«جمرة القيظ» تلهب معظم الدول العربية... ودرجات الحرارة تتجاوز الـ50

الأحساء تسجل أعلى معدل درجة حرارة عظمى في الثلاثين عاماً الماضية

ارتفاع درجات الحرارة دفعت المواطنين إلى التوجه للبحر
ارتفاع درجات الحرارة دفعت المواطنين إلى التوجه للبحر
TT

«جمرة القيظ» تلهب معظم الدول العربية... ودرجات الحرارة تتجاوز الـ50

ارتفاع درجات الحرارة دفعت المواطنين إلى التوجه للبحر
ارتفاع درجات الحرارة دفعت المواطنين إلى التوجه للبحر

قد يطلق عليه السعوديون اسم «طباخ التمر» وهو اسم لطيف قد لا يدل عما يحمله هذا الموسم الحار من معاناة، وبخاصة أن درجات الحرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية في معظم الدول العربية، وأدت أشعة الشمس الحارقة إلى شل الحركة في ساعات الظهيرة. و«طباخ التمر» هو أحد مسميات هذا الموسم، ولأهل الخليج العربي مسميات أخرى مثل «جمرة القيظ» و«طباخ اللون» وهو تعبير يرتبط بموسم نضج التمر.
من جانبها، أكدت الهيئة العامة للأرصاد السعودية حدوث حالات «شذوذ مناخي» خلال فصل الصيف الحالي، من أبرزها ارتفاع في درجات الحرارة عن معدلاتها العظمى بفارق كبير، والتي تسمى الحالات المتطرفة التي يمكن التنبؤ بها من خلال التوقعات قصيرة المدى، في إشارة إلى أن درجات الحرارة العظمى ستتجاوز 50 درجة مئوية تحت الظل في العام الحالي.
وأكد الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك، ارتباط موسم «طباخ التمر»، في السعودية خاصة وعموم دول الجزيرة العربية، بمنخفض الهند الموسمي، الذي يؤثر بشكل مباشر على أجواء الجزيرة العربية خلال فصل الصيف كل عام من 21 يونيو (حزيران) إلى 22 سبتمبر (أيلول) من كل عام.
وبحسب الاتحاد العربي، يبدأ تأثير موسم «طباخ التمر» تدريجياً من الجنوب باتجاه الشمال، وتبدأ التمور في الجزيرة العربية بالتلون والنضج عند اشتداد الحر، وخصوصاً خلال الفترة من 15 يوليو (تموز) الحالي حتى 15 أغسطس (آب) المقبل.
ويختلف الموسم من منطقة إلى أخرى، فهو يبدأ في الجنوب مبكراً، أما في الشمال فيتأخر قليلاً، وعند ظهور منزلة الذراع 29 يوليو التي يطلق عليها «المرزم» وتبلغ عدد أيامها 13 يوماً تكون هي الفترة الأشد حراً، وهي ذروة موسم «طباخ التمر».
* معدلات قياسية في السعودية
إن موجة الحر الجاف التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط تشتد من منتصف شهر يوليو من كل عام، وتستمر حتى نهاية شهر أغسطس سنوياً، وفقا للدكتور أيمن غلام، نائب رئيس هيئة الأرصاد والبيئة السعودية. وقال: إنه في ظل طبيعة المنطقة العربية والموقع الجغرافي للسعودية تحديداً، ستستمر هذه الموجة الحارة حتى بداية شهر سبتمبر المقبل، لكن بحدة أخف مما هي عليه في الفترة الحالية.
وجرى تسجيل أعلى معدل درجة حرارة عظمى خلال فصل الصيف في الثلاثين عاماً الماضية في مدينة الأحساء التي بلغت درجة الحرارة فيها في شهر يوليو الحالي 46 درجة مئوية، بينما سجلت مدينة أبها أقل معدل درجة حرارة صغرى خلال الفترة نفسها، والتي وصلت درجة الحرارة فيها إلى 17 درجة مئوية.
بدوره، بيّن غلام لـ«الشرق الأوسط»، أن أعلى درجات حرارة متوقعة في هذه الفترة ستسجلها المنطقة الشرقية والمناطق الشمالية الشرقية من السعودية بواقع 53 درجة مئوية في الظل، لافتاً إلى أن شهر أغسطس المقبل، ستزيد فيه نسبة الرطوبة على المناطق الغربية والسواحل، وهو ما سيزيد تأثير الإجهاد على الأشخاص جراء الحر والرطوبة.
ورفض غلام، أن تكون موجة الحر التي تشهدها المنطقة العربية ناتجة من ظاهرة الانحباس الحراري، مبيناً أن هذه الموجة تأتي ضمن دورات مناخية تتابعية من كل عام في فصل الصيف، رغم أنها تشهد تسجيل ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة في السنوات الأخيرة.
وأرجع أسباب ارتفاع درجات الحرارة في السنوات الثلاث الأخيرة الذي تسبب في ظاهرة ذوبان الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، إلى الثورة الصناعية وتغيير جغرافية الأراضي من أراضٍ زراعية إلى مناطق عمرانية.
ومن المتوقع أن يستمر ارتفاع درجات الحرارة على معظم دول الخليج العربي مع استمرار العواصف الرملية على الكويت وجنوب العراق، والإمارات، في حين تكون الرياح شمالية إلى شمالية شرقية نشطة السرعة ترافقها هبات قوية للرياح، تعمل على إثارة الغبار وتدني مستوى الرؤية.
* غزة بين لهيب الشمس والحصار
أثرت موجة الحر على سكان فلسطين، حيث لا يستطيع الكثير من سكان الضفة الغربية الهرب من الحرارة الشديدة إلى الشواطئ، بحكم القوة العسكرية للاحتلال الذي لا يمنحهم تصاريح خاصة من أجل العبور إلى الداخل، لكنهم مع ذلك يستطيعون التأقلم مع الارتفاع المجنون للحرارة، من خلال أجهزة التكييف التي غزت البيوت في السنوات القليلة الماضية، وهو ما يساعدهم على تجاوز ساعات النهار بانتظار الليل الذي عادة ما يكون لطيفا.
أما الذين لا يريدون البقاء في المنازل، فإن أمامهم خيارات كثيرة، وإن بدت مكلفة، السفر إلى بلدان البحار في الخارج، أو التوجه إلى شاليهات وفنادق توفر لهم بِركا داخلية خاصة، وهي منتشرة بكثرة في الأراضي الفلسطينية. لكنهم جميعا في النهاية يحمدون الله على نعمة الكهرباء المتوفرة باستمرار مقارنة مع سكان قطاع غزة. ويحرم الفلسطينيون في غزة من الكهرباء نحو 20 ساعة يوميا؛ وهو ما يجعل موجات الحرارة الشديدة أشبه بجحيم لا يطاق. وزاد من معاناة الغزيين أنهم فقدوا كذلك البحر، بسبب التلوث الكبير الناتج من تصريف المياه العادمة.
ووجهت السلطات في غزة بعدم السباحة في بحر القطاع بسبب التلوث العالي. وحسب إحصاءات رسمية، فإن أكثر من 73 في المائة من شواطئ غزة، ملوثة، بفعل عدم قدرة الجهات المختصة تصريف المياه العادمة إلى محطات خاصة نتيجة نقص الوقود فيها وعدم إيجاد حلول أخرى. وحرم هذا غالبية السكان من السباحة هذا الصيف في البحر؛ وهو ما جعلهم من دون خيارات مع انقطاع الكهرباء والماء.
* أزمة الكهرباء في العراق تضاعف المعاناة
سجلت درجات الحرارة في العراق هذه الأيام أرقاما بلغت 50 درجة مئوية، في حين تشير التوقعات إلى ارتفاعها لمستويات أعلى في بلد يعيش نقصا حادا في إنتاج الطاقة الكهربائية رغم الميزانيات الهائلة التي تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات المخصصة لقطاع الكهرباء منذ عام 2003 وحتى الآن.
ويعيش العراقيون أوضاعا صعبة من جراء الارتفاع المفرط لدرجات الحرارة مقابل تدنٍ كبير في إنتاج الطاقة الكهربائية، حيث يحصل العراقيون على نحو 14ساعة تجهيز يوميا، ويعتمد على الباقي من خلال شرائها من القطاع الخاص وبأسعار كبيرة في حين يعيش مئات آلاف من النازحين أوضاعا مأساوية في مخيمات اللاجئين أو الذين عادوا إلى منازلهم المدمرة في المدن التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم داعش في الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى.
وتقول هيئة الأنواء الجوية والرصد الزلزلي: إن معدلات درجات الحرارة في مناطق وسط وجنوبي العراق بلغت 50 درجة مئوية في بعض المناطق، وفق ما نقلت عنها وكالة الأنباء الألمانية. ويسعى العراقيون إلى البحث عن ملاذات آمنة للفرار من ارتفاع درجات الحرارة ويحاولون الاستمتاع بمياه نهر دجلة والفرات رغم ما يحف ذلك من مخاطر بسبب عدم توفر مناطق أمان للسباحة، في حين وضع آخرون مراوح تضخ الهواء والمياه معا عند بوابات مطاعم الدرجة الأولى وفي محال بيع المرطبات والمقاهي، في حين تبرع آخرون بنصب مرشاة مياه في الشوارع، حيث يمكن لأي شخص الوقوف تحتها لدقائق للاستمتاع وإطفاء الحرارة العالية.
ولا تزال الإجراءات الحكومية بعيدة عن إيجاد حل لإنهاء معاناة العراقيين خلال هذه الأيام من خلال تقليص ساعات الدوام الرسمي ومنع استمرار عمال البناء، وبخاصة في ساعات الذروة عند منتصف النهار لما يسببه من أمراض خطيرة، وبخاصة ضربة الشمس التي تؤدي في بعض الأحيان إلى الوفاة.
* اللبنانيون يهربون من الجبل إلى الساحل
احتار اللبنانيون كيف يواجهون موجة الحرّ التي تجتاح بلادهم منذ أوائل هذا الشهر حتى اليوم. فالذين يسكنون الجبال نزلوا الساحل؛ كون نسبة الرطوبة فيه تخفّف من قسوة الجفاف الذي يسود الجبل. في حين وجدت شريحة لا يستهان بها من اللبنانيين بشاطئ البحر خير ملاذ لهم ليطفئوا بمياهه الباردة (23 درجة) نار الحرّ المحيطة بهم.
«لا يمكننا أن نصف ما نعيشه اليوم في لبنان بالأمر غير الاعتيادي، فلطالما رافق فصل الصيف في بلدنا درجات حرارة مرتفعة تصل إلى 34 درجة». يقول مارك وهيبة، رئيس مصلحة الرصد الجوي في مطار بيروت، لـ«الشرق الأوسط». ويعزو وهيبة شعور اللبنانيين بوطأة الحرّ إلى عوامل بيئية أخرى ترتبط ارتباطا مباشرا، كما ذكر لنا، بأسلوب العيش الذي يتّبعونه. ففي غياب المساحات الخضراء من ناحية وتمضيتنا أوقاتا طويلة على الطرقات، بفعل زحمة السير، داخل سياراتنا وانتشار الأبنية بشكل كثيف في مناطقنا من ناحية ثانية، شكّلت كلها مجتمعة، عناصر حيوية لازدياد شعورنا بالحرّ. «في الماضي كان ساحلنا يتنفس من خلال مساحاته الخضراء، بساتين البرتقال وأشجار الزيتون، فتمتص أشعة الشمس لتحوّلها إلى متفاعلات كيميائية تخفّف من شعورنا بالحرّ. اليوم وبعد أن استبدلت بمساحات إسمنتية نافرة للعين غاب تماما تأثير الشجر وأوراقها الملطف، على دورة الحياة؛ إذ كانت تمتص المياه من الأرض فتساهم بتبريد الأجواء». ما نعيشه اليوم من موجة حرّ ليس مشهدا استثنائيا، يؤكد وهيبة الذي أشار بأن لبنان عاش منذ سنوات قليلة موجة حرّ أكثر قساوة بحيث وصلت إلى 39 درجة مئوية في مثل هذا الوقت من السنة واستمرت لنحو أسبوعين. ويتأثّر لبنان حاليا بكتل هوائية حارة تصله من ناحية الشرق، وبالتحديد من سوريا والسعودية والعراق.
* الموجة تشل مترو مصر
شهدت مصر طقسا حارا على مدار الأسبوع الماضي، كانت ذروته يومي الجمعة والسبت الماضيين، وأدى ارتفاع درجة الحرارة إلى 45 درجة في بعض المحافظات مع ارتفاع نسبة الرطوبة إلى هرب المصريين إلى شواطئ وقرى وفنادق الساحل الشمالي والإسكندرية التي كانت بها درجات الحرارة أقل من باقي المدن والسواحل المصرية.
ومن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الدولة، تخفيض سرعة مترو الأنفاق، حيث قال أحمد عبد الهادي، المتحدث باسم شركة مترو الأنفاق: إن هذا الإجراء تم بناء على تعليمات من إدارة هندسة السكة، بتخفيض السرعة إلى 60 كم، بدلًا من 80 كم، خارج النفق خط أول وثاني؛ نظرا لارتفاع درجة الحرارة، لتستغرق الرحلة بالخط الأول 90 دقيقة، بدلًا من 75 دقيقة. كما توقفت حركة المترو في بعض المحطات نتيجة انقطاع التيار الكهربائي المفاجئ.
من جانبه، صرح الدكتور أحمد عبد العال، رئيس هيئة الأرصاد الجوية، لـ«الشرق الأوسط» بأن هذا الأسبوع سوف يشهد استمرار الموجات الحرارية المتتالية وارتفاع الرطوبة ودرجات الحرارة، وهو أمر طبيعي في فصل الصيف، إلا أن التغير المناخي إثر بشكل كبير في ارتفاع درجات الحرارة عن الأعوام الماضية.
كما أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تعطل عدد من محولات الكهرباء الرئيسية في عدد من المدن المصرية مثل: السويس وطنطا وشبين الكوم، وقال الدكتور أيمن حمزة، المتحدث باسم وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة أول من أمس: إن قطاع الكهرباء يواجه بكل قوة الأعطال الناتجة من الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، في إطار موجة الحر الحالية.
وحرص المواطنون على استخدام المظلات الواقية من الشمس في حين بدت الميادين والكباري أقل ازدحاما بسبب عزوف المواطنين عن الخروج في فترات القيظ الشديدة.
* المغاربة يتأقلمون مع الحر المفاجئ
وكحال الدول العربية الأخرى، يعيش المغرب على وقع موجة حرارة مرتفعة لم يتعود عليها المغاربة منذ سنوات، حيث كان الطقس يظل معتدلا حتى خلال فصل الصيف.
ولوحظ إقبال كبير على الشواطئ في المغرب، ولا سيما أن موجة الحرارة تزامنت مع بداية العطل الصيفية السنوية، وللتخفيف من الحر أيضا لوحظ إقبال كبير على المشروبات الباردة والآيس كريم من قبل الكبار والصغار، كما أن الكثير من السكان فضلوا قضاء فترة طويلة من الليل خارج منازلهم، ولا سيما في الشقق التي لا تتوفر على مكيفات.
وساهم ارتفاع موجات الحر في ترويج كبير لمنتجات الوقاية من الشمس، ولا سيما من قبل النساء، اللواتي أصبحن أكثر وعيا بخطورة الشمس على بشرتهن. ويتبعن أكثر نصائح أطباء الجلد الذين تستضيفهم القنوات الإذاعية والتلفزيونية في هذه الفترة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».