أقدار سينمائية مختلفة لرؤساء أميركا

تمنيات وتوقعات مكبوتة وخطط اغتيال

سيلا وورد رئيسة الجمهورية في «يوم الاستقلال: انبعاث».
سيلا وورد رئيسة الجمهورية في «يوم الاستقلال: انبعاث».
TT

أقدار سينمائية مختلفة لرؤساء أميركا

سيلا وورد رئيسة الجمهورية في «يوم الاستقلال: انبعاث».
سيلا وورد رئيسة الجمهورية في «يوم الاستقلال: انبعاث».

هم ضحية خطط اغتيال، بعضها ينجح وبعضها الآخر يفشل.
هم في خطر هجوم مباغت من قبل أعداء واشنطن، أو هم من سيقودون المعركة ضد هؤلاء الأعداء.
هم صور شخصية تدور حولها الأفلام التسجيلية، أو استنباطات خيالية لأفلام روائية.
كيفما نظرت إلى رؤساء الولايات المتحدة، من أيام لينكولن وإلى اليوم، تجد أنّ حياتهم، الحقيقية أو المتخيلة، من تلك المواضيع الأكثر تردداً في السينما. وكما هو واقع كل الأفلام في كل الأنواع، تنجح تلك الأعمال، سواء أكانت بيوغرافية أو مؤلّفة، بقدرة من يقف وراءها ويوفرها بأسلوبه الخاص إذا ما امتلكه.
لكن هذه المواضيع متشعبة إلى ما لا نهاية ويمكن النظر إليها من زوايا كثيرة. هي أفلام سياسية وإنتاجات فنية واستعراضات شخصية وتاريخية، وقبل وبعد كل شيء هي أعمال عن شخصيات حقيقية. ومعظم هذه الزوايا مطروقة في الأفلام جميعاً باستثناء أنّ الكثير منها سيتناول شخصيات خيالية يبتدعها إذا لم تكن الشخصية الحقيقية تستطيع الإيفاء بالمطلوب. على سبيل المثال، لم يضطر رئيس جمهورية أميركي لاستخدام مهارته القتالية (إذا ما وُجدت) في الأجواء بعدما تسلل إلى طائرته فريق من الأشرار، ما جعل الحكاية المثيرة ككتابة تدور حول رئيس خيالي قام به هاريسون فورد في فيلم Air Force One إخراج وولفغانغ بيترسون سنة 1997.
كذلك لم يرتكب رئيس جمهورية جريمة قتل يكتشفها لص جاء يسرق مخدعه كما حال فيلم «سُلطة مطلقة» (Absolute Power) الذي قام ببطولته وإخراجه كلينت ايستوود. لكن ايستوود لعب شخصية مستوحاة من الواقع كحارس أمن لموكب الرئيس (قام به غير المعروف جيم كيرلي) في فيلم آخر لبيترسون هو «في خط النار» (1993).
والصورة متباعدة بين «طائرة الرئيس واحد» وبين «سُلطة مطلقة» على الرغم من أنّهما خياليان. في الأول رئيس الجمهورية بطل لا يحتاج لمن يدافع عنه، إذ سيتصدّى للمهاجمين داخل الطائرة المحلقة بقدرة يخضر لها وجه أرنولد شوارتزنيغر حسداً.
في الثاني، هو رئيس جبان ورعديد (قام به جين هاكمن) قتل، ولو من غير عمد، امرأة ليل أراد ممارسة الحب معها بعنف فزهق روحها بين يديه. البطل هنا هو لص منازل شهد الحادثة وهو في المنزل الذي تم اختياره من قِبل مساعدي الرئيس لخلوته.
* قبل أشهر من اغتياله
تتدخل هنا حقيقة أن ايستوود يميني، ما يعني أن المنتظر منه هو تقديم فيلم يشبه «طائرة الرئيس واحد» بتمجيده الشخصية الأولى، عوضا عن تقديم فيلم ينسف فضائلها. لكن ايستوود والنظام ليسا دائماً على وفاق. في الواقع قد يكون ايستوود تقليدياً وجمهورياً وذي مواقف يمينية ثابتة، لكنّه لم يحقق فيلماً لصالح رئيس أو حزب. في فيلم آخر جمعه مع جين هاكمن، هو «غير المسامَح» (1992) نجد «الشريف» (هاكمن)، الذي يمثل النظام في ذلك الوسترن، يمارس نزعة سادية وعنصرية تودي بحياة صديق بِل موني (ايستوود) الأسود (مورغان فريمن). إلى ذلك، فإنّ هذا الشريف يبني بيته الخشبي بنفسه ويعتقد أنّه يحسن العمل بينما سقف البيت فيه من الثغرات بحيث يهطل الماء منه حين تمطر.
تقديم الرئيس في صور إيجابية انتشر حتى قبل أن تعرف السينما تأليف الحكاية. جورج واشنطن كان أول رئيس للولايات المتحدة، لكن أول فيلم عن رئيس جمهورية كان حول ويليام ماكينلي الذي حمل الرقم 26 في سلم الرئاسة الأميركية ومات سنة 1901 اغتيالاً.
إذا استبعدنا الشكوك بأن الرئيس زكاري تايلور (1850‪ - ‬1784)، الذي كان الرئيس الثاني عشر في تاريخ البيت الأبيض، مات مسموماً نتيجة خطّة من سياسيين مؤيدين لنظام العبودية في الجنوب الأميركي، لأن الطب آنذاك لم يستطع معرفة السبب، فإن ويليام ماكينلي هو ثالث رئيس أميركي مات مقتولاً بعد إبراهام لينكولن (1965) وجيمس غارفيلد (1881). لكن توماس أديسون كان سبق مصير ماكينلي بأشهر عندما صوّره في فيلمين قبل أشهر من اغتياله في عام (1901). الأول بعنوان «الرئيس ماكينلي وموكبه في الطريق إلى العاصمة»، والثاني «الرئيس ماكينلي يحلف اليمين»، والمقصود حلف اليمين للفترة الثانية من الرئاسة التي أمضى منها ستة أشهر قبل مقتله.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم، مروراً بحادثة اغتيال جون ف. كيندي سنة 1963، أنتجت هوليوود مئات الأفلام عن رؤساء أميركا سواء الذين ماتوا طبيعياً أو اغتيلوا (أربعة فقط). وبما أنّ عدد من جرى اغتيالهم ليس كبيراً، فإن الأفلام التي تحدثت عن خطط اغتيال لرؤساء وهميين هي، بالتالي، أكثر بكثير.
كذلك عدد الأفلام التي تناولت الرؤساء الحقيقيين (في شخصيات أولى أو ثانوية)، بصرف النظر عن نهاياتهم. على سبيل المثال هناك 18 فيلماً عن الرئيس جورج واشنطن من أشهرها فيلم هيو هدسون «ثورة»، قام آل باتشينو ببطولته. الفيلم ليس مباشرة عن الرئيس، لكنّ الرئيس موجود فيه يؤديه فرانك وندسور. أمّا تلك التي احتوت على شخصية إبراهام لينكولن يبلغ عددها 30 فيلما من عام 1915 (وهو العام الذي شهد كذلك أول فيلم روائي عن جورج واشنطن «معركة صرخة السلام» وحتى سنة 2014 في فيلم «سباق للبيت الأبيض»، ومروراً بفيلم ستيفن سبيلبرغ «لينكولن» (2012)، كما قام دانيال داي - لويس بتمثيله وقبله «آب لينكولن في إيلينويس» لجون كروموَل (1940) و«مستر لينكولن الشاب» لجون فورد (1939).
الواقع أنّ هناك 42 رئيس جمهورية تم تمثيلهم في الأفلام من أصل الـ45 رئيساً منذ مولد أميركا إلى اليوم.
* الرئيس مقاتلاً
ما يجعل من الحكايات حول رؤساء الجمهورية الحقيقيين، أو تلك التي تشملهم في حكاياتها، موضوعاً متوالياً في هوليوود (ما يفوق 240 فيلما غير تلك التي تتخيل رؤساءها) يعود إلى أنّ الأفلام التي نجحت تجارياً حول الرئيس هي أكثر، ولو بقليل، من تلك التي فشلت. من ينجح منها ومن يفشل يعتمد على الأفلام وطبيعتها. أولئك الذين أمّوا فيلم «رايات آبائنا» لايستوود (2005) فعلوا ذلك بسبب ايستوود وليس لأن الفيلم يحتوي على شخصية هاري ترومان. بينما شاركت شخصية إبراهام لينكولن في إنجاح فيلم «لينكولن» لجانب كل من سبيلبرغ وداي - لويس.
والمسؤولية متوازية في فيلمي أوليڤر ستون JFK وNixon، إذ احتوى كل فيلم على قضايا مثيرة تتعلق بحياة كل من جون ف. كيندي ورتشارد نيكسون. لكن عندما قام بتحقيق فيلم W، عن جورج دبليو بوش فإن الموضوع وصاحبه لم يلعبا ما يكفي من تأثير ما جعل الفيلم يسبح بعيداً عن ناصية الاهتمام.
هذا ليس سوى جانب من العلاقة بين هوليوود وواشنطن. السينما حاضرة هنا لكي تتحدث عن بطولة أو عن أزمة والرئيس يمر بالحالتين أو قد يفشل في الأولى وتبقى له نتائج الثانية، كما حدث مع رتشارد نيكسون وليندون جونسون اللذين من بين أقل رؤساء الجمهورية الأميركيين إثارة لتعاطف هوليوود والشارع السياسي العام.
وعندما لا تكفي بطولات الرئيس فإن ابتداعها أمر لا يحتاج إلا لمخيلة كاتب السيناريو. ها هي كوريا الشمالية تتعاون مع إرهابيين أميركيين للهجوم على البيت الأبيض وتدميره في «أوليمبوس سقط» (أنطوان فوكوا، 2013) وبعده هم إرهابيون عرب الذين يريدون قتله خلال زيارته إلى لندن في «لندن سقطت» (لباباك نجفي، 2016). في كليهما يشترك الرئيس الأميركي المبتكر «بنجامن آشر» (آرون إكهارت) في درء العدوان، لكن خط الدفاع الأول هو للحارس الشخصي مايك بانينغ (جيرارد بَتلر). لكن علينا ملاحظة أنّ القدرات القتالية لهذا الرئيس تحسّنت ما بين الفيلمين. هو أقل قدرة على الدفاع عن نفسه في الفيلم الأول، وشريك في القتل والقتال في الفيلم الثاني. هنا تختلف النظرة السياسية أيضاً: إنقاذ الرئيس يتم أساساً بسبب حارسه بينما يتساوى الاثنان في المهام في الفيلم الثاني.
في الأول يتم هدم البيت الأبيض فوق ساكنيه، ما يعني أنّ أميركا ليست محصّنة، وفي الثاني تقع الأحداث بعيداً عن البيت الأبيض الذي لا بد أنّه أعيد بناؤه خلال تلك السنوات الفاصلة.
في فيلم أسبق للساخر تيم بيرتون «المريخ يهاجم» (1995، خلال ولاية بوش الأب)، يغزو أهل الفضاء الولايات المتحدة. يقتلون كل من يتنفس أمامهم ويصلون إلى البيت الأبيض. الرئيس (يؤديه جاك نيكلسون) مقتنع بأنّه يستطيع إجراء صفقة، لكن الغزاة يصعقونه بوميض قاتل فيموت.
* المخرج الرائي
ربما شعر الأميركيون بأن هذا القتل، بالطريقة غير البطولية التي كان فيها الرئيس يستجدي التفاهم، مهينة وبقي هذا الفيلم من بين أفلام بيرتون الأقل نجاحاً. وبعد عام واحد تحلق الجمهور بكثافة حول فيلم يقلب المعادلة عنوانه «يوم الاستقلال». الغزاة الفضائيون أقوياء وأسلحتهم لا مثيل لها في القوّة التدميرية وواشنطن العاصمة تتكوّم كأنقاض، لكن الرئيس ويتمور (بل بولمان) لن تهزّه الكارثة، بل سينتقل إلى أرض المعركة ملهماً الطيارين ول سميث وجيف غولدبلوم بالقدرة على شن الهجوم المضاد والانتصار على الأعداء.
رولاند إيميريش، مخرج هذا الفيلم، عالج الموضوع ذاته في العام الماضي عبر «يوم الاستقلال: انبعاث». ول سميث انسحب وغولدبلوم وبولمان عاد كرئيس سابق، بينما احتلت سيلا وورد رئاسة البيت الأبيض ومسؤولية الدفاع عن أميركا.
بما أن الفيلم تم إطلاقه خلال المعركة الانتخابية فإن الحثّ على إيصال هيلاري كلينتون للرئاسة كان من بين غايات هذا الفيلم بتنصيب شخصية نسائية لهذا المنصب. لكن الفيلم، على الرغم من عتاده الضخم من المؤثرات دوى بفشل ذريع محدثاً الصوت نفسه لسقوط أي من المركبات الكبيرة التي حملت الأعداء إلى كوكب الأرض.
ما بين الفيلمين، وفي العام ذاته الذي شهد خروج «أوليمبوس سقط» لأنطوان فوكوا، غازل إيميريش البيت الأبيض بفيلم آخر هو «البيت الأبيض يسقط» وفيه يقوم شأنينغ تاتوم بإنقاذ الرئيس الأميركي الأسود (جايمي فوكس) من هجوم كاسح لغزاة من أهل الأرض.
هذه الأفلام الثلاثة تنضوي تحت بند البطولات لكن «يوم الاستقلال: الانبعاث» ليس الوحيد من بين تلك التي تنضوي على الآمال أو يدخل في صنف التمنيات شبه المكبوتة من حيث إن المرأة فيه هي رئيسة الجمهورية.
فحتى قبل تولي باراك أوباما الرئاسة، شهدنا أفلاما تحدثت عن وصول رئيس أفرو - أميركي إلى البيت الأبيض من بينها فيلم آخر للمتخصص «تنبؤات» رونالد إيميريش هو «2012» قام بدور الرئيس فيه داني غلوڤر (2009) وقبله، سنة 1998 جسد مورغان فريمان شخصية الرئيس في فيلم كوارثي آخر (كما حال «2012») عنوانه «تأثير عميق» لميمي لَدر، وعلى أيام بوش الابن مثّل دنيس هايسبيرت دور الرئيس في مسلسل «24». لكن الرئيس الأسود الأول في الأفلام كان جيمس إيرل جونز حين لعب دور رجل الكونغرس الذي يتحوّل إلى رئيس الجمهورية بقرار مفاجئ بعد اغتيال الرئيس ذاته، وذلك في فيلم لجوزيف سارجنت عنوانه «الرجل» سنة 1972.
في الواقع كل ما سبق ذكره هنا يلعب على أفكار للتسلية والتنويع باستثناء أن «الرجل» أكثر جدية في طرح ما يواجه هذا الرئيس سياسيا وشعبياً وكيف أنّه يحاول استغلال الفرصة، لكي يقضي على العنصرية والتعصب.
بالنسبة للمرأة رئيساً، وإلى جانب سيلا وورد في «يوم الاستقلال: انبعاث»، لم يتم تقديم عمل آخر في هذا السياق باستثناء مرتين تلفزيونيّتين: ألفري وودارد لعبت دور رئيس البيت الأبيض في «حال الشؤون» وجمعت بين كونها امرأة وأفرو أميركية، وجوليا لويس دريفوس لعبت الدور ذاته في المسلسل Veep، جامعة بين كونها امرأة ويهودية.
* وحيداً
في فيلم يحمل كلمة الرئيس في العنوان، ويدور حوله - ولو على نحو غير مخصص - وهو «كل رجال الرئيس» ليس هناك من شخصية رئيس فعلي. لكن هذا الفيلم الذي حققه ألان ج. باكولا سنة 1976 مستوحى من إحدى أهم فضائح البيت الأبيض الواقعية وهو فضيحة ووترغيت على أيام رتشارد نيكسون.
عندما عمد المخرج الراحل روبرت ألتمن إلى الموضوع ذاته في فيلم «شرف سري» (1984) منح دور الرئيس ذاته إلى فيليب بايكر هول الذي لا يظهر في الفيلم سواه. ذلك أنّ هذا الفيلم السياسي الساخر (المشاهد في عرض هامشي في إحدى دورات مهرجان برلين) يدور حول الرئيس نيكسون في مكتبه المغلق عليه طوال ساعة ونصف: دراما حول سلوكياته ومؤامراته وعزلته في أسابيع حكمه الأخيرة.
السخرية هي منوال شاهدناه في فيلم «سوبرمان 2» لرتشارد لستر (1980) وفي «مواطنيي الأميركيين» (My Fellow Americans) لبيتر سيغال (1992)، وكما تقدم، في «المريخ يهاجم» لتيم بيرتون (1996). لكن أفضل من استخدمه كان ستانلي كوبريك في وصفه حال رئيس أميركي اسمه مركن موفلي يجد نفسه في مواجهة حرب إبادة مع السوڤييت في «دكتور سترانجلف أو: كيف تعلمت التوقف عن القلق وأحببت القنبلة» (1964).
بيتر سلرز في ذلك الدور وهو يصل على عجل إلى غرفة العمليات محاولا إيقاف صاروخ نووي أُطلق بغير أمره سيضرب موسكو بلا ريب. في المقابل، وحال عرف الروس بتوجه الصاروخ النووي إلى بلادهم، أطلقوا صواريخهم صوب الولايات المتحدة وليكن ما يكون.
في العام ذاته، قام هنري فوندا ببطولة فيلم «أمن فاشل» لسيدني لوميت الذي يفترض أيضاً توجيه الولايات المتحدة ضربة إلى موسكو، لكنّ الخطأ ليس بشرياً، بل تقنيا إذ فشلت محاولة إعادة الطائرة الحاملة للقنبلة بعدما أنهت تدريباتها. لكن بقدر ما كان فيلم كوبريك رائعاً في السخرية من حروب القوى وموغلاً في معاني الحرب الباردة التي كانت، في الواقع ساخنة في ذلك الحين، بقدر ما جاء فيلم لوميت فاقداً اللمعة مكتفياً بالمادة الرصينة.
هذا الجانب السياسي تقاطع دوماً ومع احتمالات الواقع. صحيح أنّ التركيبة كانت خيالية تنص على حرب محتملة أو مؤامرة اغتيال وشيكة الوقوع، إلّا أنّها كانت نسيجاً من الوضع المتأزم الذي شهدته العلاقات الأميركية - الروسية أو نتيجة وضع مماثل في الزمن الحالي حيث يسود التطرف ويضرب الإرهاب في أكثر من مكان.
«صدنلي» (اسم البلدة وليس المعنى في كلمة Suddenly)، خرج عن هذا الخط سنة 1954 قليلاً. فيلم ترفيهي في كيانه، لكنّه بدوره وضع في الحسبان احتمالات الاغتيال الذي تقوم به جهة غربية (غير مسماة في الفيلم)، عبر عملاء، وبذلك يحيك الموقف السياسي الذي يستند إليه.
فرانك سيناترا هو العميل مع ثلاثة رجال يصلون إلى بلدة «صدنلي»، حيث من المنتظر توقف رئيس الجمهورية في البلدة قادماً بالقطار في طريقه إلى مدينة أخرى. يداهمون البيت المشرف على المحطة ويحتجزون من فيه (بمن فيهم الشريف سترلينغ هايدن الذي كان في زيارة للأرملة التي فقدت زوجها في الحرب الكورية)، وينصبون بندقية قنّاصة بانتظار اللحظة الحاسمة.
ما يلي ذلك هو قصّة تُروى. ما يطرحه الفيلم هو كيف على أميركا أن تبقى حذرة من خطط اغتيال رؤسائها، وكان ذلك قبل تسع سنوات من اغتيال الرئيس كيندي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)