جون رولز والديمقراطية التداولية

حدد ثلاثة شروط لتحقيقها في المجتمعات

جون رولز
جون رولز
TT

جون رولز والديمقراطية التداولية

جون رولز
جون رولز

قبل الانتقال إلى الفلاسفة الذين تحاوروا مع رولز وقدموا أطروحات نقدية لنظريته في العدالة من المهم التوقف عند قضية جوهرية في فلسفته وهي مفهومه للديمقراطية التداولية «Deliberative Democracy». في الدولة الديمقراطية الليبرالية كما يرى رولز يتحمل الفرد عبئا مهما له دلالته وآثاره الكبرى وهو «عبء الحكم». أي أن الفرد في هذه الدولة مطالب باتخاذ قرارات وإصدار أحكام لها علاقة بالمجال العام، تتفاوت من التصويت لمرشحي الانتخابات مرورا بالتصويت على القوانين الكبرى والتعديلات الدستورية وصولا إلى المشاركة الاجتماعية والسياسية بكل أشكالها. هذا العبء يتطلب إذن مجالا عاما وخاصا يجعل من القيام بهذه المهمة ممكنا. يقول رولز في كتابه الليبرالية السياسية «الديمقراطية التداولية تدرك أنه دون تعليم منتشر يعنى بالمبادئ الأساسية للحكومة الديمقراطية الدستورية، وكذلك دون مجتمع واع بالمشكلات الضاغطة، فإن القرارات السياسية والاجتماعية الجوهرية لا يمكن اتخاذها» (ص449). هذا يجعل من هذه الدولة بالضرورة دولة تداولية فكرتها الحاسمة تكمن في التداولية ذاتها.
يذكر رولز ثلاثة عوامل جوهرية للديمقراطية التداولية (الليبرالية السياسية، ص 448). أولا فكرة العقل العام، ثانيا: الإطار العام للمؤسسات الديمقراطية الدستورية التي تحدد ظروف وشروط مجالات التداول التشريعية. ثالثا: المعرفة والرغبة من طرف المواطنين بشكل عام لمتابعة العقل العام وإدراك أهدافه. العقل العمومي فكرة مثيرة لدى رولز، فهي حالة خاصة من التداول الديمقراطي وفق ظروف معينة. أهم هذه الظروف المؤسسة لهذا التداول هو حقيقية التعدد والاختلاف في المجتمع بالإضافة إلى حقيقة أن التفكير في هذا المجال هو تفكير للجميع وليس تفكيرا للذات. بمعنى أن التداول في المجال العام محكوم بأن نتائج هذا التداول متعلقة بالجميع مما يجعل الفرد يأخذ بعين الاعتبار مواقف وآراء شركائه في المجال العام. هذه المهمة تجعل من الضروري على الفرد القيام بعملية فكرية واجتماعية معقدة. وهي أن عليه إدراك حدود وصلاحية التفكير العمومي فيما يتعلق بحريات وخصوصيات الناس. بمعنى أن على كل فرد أن يدرك أنه التفكير العمومي لا يسعى لصياغة قوانين تحدد للناس مخططات حياتهم، فهذه المهمة يتولاها الناس بأنفسهم. العقل العمومي محكوم بحريات وحقوق مصونة لجميع الناس بالتساوي. هذه المهمة تتطلب عند الفرد ما يسميه رولز حس العدالة. أي وعي الفرد بأنه كما أنه يمتلك القدرة والحق في اختيار مفهومه الخاص للحياة الخيرة والجيدة، فإن الآخرين أيضا يملكون هذا الحق وتلك القدرة. هذا يجعل من الضروري أن لا ينفي الخطاب العمومي هذه المعاني الجوهرية. هذا يتطلب من الأفراد الوعي بأننا غالبا ننطلق في أحكامنا من مذاهب شمولية دينية أو فلسفية تعطينا معنى وتفسيرا للكون والحياة والإنسان، ولكننا نعلم في الوقت ذاته أن الآخرين أيضا لديهم مذاهبهم الشمولية التي تعطيهم معاني للكون والحياة والإنسان. حالة الاختلاف هذه تتطلب من كل فرد تقديم رأيه للآخرين دون أن يترتب بالضرورة على موافقتهم له التخلي عن مرجعياتهم الشاملة والدخول في مرجعيته الخاصة. بمعنى أن المواطن المسيحي في المجال العام يفترض أن لا يجعل من مداولاته مع شركائه في الوطن تشترط عليهم الدخول في المسيحية ليكون رأيه معقولا، رأي من هذا القبيل: «أريد منع الإجهاض لأن المسيح أمرني بذلك». هذا المبرر الذي يقدمه هذا المواطن لا يحمل معنى كافيا لمواطن آخر لا يؤمن بالمسيح. المواطن المسيحي مطالب بتقديم محاججة قابلة للتداول من أفراد يختلفون معه في المرجعية. المسيحي أو الماركسي لا بد أن يدرك أنه شريك لغير مسيحيين وغير ماركسيين وأنه لا يتميز عنهم في الحقوق والواجبات.
العقل العام أو التداول العام «كامل» كما يرى رولز. بمعنى أنه قادر على التعامل مع كل القضايا العمومية. هذا مبدأ جوهري في الديمقراطية وهو أن الشعب قادر على حل مشكلاته. لا توجد هنا مساحة لفرض أي منطق متعال، بدعوى قصور في قدرة الناس على إدارة شؤون حياتهم العامة. الحل الوحيد أمام الناس في هذا الظرف هو المزيد من التداول والحوار والجدل. في الأخير لن يأتيهم أحد بالجواب النهائي من خارجهم. هذه الفكرة تعني أن يثق الناس، ليس فقط في قدرتهم الذاتية على التفكير والتدبير، بل أيضا في قدرة الآخرين على القيام بالمهمة ذاتها. هذه الثقة تتطلب من الفرد صياغة محاججاته العمومية بناء على احترام وإدراك لقدرة الآخرين على فحصها، وتعديلها، وقبولها أو رفضها.
هذا التداول العمومي مرتبط جدا عند رولز بتطوير إمكانات وقدرات مهمة عند الأفراد. أهم هذه القدرات هي مهارة التعقل. أي أن التداول العمومي عن الأفراد ينمي عندهم القدرة على وزن الأدلة والبراهين والمحاججات والتعامل معها نقديا. هذا مرتبط ليس فقط بالتعليم والجامعات ومراكز الأبحاث، بل حتى بوسائل الإعلام والتعبير في المجتمع. توفر المعلومات للجميع كما توفر الحماية للجميع في المشاركة والتعبير والحوار والتداول عبر كل الوسائل هي في الأخير سمات جوهرية للديمقراطية التداولية كما يدعو لها رولز.
في الأخير من المهم القول إن هذا الفضاء العام للتداول يتطلب توفر ثلاثة شروط أساسية: أولا ضمان الحقوق والحريات والفرص الأساسية للمواطنين الأحرار المتساوين. ثانيا: أن تعطى تلك الحقوق والحريات والفرص الأولوية على القيم الاجتماعية والسياسية. بمعنى أن يقدم الحق على الخير. مثلا (حق) الفرد في التعبير بما يتضمن نقد المسيحية له الأولوية على ما قد يعتقد الغالبية أنه من (الخير) عدم نقد المسيحية. الثالث: أن توفر المؤسسات العامة للأفراد الشروط الضرورية لجعل من مشاركاتهم العمومية مؤثرة وفاعلة. هذا الشرط الثالث يعني التزام المؤسسات العامة بتوفير دعم مادي للحملات العمومية العاجزة عن توفير دعم ذاتي، كما يشمل الالتزام بتوفير تعليم عام للجميع يهيئهم للمشاركة العمومية، كما يشمل أيضا توفير شرط صحي يجعل من هذه المشاركة ممكنة وفاعلة أيضا.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.