«باجنو ألا لانتيرنا»... آخر شاطئ يتم فيه الفصل بين الجنسين في أوروبا

النساء يرين أنه يمنحهن خصوصية وفرصة للتخلص من القيود

«باجنو ألا لانتيرنا»... آخر شاطئ يتم فيه الفصل بين الجنسين في أوروبا
TT

«باجنو ألا لانتيرنا»... آخر شاطئ يتم فيه الفصل بين الجنسين في أوروبا

«باجنو ألا لانتيرنا»... آخر شاطئ يتم فيه الفصل بين الجنسين في أوروبا

في تريستي، وهو مكان يقع عند «الستار الحديدي» السابق بالقرب من الحدود الإيطالية مع يوغوسلافيا، أدى انتهاء الحرب الباردة وتوسع الاتحاد الأوروبي، إلى محو الحواجز التي استمرت لعقود بين الشرق والغرب.
ولكن هناك جزءا واحدا في الميناء المطل على شمال شرقي البحر الأدرياتيكي، ما زال شامخا بفخر، وهو الجدار الأبيض الذي يفصل بين الرجال والنساء في «باجنو ألا لانتيرنا» والذي يجعل منه، بحسب السكان المحليين، آخر ناد شاطئي يتم فيه الفصل بين الجنسين في أوروبا.
وتقول سابرينا بيشياري - وهي معلمة في مدرسة ابتدائية وزائرة دائمة للشاطئ - في حديث لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) أثناء زيارة قامت بها مؤخرا إلى الشاطئ المزدحم: «قد تكون مفارقة، ولكن هذا الجدار يجعلنا نشعر بأننا أكثر حرية، ولا ينتقص منها».
وكان قد تم تأسيس ما يسمى الـ«باجنو»، والمعروف بين السكان المحليين باسم «إل بيدوسين»، في عام 1903، عندما كانت تريستي تخضع للحكم النمساوي - المجري. وظل الشاطئ يحتفظ بمكانته كمؤسسة اجتماعية، على مدار تاريخ المدينة المضطرب في القرن الـ20، والذي اشتمل على عقدين من الحكم الفاشي والاحتلال البريطاني – الأميركي، خلال الفترة بين 1947 و1954.
وكان في الأصل يتم الفصل بين الرجال والنساء عن طريق سياج، ثم في النهاية، حل الجدار الأبيض محل السياج.
وقد تم هدم الجدار مرة واحدة فقط في عام 1959، وذلك عندما تم نقله لاستيعاب التوسع في منطقة السيدات، على حساب منطقة الرجال.
من ناحية أخرى، تقول ميكول بروسافيرو، وهي صحافية ألّفت كتابين عن «إل بيدوسين»، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ): «تحب النساء هذا المكان لأنه يمنحهن الخصوصية... فمع عدم وجود رجال حولهن، فإن وجود بضعة كيلوغرامات زائدة أو سيقان غير منظفة من الشعر بعناية، لا يمثل مشكلة». وفي بلد شوفيني مغرق في المشاعر القومية، تكتسب المظاهر أهمية متزايدة، حيث تحرص المرأة على المحافظة على أناقتها في جميع الأوقات. يتيح «إل بيدوسين» لرائداته الفرصة للتخلص من القيود التي تفرضها الأعراف الاجتماعية: فمن الممكن هناك لمن بلغن سن الثمانين أن يسرن عاريات الصدر، أو أن يرتدين لباس البحر الكاشف، الـ«جي سترينج»، إذا رغبن في ذلك، بحسب بروسافيرو.
من ناحية أخرى، يقول شخص يدعى جيانماركو، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، إن الرجال يهوون الذهاب إلى «إل بيدوسين» أيضا: «لأنه يمنحهم فترة راحة يبتعدون خلالها عن زوجاتهم المزعجات»، وذلك في الوقت الذي يومئ فيه والده «إليو» الواقف إلى جانبه، برأسه، موافقا على رأيه. ومن أسباب تفضيل نادي الشاطئ المفتوح على مدار السنة، والذي يجذب ما يصل إلى 3000 شخص يوميا في الصيف، كونه يقع على بعد مسافة قصيرة من وسط المدينة، بالإضافة إلى كون سعره في المتناول، فسعر الدخول هو يورو واحد فقط (15.‏1 دولار).
ويتردد أن لقب «إل بيدوسين» مستمد إما من كلمة «بيدوسي» العامية، وتعني بلح البحر، أو من كلمة «بيدوسيو» وتعني القمل، وذلك في إشارة إلى وجود مزرعة لبلح البحر في وقت سابق، أو إلى الوقت الذي كان أفراد القوات النمساوية - المجرية يقومون فيه باستخدام الشاطئ لنظافتهم الشخصية.
ويشكل المتقاعدون معظم مرتادي الشاطئ، إلا أن المنتجع يحظى أيضا بشعبية بين الأطفال - الذين يمكنهم التنقل بين الجزء المخصص للرجال والآخر المخصص للنساء حتى سن الـ12 - بالإضافة إلى العمال الذين يبحثون عن الترويح عن أنفسهم خلال استراحة الغداء، فيما يميل المراهقون والشباب إلى نوادي الشاطئ التي يمكنهم فيها الاختلاط بالجنس الآخر. يبدأ كثير من الفتيات في تريستي أخذ حمامات الشمس في «إل بيدوسين»، لكي تحصل بشرتهن على درجة اللون البرونزي، قبل أن يبدأ الجنس الآخر في مغازلتهن.
وبالإضافة إلى الأطفال، فإن قاعدة الفصل بين الجنسين لا تنطبق على المنقذات الموجودات على الشاطئ. وتقول واحدة من المنقذات، وتدعى فرانشيسكا أزاريلي (25 عاما): «عندما تفصل بين الرجال والنساء، فإنك أحيانا تبرز أسوأ ما فيهم».
وتقول أزاريلي: «فمن جانب (وهو جانب الرجال)، تسمع كثيرا جدا من النكات الذكورية، وأجدادا يطلبون الإنعاش من الفم، ومن جانب آخر هناك كثير من المشاحنات، فقد اضطررنا مؤخرا للتدخل لفض شجار بسبب محاولة شخص الجلوس في الظل مكان شخص آخر».
ويتم التخلي عن نظام الفصل بين الجنسين مرة واحدة فقط في العام، وذلك من أجل إقامة حفل صيفي راقص، وهو ما تم تصويره في فيلم وثائقي عن «إل بيدوسين»، عُرض لأول مرة في مهرجان «كان» السينمائي لعام 2016، وحظي بنجاح هائل في السينما المحلية.
من جانبه، يقول مخرج الأفلام اليوناني، ثانوس أناستوبولوس - الذي عمل في فيلم «L›Ultima Spiaggia» (المنتجع الأخير) مع الممثل والمخرج ديفيد ديل ديجان، المولود في تريستي - لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ): «إن (إل بيدوسين) ساحر، وليس له مثيل في أوروبا، أو حتى في العالم». وبالمقارنة مع الشواطئ الأخرى التي تفصل بين الجنسين في الشرق الأوسط، والأماكن الأخرى، أشار أناستوبولوس إلى أن الرجال والنساء في تريستي يفضلون البقاء منفصلين عن طريق الذهاب إلى «إل بيدوسين»، بدلا من الذهاب إلى أي شاطئ آخر عادي.
ولا أحد يرغب في تغيير هذه السمة الأكثر تمييزا لنادي الشاطئ. من ناحية أخرى يقول جورجيو روسي، وهو أحد أعضاء مجلس المدينة المشرف على نادي الشاطئ، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ): «لو دمرنا الجدار، فلن يظل (إل بيدوسين) على حاله... فهذا هو رمز تريستي، فلماذا يجب أن نفقد ما يجعله استثنائيا؟».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)