ثورة 23 يوليو مظلومة سينمائياً... والبحث عن فيلم لتوثيقها

منع أم كلثوم والترويج لإسماعيل ياسين

TT

ثورة 23 يوليو مظلومة سينمائياً... والبحث عن فيلم لتوثيقها

كانت الإذاعة المصرية في صباح يوم 23 يوليو (تموز) 1952 هي هدف الثورة الأول، وهكذا اقتحم أنور السادات - باعتباره واحداً من تنظيم الضباط الأحرار - المبنى الذي تمت محاصرته من قبل رجال القوات المسلحة، في السابعة والنصف صباحاً، والتقى مع المذيع فهمي عمر (أمد الله في عمره)، لإذاعة البيان الأول للثورة.
كانت الإذاعة من خلال البرامج والأغاني هي التي تُمسك بكل تفاصيل التواصل الجماهيري، ولهذا وبعد ساعات قليلة من قيام الثورة، تم تعيين أحد الضباط في موقع «رئيس أركان الإذاعة»، فلا يُذاع شيء إلا بعد الحصول على موافقته (ملحوظة: التلفزيون المصري بدأ البث عام 1960، ولهذا لم يكن هناك سوى الموجات الإذاعية)، فكان أول قرار تم اتخاذه من قبل الضابط رئيس أركان الإذاعة، منع أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب على أساس أنهما غنيا باسم الملك فاروق، فأصبحا محسوبين على العهد الذي كان يوصَف بالبائد.
بمجرد أن علم عبد الناصر بهذا الموقف تدخل وأعاد أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب للإذاعة، وقال للضابط الذي تصور أنه يخدم النظام الجديد: «لو كان كل من عاش في عهد فاروق نعتبره من العهد البائد إذن عليكم التخلص من النيل والأهرام، لأنهما عاشا أيضاً في زمن الملك فاروق». لم ينس عبد الناصر موقف أم كلثوم من كتيبته التي كان يقودها في حرب 48 ضد إسرائيل أثناء الحصار في «الفالوجة» عندما عاد للقاهرة فاستقبلتهم في فيلتها استقبال الأبطال وغنَّت لهم.
بعد أسابيع قليلة من الثورة سارع اللواء محمد نجيب أول رئيس مصري، وكان وقتها قائد الضباط الأحرار، بإصدار بيان توجه به مباشرة للفنانين احتلَّ الجزء الأكبر منه السينمائيون، كان الهدف ليس اكتشاف موقف السينما والسينمائيين مما يجري في مجتمع يعاد صياغة كثير من أفكاره، ولكن لإملاء مطالب السلطة الجديدة، وكان قد سبق هذا الاجتماع، وبعد قيام الثورة بأربعين يوماً فقط، بيان أصدره نجيب عنوانه «الفن الذي نريده» جاء فيه: «السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، وعلينا أن ندرك ذلك، لأنه إذا ما أُسيء استخدامها فإننا سنهوي بأنفسنا للحضيض وتدفع بالشباب للهاوية»، ولم يكتفِ بهذا القدر، بل أصدر بعدها بياناً تحذيرياً آخر، جاء فيه أيضاً، وبشكل أكثر حدة، أنه «لا يوجد فيلم إلا وأُقحِمَت فيه راقصة، وهذا كان يليق بالعهود البائدة ولكنه لا يليق بمصر الثورة»، وبدأت لقاءات السلطة مع السينمائيين، وحرص أغلبهم على مجاملة رجال الثورة بارتداء زيٍّ عسكري ترحيبًا أو نفاقًا، ولم يعترض على رؤية الضباط الأحرار للسينما سوى المخرجين أحمد بدرخان ومحمد كريم وحسن رمزي، حيث قال الأخير: «نحن شعب مرح وليس معنى الثورة أن ننتج أفلاماً حزينة».
إلا أن الظاهرة اللافتة هي أن عدداً من الأفلام التي كان يتم تصويرها تغيرت أسماؤها لمواكبة الثورة والأخرى رحبت على الأفيش بالثورة، حيث يكتب مثلاً هذا الفيلم يعلن صُناعه تأييدهم لرجال الجيش، وشهدت بعض الأفلام إقحام أغنية أو مونولوغ مؤيد للثورة على الأحداث مثل فيلم «اللص الشريف»، وكان المونولوغ يقول مطلعه: «20 مليون وزيادة» والمقصود بالرقم عدد سكان مصر في تلك السنوات، وهو المونولوغ الوحيد الذي تردد فيه اسم محمد نجيب في مقطع «الجيش ونجيب/ عملوا ترتيب»، فلم يكن توصيف كلمة الثورة معروفاً أو متداولاً وقتها، وكانت أحياناً توصف بالحركة، وأضاف لها البعض صفة المباركة، حتى أطلق عليها بعدها ببضعة أشهر «ثورة»، ويذكر عدد من المؤرخين عميد الأدب العربي طه حسين باعتباره أول من أطلق عليها «ثورة».
تعددت المواقف بين الثورة والمثقفين وأيضاً الفنانين، وجاءت محطة فارقة جدّاً من خلال دعم الثورة الوليدة لإنتاج يلعب بطولتها النجم الكوميدي الأول في تلك السنوات إسماعيل ياسين، وكانت البداية بفيلم «إسماعيل ياسين في الجيش»، وكان المقصود هو تقديم دعوة غير مباشرة للشباب لحثهم على الالتحاق بالجيش المصري، وهكذا تعددت الأسلحة التي يقدم عنها إسماعيل ياسين أفلامه مثل «الأسطول» و«الطيران» وغيرهما!
كانت نقطة فارقة ولا شك عندما أنشأت الدولة في نهاية الخمسينات، «أكاديمية الفنون»، وتعددت المعاهد التي تدرس الفنون بكل أطيافها الموسيقية والغنائية والمسرحية والسينمائية، وبعدها أنشئت «مؤسسة السينما» لأحكام السيطرة على الفن، وواكب ذلك قرارات التأميم لكثير من أوجه الحياة، ومنها الصحافة، وشاهدنا محاولات لتقديم أعمال فنية بإشراف الدولة، جزء منها ولا شك حمل إبداعاً، ولكن وكالعادة كان هناك أيضاً الفن المنافق، الذي يقدم أفلاماً طبقاً لما تريده الدولة.
وكثير من الأفلام {حتى قبل بداية تدخل الدولة في الإنتاج}حاولت رصد ثورة يوليو، ولكن كان هناك عدد من المحاذير التي لا يجوز اختراقها، منها شخصية محمد نجيب، حيث تم حذفها تماما من فيلم «الله معنا» عام 1955، وكان هذا هو شرط جمال عبد الناصر بعد إزاحة محمد نجيب عن الواجهة وتحديد إقامته، حيث طلب من إحسان عبد القدوس مؤلف القصة حذف شخصية محمد نجيب تماماً من الفيلم حتى يتم التصريح بعرضه، رغم أن الأرشيف يحتفظ بصور فوتوغرافية للممثل زكي طليمات وهو يرتدي زي محمد نجيب، مأخوذة من الفيلم.
كان هناك تسابق غنائي لكي يغني الجميع اسم جمال عبد الناصر في كل حفل. وزادت الجرعة إلى درجة أن عبد الناصر نفسه طلب من الإذاعي الراحل جلال معوض بصفته المشرف على حفلات «أضواء المدينة»، إصدار تعليمات تمنع المطربين من الغناء باسمه وفي أول الحفل، التزم البعض في البداية وبعدها انفلت الجميع وغنوا باسم الزعيم.
عدد من الأفلام اصطدمت بالرقابة، مثلاً عام 1969 بعد هزيمة 1967 بعامين، وكان عبد الناصر قد طلب زيادة هامش الانتقاد حتى يمتصّ غضب الشعب الناقم بسبب الهزيمة، ولكن كان هناك من المؤكد الخوف من غضب الرئيس، ولهذا فإن الذي صرح بتداولها في النهاية هو رئيس الجمهورية، مثل فيلم «شيء من الخوف»، وهو ما استدل به البعض على أن عبد الناصر كانت لديه سماحة في تقبل الانتقادات، والحقيقة أن الوجه الآخر يكشف عن خوف كامن داخل كل من هم يحتلون مناصب أدنى من الرئيس يؤكد أنهم غير قادرين على اتخاذ القرار، حتى وصل الفيلم للرئيس فوافق على عرضه، ولو كان مبدأ الحرية قائماً لتمَّ التصريح بتداول الفيلم قبل أن يصل لأعلى سلطة في الدولة.
عمر ثورة يوليو وصل إلى 65 عاماً، وهو زمن يسمح بتقديمها بكل التفاصيل، ولكن أغلب ما رأيناه كانت مجرد خطوط عريضة للثورة، لأن هناك أكثر من رواية تستطيع أن تقرأ من خلالها الثورة. الأعمال الأدبية التي اقتربت من تأريخ الثورة تباينت فيها وجهات النظر، كلّ يدعي أنه يمتلك الحقيقة الصائبة، ربما كان فيلم «ناصر 56» هو الوحيد الذي لم تطله الانتقادات، لأنه تناول فقط 101 يوم من حياة عبد الناصر واكبت تأميم القناة، وهي مرحلة زمنية محدودة كما أنها استندت إلى توافق وطني.
بعد 23 يوليو عرفت مصر ثورة أطلق عليها أنور السادات «التصحيح» عام 1971، وكان مقصوداً بها تصحيحُ المسار ليعود مرة أخرى لأهداف 23 يوليو، وبعدها في 2011 ثورة (25 يناير/ كانون الثاني) ثم في 2013 (ثورة 30 يونيو/ حزيران)، ولكن حتى الآن لم يتم الرصد الحقيقي على شريط السينما لأي من الثورات الأربع، ورغم تراكم الزمن، فإن من حق هذا الجيل أن يُقدّم له توثيق سينمائي بعد مرور كل هذه السنوات يليق حقّاً بالثورة، ويا ليتنا نبدأ بثورة 23 يوليو.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».