قبل الانتقال إلى الفلاسفة الذين تحاوروا مع رولز وقدموا أطروحات نقدية لنظريته في العدالة من المهم التوقف عند قضية جوهرية في فلسفته وهي مفهومه للديمقراطية التداولية «Deliberative Democracy». في الدولة الديمقراطية الليبرالية كما يرى رولز يتحمل الفرد عبئا مهما له دلالته وآثاره الكبرى وهو «عبء الحكم». أي أن الفرد في هذه الدولة مطالب باتخاذ قرارات وإصدار أحكام لها علاقة بالمجال العام، تتفاوت من التصويت لمرشحي الانتخابات مرورا بالتصويت على القوانين الكبرى والتعديلات الدستورية وصولا إلى المشاركة الاجتماعية والسياسية بكل أشكالها. هذا العبء يتطلب إذن مجالا عاما وخاصا يجعل من القيام بهذه المهمة ممكنا. يقول رولز في كتابه الليبرالية السياسية «الديمقراطية التداولية تدرك أنه دون تعليم منتشر يعنى بالمبادئ الأساسية للحكومة الديمقراطية الدستورية، وكذلك دون مجتمع واع بالمشكلات الضاغطة، فإن القرارات السياسية والاجتماعية الجوهرية لا يمكن اتخاذها» (ص449). هذا يجعل من هذه الدولة بالضرورة دولة تداولية فكرتها الحاسمة تكمن في التداولية ذاتها.
يذكر رولز ثلاثة عوامل جوهرية للديمقراطية التداولية (الليبرالية السياسية، ص 448). أولا فكرة العقل العام، ثانيا: الإطار العام للمؤسسات الديمقراطية الدستورية التي تحدد ظروف وشروط مجالات التداول التشريعية. ثالثا: المعرفة والرغبة من طرف المواطنين بشكل عام لمتابعة العقل العام وإدراك أهدافه. العقل العمومي فكرة مثيرة لدى رولز، فهي حالة خاصة من التداول الديمقراطي وفق ظروف معينة. أهم هذه الظروف المؤسسة لهذا التداول هو حقيقية التعدد والاختلاف في المجتمع بالإضافة إلى حقيقة أن التفكير في هذا المجال هو تفكير للجميع وليس تفكيرا للذات. بمعنى أن التداول في المجال العام محكوم بأن نتائج هذا التداول متعلقة بالجميع مما يجعل الفرد يأخذ بعين الاعتبار مواقف وآراء شركائه في المجال العام. هذه المهمة تجعل من الضروري على الفرد القيام بعملية فكرية واجتماعية معقدة. وهي أن عليه إدراك حدود وصلاحية التفكير العمومي فيما يتعلق بحريات وخصوصيات الناس. بمعنى أن على كل فرد أن يدرك أنه التفكير العمومي لا يسعى لصياغة قوانين تحدد للناس مخططات حياتهم، فهذه المهمة يتولاها الناس بأنفسهم. العقل العمومي محكوم بحريات وحقوق مصونة لجميع الناس بالتساوي. هذه المهمة تتطلب عند الفرد ما يسميه رولز حس العدالة. أي وعي الفرد بأنه كما أنه يمتلك القدرة والحق في اختيار مفهومه الخاص للحياة الخيرة والجيدة، فإن الآخرين أيضا يملكون هذا الحق وتلك القدرة. هذا يجعل من الضروري أن لا ينفي الخطاب العمومي هذه المعاني الجوهرية. هذا يتطلب من الأفراد الوعي بأننا غالبا ننطلق في أحكامنا من مذاهب شمولية دينية أو فلسفية تعطينا معنى وتفسيرا للكون والحياة والإنسان، ولكننا نعلم في الوقت ذاته أن الآخرين أيضا لديهم مذاهبهم الشمولية التي تعطيهم معاني للكون والحياة والإنسان. حالة الاختلاف هذه تتطلب من كل فرد تقديم رأيه للآخرين دون أن يترتب بالضرورة على موافقتهم له التخلي عن مرجعياتهم الشاملة والدخول في مرجعيته الخاصة. بمعنى أن المواطن المسيحي في المجال العام يفترض أن لا يجعل من مداولاته مع شركائه في الوطن تشترط عليهم الدخول في المسيحية ليكون رأيه معقولا، رأي من هذا القبيل: «أريد منع الإجهاض لأن المسيح أمرني بذلك». هذا المبرر الذي يقدمه هذا المواطن لا يحمل معنى كافيا لمواطن آخر لا يؤمن بالمسيح. المواطن المسيحي مطالب بتقديم محاججة قابلة للتداول من أفراد يختلفون معه في المرجعية. المسيحي أو الماركسي لا بد أن يدرك أنه شريك لغير مسيحيين وغير ماركسيين وأنه لا يتميز عنهم في الحقوق والواجبات.
العقل العام أو التداول العام «كامل» كما يرى رولز. بمعنى أنه قادر على التعامل مع كل القضايا العمومية. هذا مبدأ جوهري في الديمقراطية وهو أن الشعب قادر على حل مشكلاته. لا توجد هنا مساحة لفرض أي منطق متعال، بدعوى قصور في قدرة الناس على إدارة شؤون حياتهم العامة. الحل الوحيد أمام الناس في هذا الظرف هو المزيد من التداول والحوار والجدل. في الأخير لن يأتيهم أحد بالجواب النهائي من خارجهم. هذه الفكرة تعني أن يثق الناس، ليس فقط في قدرتهم الذاتية على التفكير والتدبير، بل أيضا في قدرة الآخرين على القيام بالمهمة ذاتها. هذه الثقة تتطلب من الفرد صياغة محاججاته العمومية بناء على احترام وإدراك لقدرة الآخرين على فحصها، وتعديلها، وقبولها أو رفضها.
هذا التداول العمومي مرتبط جدا عند رولز بتطوير إمكانات وقدرات مهمة عند الأفراد. أهم هذه القدرات هي مهارة التعقل. أي أن التداول العمومي عن الأفراد ينمي عندهم القدرة على وزن الأدلة والبراهين والمحاججات والتعامل معها نقديا. هذا مرتبط ليس فقط بالتعليم والجامعات ومراكز الأبحاث، بل حتى بوسائل الإعلام والتعبير في المجتمع. توفر المعلومات للجميع كما توفر الحماية للجميع في المشاركة والتعبير والحوار والتداول عبر كل الوسائل هي في الأخير سمات جوهرية للديمقراطية التداولية كما يدعو لها رولز.
في الأخير من المهم القول إن هذا الفضاء العام للتداول يتطلب توفر ثلاثة شروط أساسية: أولا ضمان الحقوق والحريات والفرص الأساسية للمواطنين الأحرار المتساوين. ثانيا: أن تعطى تلك الحقوق والحريات والفرص الأولوية على القيم الاجتماعية والسياسية. بمعنى أن يقدم الحق على الخير. مثلا (حق) الفرد في التعبير بما يتضمن نقد المسيحية له الأولوية على ما قد يعتقد الغالبية أنه من (الخير) عدم نقد المسيحية. الثالث: أن توفر المؤسسات العامة للأفراد الشروط الضرورية لجعل من مشاركاتهم العمومية مؤثرة وفاعلة. هذا الشرط الثالث يعني التزام المؤسسات العامة بتوفير دعم مادي للحملات العمومية العاجزة عن توفير دعم ذاتي، كما يشمل الالتزام بتوفير تعليم عام للجميع يهيئهم للمشاركة العمومية، كما يشمل أيضا توفير شرط صحي يجعل من هذه المشاركة ممكنة وفاعلة أيضا.
جون رولز والديمقراطية التداولية
حدد ثلاثة شروط لتحقيقها في المجتمعات
جون رولز والديمقراطية التداولية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة