«أصيلة» تحتفي بالذكرى الـ20 لانطلاق مجلة «بانيبال»

شكلت جسراً قوياً للتعريف بالأدب العربي الحديث لدى القارئ الغربي

صامويل شمعون ومارغريت أوبانك مؤسسا مجلة «بانيبال»
صامويل شمعون ومارغريت أوبانك مؤسسا مجلة «بانيبال»
TT

«أصيلة» تحتفي بالذكرى الـ20 لانطلاق مجلة «بانيبال»

صامويل شمعون ومارغريت أوبانك مؤسسا مجلة «بانيبال»
صامويل شمعون ومارغريت أوبانك مؤسسا مجلة «بانيبال»

احتفى موسم أصيلة في دورته الـ39، بالذكرى الـ20 لصدور مجلة «بانيبال» اللندنية المتخصصة في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى اللغة الإنجليزية، بحضور مؤسسيها صامويل شمعون ومارغريت أوبانك، وثلة من المثقفين والمترجمين العرب والأجانب الذين عايشوا تجربة المجلة، سواء في بداياتها أو من خلال المساهمة فيها عن طريق الترجمة أو التأليف.
«بانيبال» هي مجلة اكتسبت اسمها تيمنا بمكتبة «آشور بانيبال» التي تعد أول مكتبة في التاريخ، وتعتبر أن الأدب العربي هو جزء من الثقافة العالمية والحضارة الإنسانية لتعميق الحوار بين الثقافات، وتهدف إلى تقديم متعة قراءة الشعر الجميل والكتابة الخلاقة، وتصدر ثلاث مرات في السنة، وتنشر ترجمات لقصائد وقصص وفصول من روايات من الأدب العربي، بالإضافة إلى مراجعات للكتب العربية المترجمة إلى اللغات الأجنبية، لتعميق الحوار بين الأدباء العرب ونظرائهم العالميين. كما تخصص المجلة بين الفينة والأخرى ملفات للآداب غير العربية تحت عنوان «الأدب ضيف».
* الذكرى الـ20 لـ«بانيبال» في أصيلة
اختيرت أصيلة لاستضافة الاحتفال بالـ20 لإصدار «بانيبال»؛ لأن الموسم هو فضاء لحوار الآداب والفنون والأفكار والقيم، فاختار محمد بن عيسى الأمين العام لمؤسسة أصيلة، تهنئة المؤسسين بالذكرى الـ20 لانطلاق مشروعهما الثقافي والإنساني الرائد والمتفرد، الذي اعتبر أنه فتح مستقبلا للثقافة العربية، بقدرته على الانفتاح على فكر آخر والتحاور مع ثقافته. وأشاد بن عيسى أيضا بجهود صامويل ومارغريت ونجاحهما في تقديم خدمة للأدب العربي، عجزت الهيئات الحكومية كما المحاولات الفردية عن تحقيقه.
وإشادة بعمل مجلة «بانيبال»، استذكر بن عيسى دعوة وصرخة الأديب اللبناني الراحل ميخائيل نعيمة في الربع الأول من القرن العشرين، بشعار «لنترجم» من أجل تحريك مجتمع ثقافي عربي راكد وجامد ومغلق وخارج العصر، وهو نداء، برأي بن عيسى، صادق ومجدد فكرا وسياسة، ومهد الطريق لكتاب العربية ومنح إنتاجهم الأدبي مياه التجديد من مناهل الفكر الغربي.
واعتبر بن عيسى أن الترجمة كانت وما زالت الوسيلة المثلى للتعرف والانخراط في منظومة ثقافية مغايرة، بما تحتضنه من حيوية خلاقة وتجاذب متوتر بين القديم المنسحب والجديد الوافد.
وعزى المؤسس - المشارك ورئيس تحرير مجلة «بانيبال» صامويل شمعون الأسباب التي أدت إلى نجاح واستمرار التجربة، إلى الفراغ الذي طغى على فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حيث لم يكن كثير من الترجمات للأعمال الأدبية العربية إلى الإنجليزية وقتها منتشرا، وغالبا ما كانت الترجمات القليلة عبارة عن تضامن مع العرب من طرف بعض الدول، مثل الاتحاد السوفياتي سابقا أو منظومة اتحاد آسيا وأفريقيا، حيث توجد بعض الترجمات لمحمود درويش وغسان كنفاني ورواية الطيب صالح. وفي السبعينات تمت ترجمة أربع روايات إلى الإنجليزية، في الوقت الذي بدأت فيه ترجمات الجيل الجديد. لكن عند النظر إلى فترة ارتفاع ترجمة الأدب العربي، يرى شمعون، أنّها كلها حصلت عند خروج معظم الأدباء العرب من بيروت إلى قبرص وإلى باريس، فأخذت باريس مكانة بيروت، وكانت تصدر وقتها عدة مجلات بالعربية في لندن. وحينها كان شمعون وعدد من الأدباء يعيشون بين باريس ولندن حيث كانت المكتبات العربية كثيرة. وحينها أيضا بدأ شمعون يتساءل عن الأسباب وراء توجه الكتاب العرب إلى الكتابة والتأليف بالعربية، بينما يعيشون في بلدان ناطقة بلغات أخرى، وعن السبب وراء عدم وجود مجلة بالإنجليزية ودار نشر تهتم بترجمة المؤلفات العربية.
* الحلم أصبح واقعا
كل هذه الأسئلة كانت تجول بخاطر شمعون وعدد من الأدباء العرب في باريس، لكن بعد انتقاله إلى لندن عام 1989، وبعد التقائه بمارغريت التي كانت تنتمي لعائلة مهتمة بالأدب والصحافة، تشاركا الحلم وقررا ذات يوم تأسيس المجلة. يومها، يقول شمعون، إنّ كل من كان يعرفه في لندن لم يكن يعتقد أنّ المجلة ستنجح، وعندما صدر العدد الأول اعتقدوا أيضا أنّ العدد الثاني لن يصدر، والسبب، برأيه، هو الاعتقاد السائد في العالم العربي بأنّ الحكومات هي من يجب أن تقوم بترجمة الكتب، في الوقت الذي كان صامويل يتساءل عن سبب انتظار هذه الحكومات لترجمة أعمال الأدباء العرب، خاصة أن الكاتب العربي له صدامات مع الحكومات ومعاد لها، وفي نفس الوقت ينتظر منها أن تترجم أعماله.
وحكى شمعون عن المحاولات الأولى لترجمة الأعمال الأدبية في «بانيبال»، وقال إنه عثر على كثير من المترجمين الذين يملكون ترجمات لم يجدوا لها مكانا للنشر، لا في لندن ولا باريس، وعند إصدار العدد الأول من «بانيبال» لم يكن لدى صامويل ومارغريت فكرة عما سينشرون في العدد الثاني، في الوقت الذي كتبت مارغريت في الافتتاحية أنّ المجلة ستصدر ثلاث مرات في السنة، وكان تلقي الأعمال من الأدباء العرب عبر الفاكس وإرسالها إلى المترجمين في الفاكس مكتوبة بخط اليد، مهمة صعبة، لكن مع ذلك وجدوا دعما خاصا من الأدباء والمترجمين الذين كانوا يبحثون عن هذا المنبر فذابت صعوبات التواصل معهم، ثم ظهر العدد الثاني والثالث حيث صدرت المجلة بانتظام لمدة 20 عاما بمعدل ثلاث مرات في السنة، ولم تتأخر أبدا.
من أسباب نجاح المجلة أيضا، يرى شمعون أنّها بالأساس مجلة عربية أولا وتكتب باللغة الإنجليزية، في الوقت الذي فشل كثير من المجلات في دول المهجر في محاولات مشابهة، وذلك برأيه يعود لاعتمادها على دور نشر بريطانية أو فرنسية لنشر الأدب العربي، في حين أن «بانيبال» منبثقة من المشهد العربي وتعرف الكتاب العرب وتتابع يوميا الجديد في المشهد الأدبي، وهذا من الأسباب التي أدت إلى نجاح المجلة واستمرارها، فكان العمل على كل إصدار جديد هو مصدر سعادة لمارغريت وصامويل، وبعض الأصدقاء الأدباء والمترجمين المشاركين في الإشراف على إعداد إصدارات المجلة، حتى بلغت وبسرعة البرق عامها العشرين.
* لمحة تاريخية عن {بانيبال}
وبدورها قدمت مارغريت أوبانك، وهي مؤسسة ومشاركة ومسؤولة عن النشر بمجلة «بانيبال»، لمحة تاريخية عن تأسيسها. وقالت إن مشروع المجلة بدأ «لأننا أحسسنا بالحاجة لفعل ذلك»، خاصة أنها كانت تملك تجربة في الإصدار والطبع، وكان صامويل ومارغريت يملكان المعرفة التقنية والوعي بأنّ الأدب العربي هو جزء لا يتجزأ من الثقافة العالمية، وأيضا وعيهما بالحاجة إلى التعمق في حوار الثقافات والاستمتاع بقراءة جميلة وخلاقة.
فالثقافة العربية في الغرب، برأيها، كانت مهمشة وصعبة المنال، وهي من تخصص الخبراء في الدوائر الأكاديمية فقط، لكن من خلال «بانيبال» كُسر الحواجز، ووصلت رسالة الكتاب العرب للقراء الناطقين بالإنجليزية، وعلى مدى عشرين عاما استطاعت أن تعلي من شأن الأدب العربي الحديث، موضحة أنه عند المحاولات الأولى في الاتصال بالمترجمين في الدوائر الأكاديمية، وجدت حماسا كبيرا تجاه المبادرة، إذ كان المترجمون بحاجة لمجلة لا تقتصر على التحليلات النظرية المعمقة فقط، بل إلى مجلة حية ورائجة.
وأوضحت أوبانك أنّها وصامويل كانا يملكان رغبة في تشجيع العطاء والفكر، وتحليا بنظرة استباقية من خلال رصد التطورات في مشهد الأدب العربي، وركزا على الإبداع في بلدان أقل رواجا، مثل تونس وليبيا والإمارات واليمن، واشتغلوا على ملفات خاصة بكل بلد وآدابه، ثم في إطار التوسع وجهت المجلة دعوتها لبلدان أخرى، مثل سلوفينيا وفيتنام وكوريا الجنوبية وإسبانيا، من خلال أجندات لآداب هذه الدول.
* وجهات نظر غربية
من وجهة نظر بريطانية قدم جوناثان رايت، وهو مترجم من العربية إلى الإنجليزية وصحافي ورئيس تحرير سابق، رؤيته لظاهرة ترجمة الأدب العربي، وحكى عن تجربته في التعرف على «بانيبال» التي انطلقت في الجامعة الأميركية بالقاهرة وهو في بداياته في مجال الترجمة، حيث كان يستغرب من اسم المجلة التي تنقل الأدب العربي وتحمل اسما لا يوحي بأنه عربي، وفي كل مرة يطلع عليها كان يراوده حلم الكتابة في «بانيبال» إلى أن تفاجأ يوما بمراسلة من مارغريت تخبره أنه مرشح لجائزة «بانيبال» لأفضل مترجم، والتي لم يعلم أصلا أنها موجودة، لكنها خلقت بداخله نوعا من الغبطة لما تعنيه له المجلة كمترجم.
وأضاف أن المجلة لا تزال جسرا بين البيئة العربية والعالم الناطق بالإنجليزية، وهي مصدر مهم للمترجمين للاطلاع على كل ما يحدث في البيئة الأدبية العربية.
من جهة ثانية، تحدث رايت عن دور المغرب بالنسبة له في الاهتمام بالأدب العربي، من خلال زياراته الأولى لهذا البلد، حيث عايش هويته وطريقته في مقاومة العولمة والحفاظ على خصوصياته، وهي ميزة تعيشها معظم الدول العربية رغم الصعوبة في تعزيز الهوية والحفاظ عليها في المشهد الثقافي والعناصر الدخيلة التي تسللت إلى المجتمعات، ويرى أن لمجلة «بانيبال» أيضا دورها الرائد في هذا المجال.
أما الكاتب والمترجم الألماني شتيفان فايدنر، فحكى بدوره علاقته بالمغرب ودوره في توجهه لدراسة العربية والترجمة، وهو ما لم يكن ليتأتى له لو لم يزر هذا البلد العربي عام 1985. ففي المغرب بدأ احتكاكه بالعالم العربي والأدب العربي، وهناك أيضا حاول قراءة القرآن بعربيته البسيطة حيث فشل في ذلك عدة مرات، بعدها بدأ اهتمامه بالكتاب العرب، بداية من الكاتب العراقي خالد المعالي من خلال مجلة أدبية صغيرة وجدها في إحدى المكتبات في ألمانيا، ثم جاء لقاؤه بصامويل شمعون وبعده بعدد من الكتاب العراقيين. ومن خلال هذه الشبكة، بدأت نشاطات فايدنر في ترجمة الشعر العربي المعاصر لبدر شاكر السياب ومحمود درويش وأدونيس، وكثيرين غيرهم.
وبلغة الأرقام، فإن ألمانيا يوجد فيها أكثر من 300 رواية عربية ترجمت خلال الـ25 عاما الماضية، وقرابة الخمسين ديوانا شعريا، وبرأيه فإن هذا عدد مهم، والفضل فيه يعود إلى مجلات مهتمة بالترجمة مثل «بانيبال» المهتمة بتقوية الأدب العربي بأوروبا، مشيرا إلى أنّ هذه الحركة انطلقت من نشاطات المهاجرين العرب إلى أوروبا وقتها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)