مسرح «الأخوين الرحباني» يعيد الاعتبار لبطليه نصري شمس الدين وفيلمون وهبي

أغنيات فيروز وصباح تردد صداهما على شاطئ بيبلوس

الختام جمع المغنين الثلاثة: «باسمة، سمية بعلبكي، وغسان صليبا» في أداء مشترك مع الفرقة الراقصة
الختام جمع المغنين الثلاثة: «باسمة، سمية بعلبكي، وغسان صليبا» في أداء مشترك مع الفرقة الراقصة
TT

مسرح «الأخوين الرحباني» يعيد الاعتبار لبطليه نصري شمس الدين وفيلمون وهبي

الختام جمع المغنين الثلاثة: «باسمة، سمية بعلبكي، وغسان صليبا» في أداء مشترك مع الفرقة الراقصة
الختام جمع المغنين الثلاثة: «باسمة، سمية بعلبكي، وغسان صليبا» في أداء مشترك مع الفرقة الراقصة

كان الحفل الغنائي الاستعراضي، مساء أول من أمس، لائقاً بالكبيرين اللذين منحا الفن اللبناني نكهته الأنقى، وضرورياً لإخراج شخصيتين فريدتين من عتمة النسيان. «فيلمون وهبي (1914 - 1986) ونصري شمس الدين (1927 - 1983)»، بقيا علامة فارقة في مسرح «الأخوين رحباني»، ومع ذلك لم يتقدما يوماً إلى الصفوف الأولى، ولم يرتقيا إلى مراتب النجوم. حفل الافتتاح في «مهرجانات بيبلوس الدولية» الذي خصص لهما، تحت عنوان «نصري وفيلمون في البال» أعاد الاعتبار الفني لحياتين ما كانت الأغنية والمسرح اللبنانيان، هما نفسيهما دونهما. عبقريان لم ينالا ما يستحقان، وآن للزمن أن يقول كلمته.
جمهور عريض وحماس هائل، ودهشة متواصلة رافقت الحضور، طوال ما يقارب الساعتين، الذي جاء ليعيد اكتشاف نصري وفيلمون، الأول ممثل ومغن كان حضوره طاغياً في الفن الشعبي والمسرح الغنائي، والثاني ملحن، لا تزال أغنياته على كل لسان. أعطى لفيروز وصباح وغيرهما من كبار المغنين، ما لم يتمكن الوقت من محو زهوه.
أولاد منصور الرحباني الثلاثة، لهم الفضل في صياغة تفاصيل هذا الحفل وإعادة توزيع الموسيقى. مروان إخراجاً، غدي قاد الفرقة الموسيقية، وأسامة على البيانو، وكرّت سبحة الاسكتشات والأغنيات، التي يحفظ الجمهور غالبيتها، وجاء خصيصاً لأنه يعرف أنها ستعيده إلى زمن الحب الرومانسي، وحياة البساطة، وجمال الطبيعة، وبراءة العلاقة مع الكرم والبستان والزهر، وتوثق صلته بمحيطه البكر.
صورتا فيلمون ونصري لما تغيبا عن الشاشة الكبرى التي صنعت خلفية المسرح العائم في بحر جبيل إلا لتطلا من جديد. «كيف حالن؟» يصدح صوت نصري ليجيبه صديقه فيلمون «كيف حالتكن، إن شالله مبسوطين؟ عنا معزتكن بالقلب ساكنين؟»، ويطل غسان صليبا بواحدة من أشهر أغنيات نصري مع الكورس وفرقة الدبكة ليشدو: «طلوا، طلوا الصيادين وسلاحن يلمع يابا» من كلمات وألحان الأخوين رحباني.
إطلالة الفنان المسرحي القدير رفيق علي أحمد بين الأغنيات والاسكتشات شكلت فاصلاً طريفاً للتعريف بطراوة ودماثة وشاعرية بالفنانين الكبيرين، وليوجه أولاد منصور، عبر كلماته، لسعاتهم المعتادة في نقد الطبقة السياسية، رغم جود عدد وافر من رجال المسؤولين كان بينهم رئيس «حزب القوات اللبنانية» سمير جعجع وعقيلته ستريدا. وكذلك وزراء: الثقافة غطاس الخوري، الدولة لشؤون المرأة جان أوغاسبيان، السياحة أواديس كيدانيان، والاتصالات جمال الجراح، النائب وليد الخوري، الوزير السابق روني عريجي. تناوبت على المسرح مع غسان صليبا الفنانتان باسمة وسمية بعلبكي. لم يكن قليلا عدد الأغنيات التي استمع إليها الجمهور في هذا الحفل لفيروز، رغم أنها مانعت كلياً أن تؤدى أي من أغنياتها في حفل الذكرى الستين لليالي اللبنانية الذي أقامته «مهرجانات بعلبك الدولية» منذ أيام. هنا في جبيل، وبحجة أن فيلمون وهبي هو الذي لحنها وبيبلوس تحتفي به، استمع الحضور إلى «كتبنا وما كاتبنا» و«طيري يا طياره طيري» و«ليلية بترجع يا ليل»، «على جسر اللوزية»، «فايق يا هوا»، «يا دارة دوري فينا»، «جبلية النسمة جبلية»، «من عز النوم بتسرقني»، «يا مرسال المراسيل» وأغانٍ أخرى، فيروز نفسها لم تستعدها كثيراً في حفلاتها.
بطلا الحفل الحقيقيان كانا الأخوين رحباني اللذين كتبا غالبية الأغنيات، وأدها المغنون الثلاثة بشكل إفرادي، أو بما يشبه «الميدلي»، إما لأن نصري أداها أو لأن فيلمون لحنها. اختيارات مؤثرة، خاصة أغنيات صباح التي لحن الكثير منها وهبي، وشاعت واشتهرت كما أغنية «عني يا منجيرة» أو «تغندري يا مغندرة»، «راجعة على ضيعتنا»، «جنينة حبيبي مليانة تفاح وعنب لبناني»، «يا أمي دولبني الهوى»، «يا أمي طل من الطاقة».
متعة تذوق الألحان لم تكن أقل من سعادة إعادة اكتشاف الكلمات التي تنضح شاعرية وتعيد الحاضرين إلى زمن كان بمقدور صباح أن تغني فيه لحبيبها من ألحان فيلمون «ع البساطة البساطة يا عيني عالبساطة، تغديني جبنة وزيتونة وتعشيني بطاطا». أو نسمع الصبية تنتظر من حبيبها مجرد عقد بنفسجي بسيط، أو تتمنى لو تسرق له عنقود عنب أو تريد مجرد لقاء على النهر كما في أغنية فيروز في يا «كرم العلالي عنقودك لنا».
أجاد الرحابنة الثلاث في اختياراتهم، وفي تقديم الفنانين الجليلين، وفي إعادة الناس إلى ذائقة فنية رحبانية ضخت في الأغنية اللبنانية نبضاً وحباً وأناقة موسيقية هدّارة.
أرشيف نصري شمس الدين، حضوره على الشاشة، الاسكتشات التي استعيدت، مقاطع من مسرحيات مضت وحفرت. أحياناً كان ثمة حوار بين رفيق علي أحمد على المسرح ونصري شمس الدين الذي يطل من الشاشة، تركيب وإعادة تركيب لمواقف تخلط بين حوارات في مسرحيات رحبانية سابقة وأوضاع مستجدة، مثل التحضيرات للانتخابات النيابية، والقانون الانتخابي الجديد، ليخبر في النهاية رفيق علي أحمد، نصري شمس الدين في دنياه الأخرى أن ما وصلنا إليه غاية في السوء.
انتهى الحفل على أغنيات «هدّارة»، أداها المغنون معاً، برفقة فرقة الدبكة التي صمم الكوريغرافيا لها سامي خوري، وبدا وجودها حيوياً ومتناغماً مع الأجواء الراقصة التي سادت المدرجات.
تحية عطرة، لروح الكبيرين فيلمون ونصري فهما من العبقرية بحيث يجب أن يبقيا في البال.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».