في واحدة من تلك المقابلات، روت لي سيدة سورية أنّها كانت لدى طبيب الأسنان، وكانت ابنتها تستفسر عن التسجيل في دورة لتعليم الرقص، ثم فجأة انقطع الماء في المواسير، وأغلقت المصارف أبوابها، ولم تعد سيارات جمع القمامة تمر في الأحياء السكنية. ما عاد يمكن الخروج والتنزه وارتياد المقاهي والمطاعم. هناك خطرٌ يحدق بالأهالي ورشقات رشّاشات ورصاصات تائهة. ثم صارت السوق هدف القناصة. وظهرت الحواجز في الطرقات. وبدأت الطائرات العمودية الروسية تحلّق في سماء حلب، دائماً في الموعد نفسه، صباحاً وعند نهاية النهار. وتدهورت المدينة نحو الفوضى. إنّ أصعب ما يمر به الإنسان عند اندلاع الحروب، هو افتقاده القاسي للحياة اليومية العادية الآمنة. الحرب تعني الملل والانتظار الذي لا ينتهي».
وما بين القناصة من جهة، والبراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات النظام السوري، كانت الأمهات حريصات على تحويل سراديب البيوت إلى صفوف دراسية لكي لا يتأخر أولادهم وبناتهم عن متابعة الدروس بعد إغلاق المدارس. وتنقل الصحافية عن محمود، وهو صاحب محل لتصليح السيارات، حولته الحرب إلى خبّاز: «لكي أنسى القصف فإنني أحصر تفكيري في العجين. لكنّ أنصار النظام هدّدوني بالقتل لأنّ الخبز هو لقمة الناس التي تساعدهم على الصبر والمقاومة واحتمال الحصار والتجويع. وقد كانت أرغفتي تصل إلى الكثير من المناطق المحاصرة». كما تصف جلوسها على سطح مستشفى قصفته الطائرات الروسية بعد ذلك، وكيف كان الأطباء يشعرون بالعجز وباليأس، لكنّهم يواصلون العمل بما تيسّر لهم من مواد وأدوية.
وتقول إنّهم كانوا يتقاسمون الرغيف ويغنّون للتسرية عن النفس واستجماع الهمّة، في ساعات الهدوء. وتضيف في كتابها: «لم يكن لي خيار. فأنا لست طبيبة ولا أشتغل في السياسة ولست موظفة في الأمم المتحدة. إنّ الكتابة مهنتي. وقد سمحت لي بالذهاب إلى هناك لأكون شاهدة على ما جرى. ولكي لا يقول الناس بأنّهم لم يكونوا يعرفون الحقائق. كما كتبت كتابي لأقول للسوريين إنّهم ليسوا وحدهم. ولأسجّل معاناتهم لكي لا يسقط في هاوية النسيان العذاب الذي عاشوه».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».