يطلقون عليها في العالم العربي (فلافل)، بينما في مصر اسمها (طعمية)، يختلف العرب فيما بينهم هل هي شامية المنشأ أم مصرية المولد، إلا أنهم يتفقون طبعا على كونها عربية المذاق، تأكلها مرة وهي مطحونة مع الخضراوات بالفول وأخرى بالحمص، وثالثة وهي تمزج بينهما بمقياس ذهبي يراعي الطعم الجذاب. تخيلوا أنّ إسرائيل التي لم تبلغ بعد السبعين عاما تؤكد أنّها إسرائيلية، على الرغم من أن هناك وثائق تشير إلى أنّها فرعونية، أي أنّها تتجاوز 7 آلاف عام. لا بدّ أن نضع في الحسبان أنّ من يسطو على الأرض ويزوّر التاريخ لن يجد أدنى مشكلة في أن يدّعي بأنه صاحب براءة اختراع «الفلافل» العربية.
في إسرائيل عينهم على كثير مما هو عربي، حتى أزياءنا وموسيقانا، كثيراً ما يدّعون أنّها إسرائيلية، بل أكثر من ذلك يتعمدون الخلط بين ما هو يهودي الديانة وما هو عربي الهوية.
لا يفرق العالم العربي بين الأديان، بل معروف أن أكثر من مدينة عربية فتحت أبوابها لليهود واستقبلتهم أثناء الحكم النازي في الثلاثينات، مثل مدينة الإسكندرية، سمحت لهم بعد أن فروا إليها واستنجدوا بسماحة أهلها، بالعمل ومنحتهم أيضاً بكل دفء الجنسية المصرية، هم الآن يحاولون أن يعتبروهم عنوة إسرائيليين، لدينا موسيقار مصري كان معاصراً لسيد درويش وهو داوود حسني، الذي كان أول من اكتشف صوت ليلى مراد، يقولون إن إبداعه إسرائيلي، وهو مثل ليلى مراد - قبل أن تُشهر إسلامها عام 46 - يهودي الديانة، ولكنه مصري الهوية والانتماء، الفنان يظل إبداعه منسوباً إلى جنسيته وليس ديانته، لقد حاولوا استغلال ديانة ليلى مراد الأولى، لكي يتواصلوا معها؛ ولكنها أوصدت كل الأبواب، وقالت أنا مصرية مسلمة. وعندما رحلت عن عالمنا عام 1995، خرجت جنازتها بناء على وصيتها من مسجد السيدة نفيسة، بينما كانوا في إسرائيل يؤكدون أنّها ماتت على ديانتها الأولى اليهودية.
هم يسطون على الأكلات مثلما يسطون أيضاً على النغمات، وآخرها ما حدث مع المطرب هاني شاكر عندما أخذوا أغنية شهيرة له «غلطة وندمان عليها» كشعار لأقسام الشرطة هناك، وبها كلمات «حسستك بالأمان واديتك الحنان»، هم ضمنا يعترفون بأن هناك تجاوزاً في حق إخواننا العرب في فلسطين «غلطة وندمان عليها»، ولكنّهم يعتبرونها غلطة واحدة على الرغم من أنّها على أرض الواقع تُقدر بالمئات من الغلطات التي تصل لحدود الجرائم، بينما يقولون في إسرائيل إنهم يمنحونهم الأمان والحنان، اختيار اسم هاني طبعاً ليس عشوائياً، هناك بالطبع على الساحتين المصرية والعربية بين نجوم الغناء، من تفوقوا الآن جماهيرياً على هاني، ولكن هاني له تاريخ عريض، يغني قبل 45 عاماً، ولا يزال لديه حضوره في الساحة العربية، ولا تنسَ أنّه أيضاً نقيب الموسيقيين في مصر، فهو بهذه الصفة لا يمثل فقط نفسه، ولكن كل الموسيقيين المصريين، طبعاً هاني لم يصمت بل سارع بإعلان الغضب وتقدم للسفارة الإسرائيلية في القاهرة بشكوى.
وتلك هي الغلطة الاستراتيجية التي أقدم عليها مؤكداً بحسن نية، مصر صحيح هي الدولة العربية الوحيدة التي طبعت سياسياً مع إسرائيل ولديهم سفارة وهناك علم يرفع مثلما يحدث في كل السفارات، إلا أن هذا العلم أسقط فعلاً في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، عندما تسلق شاب العمارة التي بها العلم ومزقه، ويومها أطلقوا عليه في الإعلام «سبايدر مان المصري»، ومنحه رئيس الوزراء المصري الأسبق د.عصام شرف مكافأة.
مصر تزعمت المقاطعة الثقافية منذ عام 1979، فلم يعد الأمر متوقفاً على رئيس الجمهورية أنور السادات، هو يملك القرار السياسي بحكم موقعه بالتطبيع، ولكن ثقافياً وفنياً، لا يستطيع أن يُجبر المثقفين على التطبيع، انطلقت المقاطعة من مصر وكان لها صدى عربي من خلال اتحاد الفنانين العرب الذي كان يرأسه سعد الدين وهبه والذي يعني أن كل الفنانين العرب لا يتعاملون مع إسرائيل، فلا تستضيف أفلاماً ولا فنانين من إسرائيل في أي تظاهرة ولا تتعامل رسمياً مع إسرائيل، بينما هاني شاكر عندما يرسل شكوى للسفارة فهو يعترف رسمياً بهم، كان الأجدر بهاني أن يعلن غضبه، ولكن لا يحيله إلى شكوى رسمية للسفارة.
هم لن يتوقفوا أبداً عن تلك المحاولات، سبق مثلاً لسفير إسرائيل في القاهرة قبل نحو تسعة أشهر - وتحديدا يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول)، وهو كما ترى ليس اختياراً عشوائياً - أن قطع تذكرة للمسرح القومي، ودخل إلى بهو المسرح العريق وهو أقدم المسارح المصرية، لمشاهدة عرض «ليلة من ألف ليلة» التي يلعب بطولتها يحيى الفخراني، وحقق أعلى كثافة مشاهدة في مصر، يومها تدخل المسؤولون عن المسرح ومنعوا دخول الحرس المسلح الذي يصاحب عادة السفير، وهو قرار من الناحية القانونية سليم قطعاً، إذ إنه ممنوع اصطحاب أي أنواع من الأسلحة في كل مسارح العالم، ولكن البعض طالب بما هو أكثر، إلغاء العرض احتجاجاً على دخول السفير، ولكن بذكاء وهدوء قال الفخراني لا يمكن أن ألغي عرضاً وهناك مصريون وعرب دفعوا تذكرة لمشاهدة المسرحية، ولكن جاء رد الفعل مباشراً، أولا لم يُستقبل السفير رسمياً من قبل مدير المسرح كما يقضي «البروتوكول»، ثانياً وهو الأهم، فإن مدير المسرح ألقى كلمة تحية لانتصار مصر والعرب في 6 أكتوبر، مؤكداً أنّ فلسطين عربية، وعُزف السلام الوطني المصري (بلادي بلادي) قبل بداية العرض.
إسرائيل لا تكفّ عن محاولة اختراق الصف العربي والبحث عن ثغرات لاقتحام الجدار الصلب، الذي أقامه المثقفون والفنانون في عالمنا العربي، عندما ارتدى الموسيقار محمد عبد الوهاب رتبة اللواء وقاد فرقة الموسيقى العسكرية التي استقبلت الرئيس أنور السادات بعد عودته من توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» في مطار القاهرة، عام 1979، وعزفت السلام الوطني الجديد «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» تلحين سيد درويش، كانت هذه نقطة فارقة على مستوى التوجه السياسي والفكري والتاريخي وقبل ذلك الوجداني، تم تغيير السلام الوطني من نشيد أم كلثوم (والله زمان يا سلاحي) حين كان المقصود بالسلاح في النشيد هو الذي نوجهه إلى إسرائيل، بينما (بلادي بلادي) يتغنى بحب الوطن، ولا يرفع السلاح ضد أحد، إلا أن هذا لا يعني أننا سننسى بسهولة جراحنا كعرب مع إسرائيل.
إسرائيل بين الحين والآخر وعلى شاشات التلفزيون العبري تعرض مسلسلات مصرية مثل «الأسطورة» و«أفراح القبة» و«غراند أوتيل» وغيرها، وقبل ذلك سرقوا أغلب أغانينا وبثوا عدداً منها صوتاً وصورة أحياناً بكلمات عبرية، ومن أشهرها أغنية «زحمة يا دنيا زحمة» لأحمد عدوية ومن كلمات حسن أبو عتمان وتلحين هاني شنودة، والغريب أن «أبو عتمان» كتب في نهاية السبعينات، أول أغنية للسلام مع إسرائيل طبعاً لم تكن الكلمات مباشرة، ولكن ظلالها حملت معنى التسامح مع إسرائيل (يا عبد الله يا خويا سماح / وسيبك م اللي عدى وراح / تعالى نعيش أنا وأنت / في دنيا كلها أفراح)، غناها محمد رشدي بتلحين بليغ حمدي أقرب الملحنين على قلب أنور السادات، ولا تزال تُقدم بين الحين والآخر وأغلب المستمعين لا يدركون أنّها أساساً أغنية تدعو للتطبيع.
علينا في هذا السياق أن نتوقف أمام تهمة خطيرة وجهت إلى كثير من الكتاب والصحافيين والفنانين، مثلاً من يغني في مدينة «رام الله» عاصمة السلطة الفلسطينية هل هو مطبع؟ أكثر من مطرب فعلها مثل مدحت صالح وقبل بضعة أشهر صابر الرباعي الذي التقطت له صورة مع ضابط إسرائيلي، وقال الرباعي إنه لم يكن يدري أنّه إسرائيلي فقد كان يتحدث العربية بطلاقة واتضح بعدها أنّه سوري درزي، ولكنّه يحمل الجنسية الإسرائيلية.
في مهرجان القاهرة السينمائي 2015، أثيرت تلك القضية بسبب الفيلم الجزائري «مدام كوراج» للمخرج مرزاق علواش، الذي عرض في مهرجان «حيفا»، ثم شارك بالقاهرة، الأمر لا يدخل أبداً تحت طائلة التطبيع، عدد من أفلام يوسف شاهين التي شاركت في تمويلها شركات فرنسية عُرضت في مهرجانات أو عروضاً تجارية في إسرائيل مثل «إسكندرية كمان وكمان» و«وداعاً بونابرت»، لأنّها إنتاج مشترك مع شركات فرنسية، فتم بيعها من قبل الجانب الفرنسي لإسرائيل، وهو ما أكده أكثر من مرة الراحل يوسف شاهين، كما أن الكثير من أفلامنا العربية الأخرى موجودة في أرشيف التلفزيون الإسرائيلي، لأنه طوال تاريخ السينما المصرية ومنذ نهاية الأربعينات تحديداً وهناك سرقات، هم طبعاً يسعون بكل الأسلحة لعقد صفقات مع صُناع الأعمال الفنية لطرح الأعمال الفنية بطريقة شرعية، ولكن الفنان العربي ملتزم بالرفض، مثلاً قبل عشر سنوات حاولوا التواصل مع الشاعر الغنائي الراحل أحمد شفيق كامل مؤلف «أنت عمري» لأم كلثوم، للموافقة على طبع الأغنية «سي دي»، ولوحوا بأنّهم يتركون للشاعر الكبير تحديد المبلغ الذي يطلبه، إلا أنه رفض قائلاً: «يغوروا هم وفلوسهم»، ونردد أيضاً وراء شاعرنا الكبير «يغوروا هم وفلوسهم»!!
«غلطة» هاني شاكر التي سطت عليها إسرائيل ليست الوحيدة
التطبيع بالنغمات والأكلات
«غلطة» هاني شاكر التي سطت عليها إسرائيل ليست الوحيدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة